الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)

 الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

مصطفى الحمداوي

يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ أنّ الكِتاب الجيّد أذكى بكثير من كاتبه ويحوي أمورًا قد لا يعيها الكاتب”. أجدني مرغما على مشاركة إيكو هذا الاعتقاد لأن الكِتاب، في سياقاته الحاسمة، هو من يؤثر بكل الأشكال على القارئ وليس المؤلف. إن سلطة الكِتاب الطاغية، وقدرته المفرطة في التواصل، وكل ما يتمتَّع به من القدرات الخارقة التي تحدَّث عنها أمبرتو إيكو واختزَلها في مفردة “الذكاء”، كل هذه المُقوِّمات تمنح الكِتاب قوة موضوعية على حساب مؤلِّفِه. بل هناكَ أشكال تأثيرٍ مختلفة يمتلكها الكِتاب، وقد لا تخطر على بال، بحيث يمكن للكِتاب أن يُغيِّر شخصية القارئ وطريقة عيشه بالكامل، وقد يتدخَّل، في كثير من الأحيان، بتعسُّف مطلوب في السلوكيات الأخلاقية. وهنا أورد شهادة أستاذ بجامعة كاليفورنيا متخصص في تاريخ الحِمية النباتية، إذ يقول: “منذ طفولتي الأولى كنتُ ألتهم نصوص الميثولوجيا اليونانية واللاتينية. وألتهم اللحم أيضاً وعلى الأخص اللحم المقدَّد الذي لم أكن أتصور الفكاك منه. أسابيع قليلة قبل بلوغي سن الثامنة عشر من عمري. شرعت في قراءة “تحولات” أوفيد. كنت في حالة من الوجد في حضرة هذه القصيدة الأسطورية الطويلة التي يتخذ قسمها الأخير منحى فلسفيا، إذ يترك أوفيد الكلمة فيه لأشهَر مفكر في العصر القديم، فيثاغوراس. جلس منصتا إليه الملك “نُوما” وحاشيته. ابتدأ فيثاغوراس شارحًا أن أكل اللحم والسمك هما اعتداء فظيع لأنه نتاج عنف لا يمكن لأيَّة ضرورة أن تعلله. كانت تلك هي المَرَّة الأولى التي أواجه فيها هذا النوع من الأفكار. أدهشتني حجج أوفيد الفيتاغورية. كان على حق من جهة موضوعية؛ وكان برهانه لا يُدحض. أغلقت الكتاب، قصدت المطبخ حيث كانت أمي تعد للعشاء قطعة مقدَّدة من لحم ساق خنزير. قلت لها وأنا مضطرب بعض الشيء إني لن آكل أبدا لحم حيوانات. لقد فتحت “التحولات” لأوفيد عيني على هذا المشكل الأخلاقي المتمثل في استهلاك اللحم”.

هنا يبدو تَفوُّق الكِتاب في التأثير بدرجة لا تقارن بقوة تأثير الكَاتب، ولعل المثال الذي أوردناه أفضل دليل يزكي هذا الطرح، وعلى سبيل الافتراض، لو حكى لنا الكاتب القصة شفهيا لكان تأثيرها محدودا، وبالتالي لن تُحدث ما أضحى يعرف بــ: “أثر فيرتر”. ففي كل الأحوال الكاتب مجرد وسيط بارع، لكن الفاعل والمنجز يظل الكِتاب الذي يواصل، بلا هوادة، ضغطهُ الإيجابي، وأحيانا السلبي على القارئ، وهنا وجب التنبيه إلى أن أومبرتو إيكو تحدث عن: “الكتاب الجيِّد”. والكتاب الجيِّد لا يعني بالضرورة الكتاب الإيجابي، هناك كتب جيِّدة لا تُحصى، إلاّ أنها، وفي احتمالات متعددة، قد تُسوِّق أفكارًا هدَّامة، لذلك لابد من التعامل بحذر مع توصيف أومبرتو إيكو للكتاب الجيِّد.

وفي صدد الحديث عن ذكاء الكِتاب وقوته، أستحضر ملاحظة أخرى فذة لأمبرتو إيكو، إذ يقول: “قد نشفق على أعز صديق لدينا إن هجَرته حبيبته؛ لكن لم يسبق أبداً أن انتحر أحد لمَّا علم بأن صديقا له تعرَّض للهجر. لكننا نعرف بأن عددا معينا من قراء “آلام الفتى فيرتر” قَتل نفسه عند علمه بأن بطله انتحر بسبب حبه الفاشل. بل إن علماء النفس أطلقوا على هذه الظاهرة اسم “أثر فيرتر”. كيف يعقل أن نتأثر بما يقع لفيرتر، الشخصية الخيالية، أكثر منه بما يقع لأحد أصدقائنا الأحياء حقا؟!”

هل رأيتم إلى أي حد يمكن للكُتُب أن تكون أذكى من الكاتب، وتمتلك القدرة لتُغيِّر الكثير من قناعات وطباع ونفسية القراء! وهي قناعات جذرية ومتأصلة كما يجب أن نلاحظ جيِّدا، فأحدهم يروي كيف أنه أصبح نباتيًّا لمجرد قراءته لكتاب التحولات لأوفيد، وآخرون قتلوا أنفسهم لأن فيرتر انتحر بسبب حبه الفاشل. شيء لا يمكن تصديقه، ولكنه يحدث، كيف؟ علماء النفس هم المخولون بالإجابة على هذا السؤال المعقَّد، الذي قد يتجاوز مجرد تحليل عام وعائم لنفسية قارئ من هذا النوع.

بل أكثر من ذلك، الكِتاب يُصبح أكثر ذكاء من كاتبه، لأن القراءة، في تقديرنا، تجعل القارئ أكثر ذكاء، بل ومنتجاً للأفكار الذكية، ومن هذا المنطلق، تصبح مقولة أومبرتو إيكو، السالفة الذكر، موضوعية، وتحظى بقدر وافر من المصداقية، وأُذَكِّر، مَرَّة أخرى أن الحكي المباشر لا يترك قَط الأثر العميق الذي تتركهُ القراءة في نفسية المتلقِّي. تحضرني، ونحن دائما بصدد الحديث عن ذكاء الكِتاب، مقولة لمارسيل بروست عن القراءة، بحيث يكتب: “وهنا، في الواقع، تكمن خصيصةٌ من الخصائص العظيمة والرائعة للكتب الجميلة، خصيصةٌ تجعلنا نفهم الدَّور الجوهريَّ، والمحدود في الوقت نفسه، الذي يمكن أن تلعبه القراءة في حياتنا الرُّوحيِّة، التي يمكن أن تُسمى “خواتيم” بالنسبة إلى الكاتب، و”دوافع” بالنسبة إلى القارئ. نشعر جيِّدا أن حكمتنا تبدأ حيث تنتهي حكمة القارئ، ونريد أن يعطينا إجابات، بينما كل ما يستطيع فعله الكاتب هو “رغبات”.

يتَّضح مما كتبهُ بروست أن كل ما يمكن أن يقوله الكاتب في كتبه بخصوص “الدَّور الجوهريَّ، والمحدود في الوقت نفسه”، هو “خواتيم”، ولكنهُ يخلق “الدوافع” داخل القارئ. لقد كان بروست حَذِرًا عندما تعمَّد وصف دور القراءة بــ: “الدَّور الجوهريَّ، والمحدود في الوقت نفسه”، وبهذا الشكل تتجلى عظمة القراءة وأثرها الكبير على تفكير القارئ، لأن حكمة القارئ تبدأ فقط حين تنتهي حكمة الكاتب، أو بمعنى آخر فالقراءة تُحرِّض على التفكير بعمق وبحكمة، وقد تجعل القارئ في كثير من الأحيان، أكثر حكمة من الكاتب نفسه. هل يمكننا ملاحظة بعض التقاطع بين ما قاله أومبرتو إيكو ومارسيل بروست؟ إنني ألمس تماهيا ما، على الأقل في الشكل بشأن الفكرتين المتشابهتين. أومبرتو إيكو يتحدث عن ذكاء الكُتب الجيِّدة، وبروست يتحدث عن الكُتب الجميلة. هناك حديث عن الكُتب الجيِّدة، في موازاة الحديث عن الكُتب الجميلة، ولابد لهذا التواطؤ، الذي تبتكرهُ المصادفة، أن يخلق لدى القارئ الكثير من الحوافز التي تَفُوق الفضول.

أما مفهوم القراءة لدى ماريو فارغاس يوسا، فيمكن اختزاله في مقولته المعروفة: “لقد حوّلَت القراءة بداخلي الحلم إلى حياة، والحياة إلى حلم، وجعلت الكون بِرُمَّته رهن إشارتي”. مقولة قوية ومفعمة بثقة مستمدة من واقع الحال. لم يخترع فارغاس يوسا العجب، ولم يأت بجديد إذا ما تأمَّلنا ما قاله بروِيّة وبقراءة متأنية. لعلنا نستطيع التأكد، وهذا بديهي، أن عدداً كبيراً منا كانت وما زالت له أحلام، وهذه الأحلام تختلف تمظهراتها من شخص إلى آخر. لكن ما يُميِّز أحلام فارغاس يوسا المبدع والقارئ، هو أن القراءة حوَّلت أحلامه إلى حياة! نعم، حياة مُعاشة بكل شروط الحياة وتمثُّلاتها. ولكن المعادلة أن الحلم الذي حوَّلته القراءة بداخل ماريو فارغاس يوسا إلى حياة، سيحول الحياة بداخله من جديد، ومن خلال عملية تدوير طبيعية ولكنها مدهشة، إلى حلم! وعندما تُتاح مثل هذه الآليات لأي شخص، فإنه وفي نهاية المطاف، لا يمكنه إلاّ أن يشعر بأن الكون برمته رهن إشارته.

أليس هناك أجمل من هذا التعبير العميق الذي يبجِّل به ماريو فارغاس يوسا القراءة، ويضعها في أعلى مراتب السمو الإنساني؟ بل ويكاد يجعل من القراءة كل شيء، والواقع أنهُ يفعل وإن لم يقل ذلك بوضوح كامل. وقبل أن أنهي محاورتي، الأوَّلية، مع مقولة ماريو فارغاس يوسا، لا بد أن أشير إلى أن الاحتفاء الذي يبديه الكاتب هنا بالقراءة، ليس مجانيا على الإطلاق، بل هو وليد تجربة شخصية، وربما يكون قد عاش ما يشبه هذه التجربة عدد كبير من القرَّاء، أخص بالذكر من يقرأ على مستوى عال جداً.

بقليل من الانتباه، سنرى أن قوة الكُتب الجيِّدة، غيَّرت من خلال القراءة، الكثير من نظرتنا للعالم، وأخرجتنا من محليتنا الضَّيِّقة لتضعنا في عوالم لا حدود لها. إنني أعتقد أن دور الأدب هو أن يُخرِج الفرد من ذاته ومن بيئته المحلية، ليعيش في أوسع الآفاق الممكنة. وهنا نعود لنتحدث عن الأحلام، وبالنتيجة أجد نفسي أستحضر، مَرَّة أخرى، مقولة ماريو فارغاس يوسا، بحيث يخبرنا أن القراءة جعلت الكون برمته رهن إشارته. أليس هذا ما نشعر به بعد قراءتنا لأي نص قوي ومؤثر؟ في كل الأحوال لن نستطيع إنكار هذه الحقيقة، لأن القراءة تفتح أمامنا آفاقاً واسعة للتأمل والحلم، والحلم يقود حتما، مع الإرادة والجهد، إلى واقع يمكِّن الإنسان من أن يعيش الحياة كما لو أن الكون كله مُسخَّر له وحده. بالمناسبة، علينا جميعاً استحضار هذه المقولة لماريو فارغاس يوسا، لأنها ستظل مصدر إلهام لا ينتهي، وستحفزنا، على الدوام، كي لا نتوقف عن القراءة والحلم!

أتذكر أنني قرأت حديثا طريفا لكاتب أمريكي يقول فيه إنه تلقَّى من ابنه رسالة عادية، ولكن الابن ضمَّن الرسالة قصيدة على سبيل الزهو، وحينئذ ردَّ عليه الأب، وسيكون قد فعل ذلك، كما أتوقع، بفخر: “مرحبا بك يا بني في الجحيم”. صدَق الأب، الكتابة مغامرة جحيمية تفرض نفسها على الكاتب، ويُسلِّم لها كامل أسلحته وأدواته من دون مقاومة، بل يصارع ويجتهد ويُمضي الكثير من الأوقات لأجل كتابة إبداعية ربما لن ترضي سواه، أو في كثير من الأحيان لن ترضي سوى محيطه بشبه قناعة مُزيَّفة تمليها قرابة العائلة أو الصداقة وحسب، وكذلك الكثير من المجاملة التي يقتضيها التعامل بلباقة التلقي.

وسؤال التلقي يفرض سؤالا لطيفا ينبغي أن يتصدى له الكاتب بلطف أيضا. لأن لعبة الكتابة لعبة مخاتلة، وربما ماكرة في بعض الأحيان، لكن مَكرها يَتَّسم بقدر كبير من حُسن التعاطي مع هذا الثقل الإبداعي المبهر والمُكلِّف في الآن ذاته. لأن الكتابة سلطة لابد أن تُخضِع الكاتب، غير أن المعادلة هنا أن الكتابة نفسها ينبغي أن تَخضع خضوعا تاما في البداية لسلطة الكاتب. إنها معادلة منصفة ولا إجحاف فيها لأجل توليد نص روائي مقنع. تقول الروائية إيزابيل ألليندي عن تجربتها في كيفية تَشكُّل النص الروائي: “عندما أشعر أن القصة بدأت في التقاط إيقاع ما-الشخوص تتشكل، أستطيع أن أراهم، أن أسمع أصواتهم، إنهم يفعلون أشياء لم أخطط لها، أشياء لم يكن بوسعي أن أتخيَّلها-حينها أعرفُ بأن الكِتاب موجود في مكان ما، وكل ما عليَّ فعله هو أن أجده وأجلبه-كلمة كلمة-إلى هذا العالم”. هنا تتحدث إيزابيل ألليندي عن الكيفية التي تتشكل لديها فكرة نمو العمل الروائي، وعندما ترى أن كل شيء يسير كما ينبغي لهُ أن يسير، تُدركُ أن كل ما عليها فعله هو إيجاد وجلب الرواية “كلمة كلمه”. لكن ينبغي أن نحتفظ بالحذر، فلكل كاتب طقوسه الخاصة، ورؤيته الخاصة، وأساليبه الخاصة التي تُشكّل كتابته لروايته الخاصة. ثم يجب أن ننتبه دائما، لأن الكاتب في هذه المرحلة يكون هو الممسك بزمام المبادرة، لكنه سيفقد كل سلطاته بمجرد طبع ونشر كتابه.

وعطفا عما سبق، يبدو جليا التداخل بين الكتابة والقراءة، وخلال ذلك عملية إبداع طريقة إخراج الرواية إلى الوجود. وفي شأن يخص الرواية دائما، أشد عضدي بنصيحة من كاتب أمريكي يقول فيها: “هيكل الرواية هو شيء تكتشفه، وليس شيئاً تُركِّبه. لا تمسك لوحة المفاتيح لتصبح عبدا لخطتك في الكتابة”. اسم صاحب هذه المقولة هو: “ريك مودي”. تعرفتُ على اسمه من خلال كتاب قيِّم بعنوان: “لماذا نكتب”.

حين كنت طفلا كنتُ أحلم أن أصبح كاتباً ليعرفني العالم، ولكنني الآن أكتب لأعرف العالم. مع يقين شبه تام بأن المهمة شاقة وقد لا أنجح فيها. ورغم ذلك يجب أن أستمر في الكتابة، وأن أستمر في بحثي المستميت لأعرف العالم، لأن كل الذي أراه هو مجرد إرباك للحقائق التي نعيشها بتقديس مؤسف، وأحياناً بمثالية لا تختزل مطلقاً أي منظور واقعي يتماشى مع الأحداث التي ينبغي أن تؤدي وظيفتها كما يجب. إن الكتابة لا تحرضني على التعرف على العالم وحسب، ولكنها تحرضني أيضاً، وفي الوقت نفسه على الحكم الصحيح، “نسبيا” على التاريخ، كي أضع كل الأحداث التي أعيشها، أو تلك التي أرغب في عيشها، وفق ظرفية تراعي آنية اللحظة الزمنية وراهنيتها. هكذا لأبقى في الإطار العام الذي أعيشه، على الأقل.

كاتب مغربي مقيم في هولندا.

شاهد أيضاً

لا شيءَ يُشبه فكرَتَه

 (ثقافات)  نصّان  مرزوق الحلبي   1. لا شيءَ يُشبه فكرَتَه   لا شيءَ يُشبه فكرتَه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *