العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات)

العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي

موسى أبو رياش

 

المتعة والتشويق والإثارة والجرعة المعرفية والتقنيات الفنية مطلوبة في الرواية، ومن أسباب نجاحها وزيادة مقروئيتها، لكنَّ الرواية المطلوبة المؤثرة التي تساهم في زيادة الوعي، وإحداث التغيير، هي الرواية التي تثير الأسئلة، وتحث على البحث، وتستدعي المراجعات، وإعادة النظر، وتدعو للتأمل والتفكير، والقارئ الذكي لا يقنع بإجابات جاهزة، بل تكمن متعته في أسئلة الرواية، وسعيه للإجابة عنها. وقد تكون رواية «المهندس» للروائي الأردني سامر حيدر المجالي قد نجحت في ذلك، خاصة في ما أثارته من أسئلة وتساؤلات من خلايا طرحها للعديد من القضايا الفكرية والفلسفية والاجتماعية والدينية والاقتصادية وغيرها.
رواية «المهندس» هي الثانية للمجالي بعد روايته «المؤابي» وصدرت بداية هذا العام في عمّان، عن الآن ناشرون، في 191 صفحة. وفيما تناولت روايته الأولى جانبا من تاريخ الأردن، خاصة مدينة الكرك وما حولها بدايات القرن العشرين، فقد تناولت روايته الثانية جانبا من حاضر عمّان ودبي والقاهرة، نهايات القرن العشرين وبدايات الحادي والعشرين. وتتوقف هذه المقالة عند بعض المحطات المهمة في الرواية.

العتبات

تألفت الرواية من عشرة فصول معنونة، وبعض الفصول تضمنت عدة مقاطع، واقتصرت على صوت واحد هو صوت المهندس المدني فراس، الذي روى أحداث الرواية من وجه نظره ورؤيته الخاصة، واعتمد في فصلها الأخير على كتابة «اليوميات» في حيلة إبداعية ذكية، اختصرت الكثير، وأخرجت القارئ إلى فضاء مختلف، ووظفت الرواية الحوار والمونولوج والاسترجاع والتقطيع الزمني والمفارقة، واتسع فضاؤها المكاني، فشمل عمان بمناطقها المختلفة، والقاهرة وبني سويف، ودبي، وميلانو.
اللافت في هذه الرواية، أنّ الكاتب حاول التخفف من العتبات قدر المستطاع؛ فجاء الغلاف بسيطا بلون أصفر دون لوحات أو رسومات، عدا خط منحنٍ على يمين وأسفل الغلاف وأربع دوائر بيضاء صغيرة، وشعار دار النشر والتجنيس، وخلت الرواية من الإهداء، لكن الكاتب لم يستطع الإفلات من عنونة الفصول، وإيراد سيرة مختصرة له في نهاية الرواية، وكلمة الغلاف الخلفي. وهذا يطرح تساؤلا حول أهمية العتبات وضرورتها في الرواية. هناك عتبات لا بُدَّ منها، ولا يمكن تجاوزها بحال مثل الغلاف، أيًا كان شكله، وعنوان الرواية، واسم المؤلف، فهذه جزء أساسي في الرواية. وهناك عتبات يمكن الاستغناء عنها مثل: الإهداء، الشكر، الاقتباسات، عناوين الفصول، فهرس المحتويات، السيرة الذاتية، كلمة الغلاف الخلفي، الهوامش، وغيرها. وهذه الثانية، على الرغم من أنّه يمكن الاستغناء عنها، إلا إنّ وجودها يمنح الرواية قيمة مضافة، ويزيدها ألفة وحميمية، وتُجسّر المسافة بين الكاتب والقارئ، وبين النص والقارئ، وبالتالي فإنّ وجودها أفضل من عدمه، ويضيف ولا يضر، وأرى أنَّ قفز القارئ إلى النص فورا، دون عتبة تمهد له السبيل، أو على الأقل تأتي كترحيب به، ليس في مصلحة الرواية؛ فالعتبات، بشكل عام، تزيل الوحشة، وتمنح القارئ بعض المفاتيح للدخول في النص دون وجل، إلا إذا كان الكاتب يتقصد أن يُدخل قارئه مغامرة القراءة بمهاراته الخاصة، فهذا حقه بالطبع.
وثمة ملاحظة طريفة؛ لو أنّ عنوان الرواية علا اسم الكاتب على الغلاف لضُرب عصفوران بحجر واحد؛ فـ«المهندس» عنوان للرواية، وفي الآن نفسه صفة وظيفية للكاتب، باعتباره مهندسا مدنيا!

موضوعات جديدة

تناولت الرواية موضوعات وثيمات كثيرة متشابكة، منها عمان الماضي والحاضر، القاهرة وبني سويف، دبي، الإنشاءات ومشاكلها، التسويق، الاكتئاب، المسجد، شيوخ الفتنة، احتلال الكويت، الجامعة، المقاهي، لغة المصالح وتذبذب المواقف، لعبة الأسهم، الخلافات الزوجية، وغيرها. بعض هذه الثيمات جاءت جديدة في هذه الرواية، أو نادرة على أقل تقدير في الرواية العربية والأردنية على وجه الخصوص.
ذكرت الرواية مهنة «دقيق الحجر» التي أوشكت على الاختفاء في عمّان؛ لوجود آلات ميكانيكية تقوم بالعملية، وبالتالي اختفاء اللمسة والروح الإنسانية. وتربط بين شكل دقة الحجر وتعقيد الحياة «كلما تعقدت الحياة انعكس تعقيدها على الأبنية، الحجارة مثلا، بأشكالها وطريقة دقها، باتت أكثر تعقيدا، الحجر القديم كتل كبيرة ذات بروز واحد ينحدر من وسطها حتى أطرافها، كانوا يسمونه الطبزة، لكنه بات غير مرغوب فيه الآن، حلَّ مكانه المسمسم والمفجر ثم المطبة والعجمي، وتحولت الكتل إلى قشرة خارجية بتفاصيل وأشكال تصغر وتصغر منبئة بتحوّل أهل المدينة من النمط البسيط الساذج إلى النمط المعقد كثير التفاصيل، الذي يهتم بالشكل قبل الجوهر».
وتنتقد الرواية على لسان أحد شخوصها اختفاء البيوت ذات المساحات الواسعة لصالح شقق ضيقة وغرف كعلب الكبريت وتصاميم مضحكة، وتجار إسكان يستغلون جهل المستهلك. كما تحدثت الرواية عن بعض عمليات الإنشاء والبناء، وما تتطلبه من حسابات وكميات وتفصيلات دقيقة وتوفير البدائل وأزمنة مناسبة وتوازنات وانسجام كامل بين جميع العاملين من عمال وفنيين ومهندسين وغيرهم من فريق العمل.
وتطرقت الرواية لملامح من الفكر والرؤى الهندسية المنبثة في غير موضع فيها؛ فالقواعد الهندسية ترقى إلى مستوى القوانين التي تبعث على الطمأنينة والاستقرار، والملكة النقدية الكامنة في الهندسة «تمكن الإنسان من قبول الأشياء، أو رفضها بسبب منطقها المودع فيها» كما أنَّ المهندس الحقيقي يتمتع بحاسة هندسية، ولذا؛ «ليس من السهل أن تقنعه بفكرة غير متماسكة، وإذا احتكم فإنّه يحتكم للواقع فحسب، فالهندسة شيء صادق لا تغيره النوايا، ولا يأبه إلا بالحق والعدالة».
وتذكر الرواية مهارة ضرورية للمهندسين بشكل عام وهي القدرة «على الحديث مع الفئات جميعها؛ من مهندسين وعمال وفنيين وسائقين ومُلاك وجهات رسمية باللغة التي تناسب كل فئة» بالإضافة إلى قدرته على إدارة المشروع وربط الخيوط بمهارة واتزان وانسجام، وفق الخطط المرسومة وفي الوقت المناسب، والعمل تحت الضغط، والمحافظة على رباطة الجأش، وعدم فقدان السيطرة تحت أي ظرف من الظروف. وتؤكد الرواية أنَّ الهندسة تقوم على توازنات دقيقة بين «الجودة والتكلفة والمظهر العام والديمومة، ويدخل في معظم الأحيان عامل الوقت وسرعة التنفيذ، بذلك يتقدم أحد الاختيارات على الآخر، أو تتساوى كلها في الأهمية، حسب واقع الحال».
ولا يخفي المهندس فراس إعجابه وتأثره بالمهندس التركي سنان، الذي كانت له فلسفة خاصة في العمارة، وبصمة مميزة لم تزل قائمة إلى اليوم، والذي يُعدُّ أحد الباحثين الكبار عن الحقيقة، وكان شغوفا بالطبيعة، يتجول في الحقول والجبال، وتأسره مظاهر الطبيعة المدهشة، وواءم في أعماله العمرانية بين كينونة الإنسان المادية والروحية، وفي تعليقه على أعمال سنان وغيره من مشاهير المهندسين يقول الشيخ خالد: «العمارة إحدى وسائل حفظ الذاكرة، إذا محوتها محوت جزءا من عصرها وسمات أهله».
تناولت الرواية موضوع التسويق وما يتطلبه من مهارات، وقدرة على الإقناع، وسرعة إنجاز، والتسليم في الوقت المناسب، والأهم من ذلك كله شبكة العلاقات القوية التي تفتح الأبواب المغلقة، وتمهد الطريق، وتزيل العوائق، كما أشارت إلى لعبة الشركات والتلاعب بالأسهم؛ لضرب بعض الشركات التي تشكل تهديدا لشركات أخرى، وإخراجها من السوق، وقد تكون أحيانا لعبة من كبار مساهمي الشركة نفسها؛ لتحقيق مكاسب شخصية على حساب المساهمين الآخرين.
ومن الموضوعات اللافتة في الرواية، العلاقة القوية بين المهندس فراس والشيخ خالد، هذا الشيخ الذي يمتلك وعيا متقدما وأفقا واسعا وفهما عميقا للحياة دون تعقيد أو تطرف، وكان بمثابة المرشد المخلص لفراس، لكن تكالب عليه بعض شيوخ الفتنة، الذين لم يعجبهم نهجه وفكره وطريقة إدارته للمسجد، فأزاحوه، واستولوا على المسجد، في إشارة واضحة لاستبعاد أهل الصلاح والرشاد والتنوير لصالح أهل الأهواء والمصالح والتلاعب بالدين.
وبعد، فإنَّ «المهندس» للروائي الأردني سامر حيدر المجالي، رواية جميلة، صوبت أسهمها الإبداعية على كثير من الموضوعات والمشكلات التي تعاني منها المجتمعات المعاصرة، وفي كثير منها مشكلات مصنوعة بقصدية خبيثة، تأكيدا على الأنانية والنزعة الشريرة لدى البعض، وأنَّ الناس البسطاء لا مكان لهم بين هؤلاء الحيتان والأفاعي التي تتربص بكل نقي صادق مخلص، مشيرة إلى أنَّ الفساد يضرب عميقا في كل مناحي الحياة، وأنَّ الثقافة الاستهلاكية والمظاهر سائدة بشكل مخيف، وتهدد استقرار الأسر وتماسكها وقدرتها على مواجهة الحياة.

شاهد أيضاً

لا شيءَ يُشبه فكرَتَه

 (ثقافات)  نصّان  مرزوق الحلبي   1. لا شيءَ يُشبه فكرَتَه   لا شيءَ يُشبه فكرتَه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *