قناع بلون السماء.. أضداد متمازجة وأحكام مُعلَّقة

(ثقافات)

قناع بلون السماء.. أضداد متمازجة وأحكام مُعلَّقة

سامر حيدر المجالي

على غير ما يُظَنُّ لأول وهلة، كان الحاضر الفلسطيني هو الانشغال الحقيقي لباسم خندقجي في روايته “قناع بلون السماء” الفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية للعام 2024، أما التاريخ الذي تمثله قضية مريم المجدلية فهو اتكاء لم يكن مؤثرًا في بنيان الرواية وفكرتها المركزية عن محاولات طمس الهوية الفلسطينية من قِبل الإسرائيليين. وكان بطل الرواية وهو يخاطب القارئ من الحاضر، متصالحًا مع ذاك الامتزاج القدري الوجودي بين الجانبين، قبل أن يعود ويتمسك بهويته دون أن ينفي الآثار العميقة التي تركها المحتلُّ فيها..

تدور أحداث الرواية خلال زمن قصير لم يتجاوز اثنين وعشرين يومًا؛ هي الأيام الفاصلة بين التسجيل الصوتي الأول لبطل الرواية؛ “نور”، والتسجيل السابع والعشرين له الذي سبق ختام الرواية بصفحات قليلة.

وتكمن أهمية هذا الزمن الروائي في أنه زمن واقعي يدوّنه الكاتب باليوم والشهر والسنة في التسجيلات جميعها، ويعضده بين حين وآخر بأحداث حقيقية جرت خلال شهري نيسان وأيار من العام 2021، إبّان المحاولات الإسرائيلية لتهجير فلسطينيين من حي الشيخ جراح في القدس، وإحلال عائلات يهودية مكانهم.

هذا الصراع في الشيخ جراح، الذي هو في حقيقته حلقة تقع ضمن سلسلة صراع طويل الأجل ما زال مشتعلًا منذ العام 1948 وربما منذ زمن أبكر بكثير، شكَّل خلفية للموضوع الرئيسي؛ أي رغبة البطل في تفنيد الروايات التاريخية الإسرائيلية الساعية إلى طمس الهوية العربية في فلسطين واستبدال الواقع القائم بها. وطُرحت قضية مريم المجدلية بوصفها إحدى تجليات هذا الطمس التاريخي، وذلك عبر مسارين اثنين هما: هل تزوجت المسيح وأنجبت منه كما يزعم دان براون في “شيفرة دافنشي”؟ أم أنها مارست دورًا تنويريًّا بعد رحيل المسيح وتركت إنجيلًا يؤكد أن المعركة الفاصلة بين المسيح و”قوى الشر والشيطان” -بحسب وصف الرواية- ستقع في شمال فلسطين قريبا من مكان اسمه تل مجدو في مرج ابن عامر؟

تقود هذه الأسئلة البطل إلى الالتحاق ببعثة أثرية تعمل قريبًا من المكان الذي تُركت فيه آثار المجدلية، منتحلًا صفة شخص إسرائيلي اسمه “أور” بعد أن عثر بالصدفة على هويته في جيب معطف مستعمل اشتراه من أحد المتاجر في القدس. ولعل هذا الانتحال الذي أدى إلى تقمص نور لشخصية “أور” كان محور الحبكة الرئيسية، وشكَّل أهم صراعات الشخصية التي تشظَّت وباتت في بعض مراحلها تائهة بين نور الشُّهدي الفلسطيني اللاجئ، وأور شابيرا المستوطن الإشكنازي الذي يظهر كل مرة عبر أحلام نور اليقِظة، لتنتهي الأحداث بعودة نور إلى فلسطينيته التي باتت خاضعة لأكثر من تأويل وقراءة.

وهنا يبرز السؤال المزمن دائما على المستوى الإنساني والفلسفي، والمتعلق بعلاقة الذات بالآخر، أين يلتقيان وأين يفترقان، وهو ما تمثله علاقة نور بـ”أور” في هذه الرواية..

الذات والآخر في الرواية

لعل ما يُحسب لخندقجي جرأته على الخوض في تلك المساحة المليئة بالألغام التي شكلها اللقاء القدري بين الفلسطيني واليهودي، تلك مساحة يسكنها النفي والرفض في أغلب الأحيان؛ هذا ما يجابه به “أور” بطلَ الرواية نور.. الصهيوني يريد أن يلغي الفلسطيني بالكامل؛ إلا أن هذا الأخير يبدو أعمق وأقدر على النظر إلى تلك المساحة من ناحية إنسانية؛ فيصف العلاقة بينهما بأن أحدهما منبثق من الآخر، بل هو مرآته وقدره المحتوم.. ويخاطب غريمه في أحد المقاطع قائلًا:

“أنا ولدتُ منك.. من رحم صهيونيتك ومن النكبة التي ألحقتَها أنت بي. وبالتالي أنا جزء منك وأنت جزء مني”..

الآخر هنا لم يعد جحيمًا كما أراد سارتر، لكنه مقوِّم من مقومات الذات؛ فالهوية والإنية والحاضر ما عادت جميعها تُفهَم بمعزل عن وجود هذا الآخر وتأثيره في الواقع والمصير.

بالمقابل، كانت الذات هي السبب الذي يقود إلى الجحيم.. تلخّص قصة الذي حصل مع والد نور هذه الفكرة؛ فالرجل الذي ناضل وسُجن من أجل قضيته قوبل بالنكران. لقد تخلى عنه رفاق النضال أثناء سجنه فخرج إلى المجهول، وقرر اعتزال النضال السياسي في الوقت الذي بدأ فيه أولئك الرفاق قطف ثمار النضال مالًا ونفوذًا وامتيازات.. أصيب والد نور بحالة توحد، عزف عن الدنيا وتسامى عن مباهجها وانزوى بعيدًا؛ لذلك صبَّ الروائي شديد غضبه في غير مقطع من الرواية على مدينة رام الله؛ معقل أولئك الرفاق، التي تمثل -برأيه- قناعًا يطمس معالم الحقيقة ويحيل الأرض إلى مكان يخلو من الروح، رام الله هي مدينة “الالتباس والارتكاب اليومي لكل الحماقات والخطايا”، مدينة بلا ذكريات ولا ملامح؛ إنها محض حجارة وإسمنت وضياع.

رمزية القناع

“أنا لا أرتدي قناعًا، أنا أرتدي مسخًا.. بل أنا هو المسخ الذي وُلد من رحم النكبة والأزقة والحيرة والغربة، والصمت: صمت أبي وموت أمي ومطاردتي في أزقة المخيم بلقب السكناجي … أنا المسخ يا صديقي فهل من رحم تلدني مرة أخرى إنسانًا؟ هل من سماء أتجلى بها نورا ونارا”.

عند هذا المقطع في الصفحات الأخيرة من الرواية تبرز إشكالية القناع؛ أو القبول والرفض من وجهة نظر الفلسطيني لما أحلَّ به الطرف الآخر.. لعل ثمة شروطًا تعين على الاستمرار؛ على ألّا يجعل القبول من صاحبه مسخًا.. لقد أحال القناعُ طوال الصفحات السابقة، بل منذ العنوان، إلى سماء مشتقة من ألوان العلم الإسرائيلي؛ أي الأبيض والأزرق؛ وهي إحالة خطيرة تؤكد فكرة امتزاج الأنا والآخر، غير أن الكاتب يعود ليعلن رفضه؛ ففي الحين الذي يقرر فيه مبدأ المرآة الذي يجمع الفلسطيني بغريمه، يثور عليه، باحثا عن نفسه، لتبرز الفتاة الفلسطينية سماء إسماعيل وتنتشل نور من ضياعه، ناقلة الرمز إلى أفق آخر؛ أفق الذات التي لا تتخلى عن أصالتها. وتبدو رمزية “إسماعيل” واضحة ضمن سياق يعالج صراع أبناء إسماعيل وإسحق فوق رقعة الأرض التي اسمها فلسطين.

معالجات فنية

لاحقا لما سبق، تبدو المعالجات الفنية داخل الرواية بحاجة إلى مزيد من العمل؛ غير أن للكاتب عذره، آخذين بعين الاعتبار ظروف السجن، وصعوبة الكتابة، والخشية من مصادرة الرواية في أي وقت تقع فيه بين يدي السجان.. ومن تلك المعالجات:

الزمن: في زمن الرواية استرجاعات قليلة، غير أن الغالب عليه هو نمطيته التي جعلت منه زمنًا خطيًّا بالمفهوم الأرسطي. يلاحظ هنا أن زمن الرواية كان ذا إيقاع ثابت، لكن شابته في بعض المقاطع، لا سيما الفصل الأول من الرواية تدفقات لحظية سريعة مثلت حياة نور اليومية في المخيم، وهو ملمح روائي جميل يخرج القارئ من نمطية سير الأحداث، لكن منذ ظهور “أور” عاد الزمن واستقر على وتيرته الثابتة.

اللغة: من الواضح أن الكاتب ذو قدرات لغوية ممتازة، لكنه استخدمها بمقدار، فآثر أن يمضي على نحو منضبط يسير نحو الفكرة ويلامسها بالقدر المطلوب.. هذا لم يمنع أنه حلَّق بلغته في عدد من المواضع الوجدانية، مثل وصفه للقدس وتصويره للأمكنة بشكل عام، أو وقوفه عند قبر أمه قائلا:

“فجرا.. يقودها العشق إليه.. العطر.. عطرها يحلق بها.. ذاك العطر المنبعث منه.. من ركنه القصي يقودها إليه.. يدلّها.. فجرًا.. على وجعها تمشي المجدلية.. تخفق، تبكي. وفي العتمة الشحيحة قبر بلا حجر.. لا أحد بالقبر.. ثم تنحني متكئة على الوعد.. تبكي.. أنين مجروح يخمد حين تلمح نورًا يحيط بها، فتجفل ملتفتة نحو مصدر النور، فإذا بحبيبها بكامل وعده ونوره يقف منتصبا، يدنو منها، ينحني عليها، يمسك شعرها، يمسح به دمعها، فتسأله هي بهمس: أهو أنت؟ أهو أنت يا أناي؟”.

الشخصيات: قدم خندقجي شخصية نور بشكل دقيق، ونجح في نقل عالمها الداخلي بخلجاته ومونولوجاته للقارئ، كذلك قُدمت شخصية الأب بتكثيف بارع يحسب للكاتب، بيد أن ثمة شخصيات أخرى كانت بحاجة إلى مزيد من العناية، كشخصية الشيخ مرسي التي بدت مهلهلة ومتناقضة ولم ينجح الكاتب عبرها في تقديم أفكار صوفية عرفانية تليق بمستوى القضية المطروحة. كذلك الأمر في ما يتعلق بشخصية سماء إسماعيل؛ الفتاة التي كانت العنصر الأبرز في خاتمة الرواية، إذ بدا حضورها باردًا، واكتفى خندقجي بأن نظر إليها من الخارج، وكان يمكن لها ولسيرتها أن تثري جو الرواية بمزيد من العمق، آخذين بعين الاعتبار صراع الهوية المرير الذي يعاني منه عرب الداخل، بما يفوق بأضعاف مضاعفة ما يواجه سكان الضفة والقطاع في هذا الجانب.

يضاف إلى هؤلاء شخصيتا بريان وديفيد؛ الأستاذين المشرفين على مشروع التنقيب؛ إذ دارت حولهما شكوك بأنهما جاءا إلى المشروع لسبب غامض، وأنهما يبحثان عن شيء آخر غير الذي أعلن عنه المشروع. ثم تأكد نور من هذه الشكوك حين تنصت إلى حوار دار بينهما، غير أن الرواية لم تكشف للقارئ ملابسات الشخصين، ولم تغلق بابًا كانت قد فتحته أمامه..

يبقى السؤال الأبرز، ما الذي قدمته فكرة مريم المجدلية للرواية بشكل عام بعد أن انحصر وجودها بسيناريوهات روائية سعى نور إلى اختيار أفضلها؟ لقد اعتمد دان براون في شيفرة دافنشي على سيناريو مفترض، فجاء الروائي الفلسطيني واقتفى أثره، ثم ترك الباب مواربًا وخلَّف وراءه حلمًا رآه في الكهف المجدلي، حلمًا لا يقدم ولا يؤخر في أصل الموضوع شيئا.

ختاما، إن الفكرة المركزية في الرواية هي امتزاج الأنا والآخر وأثر الخصمين في بعضهما بعضًا، وهو واقع حقيقي متى نُظر إليه من مستوى وجودي يتجاوز التفاصيل الصغيرة للصراع. كانت تلك وجهة نظر نور في مجمل تسجيلاته التي حرص في نهاية كل واحد منها على مخاطبة صديقه مراد، المعتقل في السجون الإسرائيلية، الذي لامه كثيرا وحاول إعادته دائما إلى تلك التفاصيل..

ولعلنا بذلك نخوض بحر ثنائية أخرى فيها من التمازج شيء كثير؛ مراد الأسير المناضل ونور المثقف المنفتح، بعد أن عشنا ثنائية نور و”أور”، بأحكام بقيت معلقة في الحالتين..

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *