(ثقافات)
مرآة الغريبة: تجليّات تلقّي شعر عامر أبي مُحارب
د. محمد بوزيّان الحسنيّ / المغرب
-
إطار المرآة:
مرّة قال سماحة الإمام مولانا الهادي آدم (1927-2006م) مؤكّدًا: “والشعرُ لا يفنى وفي الديرِ راهبُ…”، وإني أشتهي بعد تأمُّلِ هذا القول العالي، أنّ أمدَّ البصرَ إلى الأبيات الأبِيَّاتِ التي خرجت من كيس الشاعر عامر أبي محارب الذي انقطع في محاريب القوافي، وصَنَعَ صنيع سويدٍ بن كراعَ العُكليِّ، حتى استوى شاعرًا تامَّ الرؤية والأداة :فهو شاعر المعاني الحرّة، تنقاد له العتاق الشوارد العصيّات منها، وهي على غيره متمنّعة، فكثيرٌ من المعاني التي طرقها بهذه الطريقة الآسرة قلَّ مَنْ تولّج في شعابها، وهو شاعر المباني العالية، التي تأوي إلى المستقيم من أركان البيان العربيّ. وتنتخب هذه القراءة ثلاث قصائدَ لتأكيد هذا الزعم الآنف وهي: (أَمُعَذّبي)، و(يا أمَّ عمرو)، و(مُرّي على ذكرايَ).
-
زجاج المرآة:
لقد أسلَمَنا النظرُ في مدوّنة أبي محارب الشعريّة، إلى استنزال بعض لطائف الرؤية، ودقائق الأداة، عبر محاورَ ثلاثةٍ في ثلاثٍ من القصائد، وذلك على الصورة الآتية:
-
ثنائيّات الوصل والبين:
أَمُعَذّبي هلَّا رحِمْـ |
تَ مؤرَّقًا أضناهُ حُبُّكْ |
رهنُ الإشارةِ في هوا |
كَ و كلُّ ما يَهواهُ قرْبُكْ |
قضَّى اللياليَ سَاهِرًا |
مُتحيّرًا إذ لانَ جَنْبُكْ |
أبيات هذه القصيدة عدّتها إثنا عشر بيتًا … ومن وراء هذا العدد تختبئ دلالة هي أن الشاعر استدارت مكابداته لتحور حولًا كريتا … ولعلّ الشاعر، يتمثّل وصاة لَبيد بني عامر، فهو القائل :
إلى الحَوْلِ ثُمَّ اسمُ السلامِ عليكما |
ومَنْ يبكِ حَوْلًا كاملًا فقد اعتذرْ |
الأبيات تسري فيها روح من جماليّات الثنائية الضديّة، فمن الثنائيّات التي تساكنت فيها: (العذاب / الرحمة – القرب / البعد – الجفاء / الوصل- العنف / اللين – الذنب / الصفح – الجزاء / العقاب) .
إنّها ثنائيّات ضديّة تلاحقت لتقفَنا جميعًا على درجة توتّر الأنساق الوجدانيّة المضمرة لدى الشاعر أبي محارب، وأريد أن أهتدي فيما أنا فيه بمفهوم مُحدّد دقيق لوظيفة الثنائيّات الضديّة، سجّلته الدكتورة سمر الديوب، فقالت: “ووفرة الثنائيات في النص الأدبيّ دليلُ انسجام إيقاعاته، وانفتاحه على أكثر من محور”. هذا، وفي الأداة الفنيّة العروضيّة لديه ما يعاضد تلك الرؤية أيضًا، فتأمّلوا ما يأتي :
– إن الشاعر وفِّق توفيقًا عاليًا في وَشْمِ جسد القصيدة بفنيّة التدوير العروضيّ، ووزّعه توزيعا جماليًّا بين الأبيات : 1 – 2 – 5 – 8 – 12 …وقد دفع الشاعر بهذا التوظيف إلى منتهاه حينما حققه في كلمات هي :الفعل: رحمت، والمركبات الإضافيّة: هواك/ سواك/ هواك، والاسم: الوشاة، فهو يقول:
مَا هامَ في أحدٍ سِوا |
كَ إلى مَتَى يجفوهُ قلبُكْ؟ |
وليس باب التعليق هنا بأضيق، ولذلك يقال: إن التدوير يرقى بدلالة التنائي والهجر إلى مستويات عليا: فالرحمة من المحبوب تناءت واتسعت بينها وبين المحب مساحة الخُلْف، حتى استحالت زاويةً حديدةَ الانفراج … وقِسْ على هذا التوجيه سائر ما يلقاك من المركبات الإضافية : هواك / سواك … ولا تنس أن تتلبث عند تكرار كلمة : هواك ، ففيها بلاغة عالية تشي بعظم المطلوب .
وإذا كانت البينونة قد آضت غالبةً، بما يعاضدها من عوامل وفواعل دافعة، فإن الشاعر، عاد لاستدعاء التدوير في خاتمة القصيدة في كلمة : الوشاة ، وكأني به يسقي الوشاة ، من الكأس التي سقوه منها، حينما جرّعوه مرارة البين …، إذ يقول:
واتْرُكَّ مِنْ قولِ الوشا |
ةِ فإنَّه واللهِ صبُّكْ |
وأزعم أنّ الشاعر أبا محارب قد كان أبلغ في نكايته بهم، حينما آثر استخدام جمع التكسير (الوشاة)، ثم زاد التدوير ليكثِّف دلالة الدعاء بالكسر على الوشاة … فهل يرتابُ مرتابٌ بعد بيان هذه المعالم الجماليّة وتبيُّنها، أنّنا أمام شاعر خَبِرَ طريق الشعر، وعَرَفَ أعلام طريق الشعر وصُواهُ ؟!!
ولعلّ من يفحص توارد الحروف لدى الشاعر، لن تخطئ عينه تردّد حرف الهاء في القصيدة ، فقد نثله الشاعر ونثره أربعًا وعشرين مرّة / (24) عدًّا: (هلا – أضناه – رهن – هواك – يهواه – ساهرًا – أجفانه -هام – يجفوه – تعنيفه – والله – فارقته – هجرته – فأقصره – هي – هواك – بروحه – الشهد – يحمله – الهوى – سلامه – إليه – فإنه – الله )، وغيرُ خافٍ على من يعاني أصوات العربيّة أنّ الهاء من الحروف الحَلْقيّة المهموسة الجارية مع النفَس، ولذلك يتعاظم الزعم أنّنا أمام ذات شاعرة مجهدة ملتهبة الشعور، إلى المدى الذي كان الحلق أداتها الوحيدة التي تصرف بها ثقل الإحساس بالزمن الموّار في الجوانيّة … ولا يغيبنَّ عن البال -لحظةً واحدةً- أنّ العدد (24) هو ضعف العدد (12)، فتأمّلوا هذا التوزيع الحسابي العدديّ، فتحته هندسة تشي بجمالية العدد في القصيدة !!!ألم يقرّر أرسطو (أنّ المأساة تبذل أقصى جهدها لتنحصر في دورة الشمس، أو على الأقلّ لتتجاوز قليلا هذه الحدود. ماذا نفهم من ذلك؟ أربعًا وعشرين ساعة متتابعة؟ أم نهارًا من اثنتي عشرة ساعة؟).
وأختمُ -وفي النفس حاجاتٌ عن القصيدة وعلوّ جمالها- بمراقبة براعة استهلال الشاعر بالهمزة، وقد صرفها الشاعر إلى النداء، والهمزة في أصل وضعها يُنادى بها القريب مسافةً وحكمًا، بيد أن المحبوب تناءى وأمعن في الهجر، فلذلك قوي الزعم أن الشاعر نزل البعيد مكان القريب، أملًا في دنوّه واقترابه … فاعجب كيف أَشْرَبَ الشاعرُ الهمزةَ دلالات الأمل الذي يتبَعَّقُ من فيض الألم !وللقارئ أن يراقب إيقاع القوافي المقيّدة، ليقف على أسرار بلاغته ودلائل إعجازه، فهي تنبئ بما يجيش به صدر الشاعر من التباريح .
-
صلاةٌ في هيكل الحب!
كتب الناس في حروف المعاني تواليف نفيسةً، ذلك بأنّهم أدركوا وجوه الاحتياج والانتفاع بهذه الحروف، بل إنّ منهم من جعل النظر في حروف المعاني همًّا ومعاناةً، فهذا الإمام عبدالله الكرديُّ البيتوشيُّ (1130 أو 1140- 1211ه) يَسِمُ كتابه فيها بوسمٍ دالٍّ هو: (كفايةُ الـمُعاني في حروفِ الـمَعاني)، فتأمّلوا…
وأشتهي أن أنعت قصيدة “مُرّي على ذكرايَ” بنعتٍ هو: صلاةٌ في هيكل الحب، فمن يفتش في القصيدة تفتيش الشحيح ضاع في الترب خاتمه ، ستستوقفه – قطعًا – توزيعية الشاعر لحروف المعاني في القصيدة توزيعًا يشي بدلالات عميقة، ولعل من الحسن إيراد طرف منها: (مُرّي على ذكرايَ ينسى قلبي المكلومُ آلامي ومُرّي/ وتملَّكي يا أنتِ يا امرأةً/ ما شِئْتِ من أمري/مُرّي على الكلماتِ مثلَ فراشةٍ /كالطّيفِ/مثلَ غَمَامةٍ غَمْرِ!)، فنحن واجدون أنواعًا من الحروف منها :(الواو)، وقد بسطت سلطانها على القصيدة بشكل يشدنا إليه شدًّا، وقد حصر لها أرباب البيان وجهابذة الألفاظ معاني كثيرة منها :أن تكون عاطفة، وأن تكون ابتدائيّة، وأن تكون حاليّة، وأن تفيد القسم، وأن تكون بمعنى مع .والشاعر – فيما أزعم – صرفها إلى معنيين بارزين هما : العطف والقسم ، ويهمنا هنا العطف :
العطف المفيد للترتيب، إذا وجهناها توجيها كوفيًّا، ولعلّها ترددت بهذا المعنى إثنتي عشرة مرة …بحيث يعطف بها الشاعر الفعل على أخيه، أو يعطف بها الاسم على صنوه …ولما كانت الصيغة الأولى أغلب ، قام الدليل على أن جوانية الشاعر كانت تمور بالمشاعر الحرى التي تروم تأسيس الفعل الذي يريد له الشاعر أن يتجه إلى التجديد في حركة الحال والمآل معا ، وليست تعوزنا الشواهد من القصيدة العصماء هذه ، فتأملوا الأفعال وقد نثل الشاعر بينها حرف الواو توزيعا جماليا هندسيًّا ساحرًا رطيبًا أخاذًّا: (ومري / وتربعي / وتملّكي / وترفقي/ وتجبري / وتعتقي / وترفقي)، وراقبوا جميعا كيف ارتقى الشاعر بهذه الهندسة التوزيعية إلى أسنى مراتبها حينما اتكأ على عمود التوازي، فكلّ الحروف تستوي بعدها أفعال حركيّة تفيد الأمر في ظاهر معناها، إلا أنها في باطن سِرِّها تنصرف إلى التوسُّل والاستعطاف بصورة تشي أنّ الشاعر كان بين الحين والحين يراوده تردُّدٌ، فلا يلبث أن يغالبه الشوق الجارف، فيلوي بأعناق المعاني إلى دائرة الاستعطاف ثانية، ولأجل ذلك نراقب الأفعال في ديناميتها الدلالية : (مري / تربعي / تجبري /تعتقي / ترفقي).
أزعم أنه لم يعد هناك شك أن التردد يشي به الفعل : تجبري .وأزعم أن التوسل والاستعطاف تؤشر عليهما الأفعال : مري / تربعي / تملكي / ترفقي / تعتقي . ولك أيها القارئ المتلقي لقصيدة الشاعر أبي محارب ، أن توجه الدلالة توجيها آخر مغايرا ، فقد يتجه المعنى إلى أن الشاعر وهو يرسل فعل الأمر (تجبري) يكون قد بلغ الذروة في استعطافاته ، بحيث أباح للعذراء أن تعيث بمملكته وجوانيته ، إن كان في ذلك ما يمد للوصال حبلا ، ويجعل السبل إليه ذللا … وبذلك تكون أفعال الأمر كلها تتنامى وتتجه صعدا للدلالة على معنى التفاني في عقيدة الحب …
وهنا أؤسِّس رأيًا: هذه القصيدة ليست سهلةً كما يبدو لأوّل وهلة، إنها تتأبى على المراودة، وتتمنَّعُ معانيها، بصورة تشي بأمرين :إنها من ذَوْبِ الروح حقًّا، فقد أفنى فيها الشاعر ضِرامًا من روحه، وهي كذلك تنبئ أنّ ما أنحبس زمنًا، من شعر في صدر الشاعر، تكاثف حتى انبجس وتدفَّق كالشلال الهادر، في لحظة واحدة، عند أوّل فُرصةٍ انقدح فيها زناد الشعر، وعاوده قرين الشعر .
-
في خُلْوة عبدالله الطيّب:
لأبو مُحارب قصيدةٌ مطلِعُها:
يا أمّ عمروٍ إن قلبي معبدُ |
“وأنا الفتى والعبقريُّ الأوحدُ” |
مالي أراكِ العهدَ قد نُسيّته |
وتركتِ قلبًا في هواك يعمّدُ |
يقول نورثروب فراي في كتابه الشهير (نظريّة الأساطير في النقد الأدبيّ): “إننا نبدأ دراستنا بالأنماط الأوليّة، ثم مع عالم الأسطورة ندرس العالم الأدبيّ المجرد”. والشاعر أبو محارب حينما اختتم صدر مطلع القصيدة بلفظ (المعبد)، فهو يحيل من طرف خفي على نمط أوليّ، ذلك بأن لفظ المعبد يحيل بقوة على دلالة القداسة. تلكم القداسة التي لزمت الشعر العربيّ حتى آخر العهد الجاهليّ، ولسنا نعدم ما يعاضدُ هذا التوجيه، فقد انتهى البروف الدكتور البهبيتيُّ إلى نتيجة مدهشة حقًّا، حينما قال في كتابه (الشعر العربيّ في محيطه التاريخيّ القديم): إنّ الشعر العربيّ “اتخذ أوّل أشكاله على صورة أناشيد، يتغنّى بها المصلّون في صلاتهم بالمعبد”. واقرأ شيئًا قريبًا من هذا عن تعالق الشعر بالدين لدى بيير دو رونسارPierre De Ronsard / (1524-1585)، الذي رأى “أنّ الشعر هو في الأصل عنصر من عناصر الدين”.
وفي ضوء هذه المعطيات الدقيقة، ندفع بالقضيّة إلى منتهاها، لنؤسس توجيها نزعم له أصوبيّة، وهو: إنّه إذا كان الشاعر قد فتح قصيدته باستدعاء بيت البروف عبد الله الطيّب في قصيدته (الخميس الزاحف) ، ونصُّه هو :
يا أمَّ عمروٍ إنّ داري مسجدُ |
وأنا الفتى والعبقريُّ الأوحدُ |
فإنّ الشاعر أبا محارب قد تسامى أن يكون تضمينه البيت تضمينًا بسيطًا، فحقَّقَ تساميًا بجودة استثماره لاستراتيجية التناص، حينما آثر توظيف كلمة (معبد)، بديلًا لكلمة (مسجد). فحقَّقَ تعاليًا إلى النمط الأول بمفهوم نورثروب فراي .
وفي كلمة: إنّ الشاعر أبا محارب أجاد استثمار جدليّة التجاور والتجاوز، استثمارًا جعله يحكم هيمنته على المعنى إحكامًا يشي بثقافة شعريّة عالية.
-
مقبض المرآة: