دور الرواية وأدب السجون في تنمية الوعي الوطني وتعزيز السردية الفلسطينية *

*دور الرواية وأدب السجون في تنمية الوعي الوطني وتعزيز السردية الفلسطينية *

أسماء ناصر أبو عيّاش 

**********

بداية لأحرارنا في باستيلات الاحتلال أقول:

“على شرفة الانتظار الجليــــلْ

تسمّر قلبي وليلي الطويـــــــــلْ

يخاتلني طيفُـــــــك الغائـــــــبُ

ويهمس في أُذنِ المستحيـــــــلْ

بأن الحمائمَ مهمـــــــا تنـــاءت

وطال بها دربُـــــــها والمقيــلْ

تعود بشـــــــوقٍ إلى أيكهــــــا

وتطوي جناح النوى والرحيلْ.

لا يُخفى على العارف تأثير الاحتلال عموماً على المشهد الثقافي لأي أمة رزحت تحت نيره. فقد عانت الثقافة الفلسطينية من نكبات متلاحقة جراء الاحتلال الاسرائيلي والاستعمار البريطاني منذ بدايات القرن الماضي وليس انتهاءً بالعام 1967، وأدت تداعيات هذا الاحتلال إلى تدمير المنجز الثقافي والعديد من معالم الثقافة الوطنية. لقد تميز المجتمع الثقافي الفلسطيني بأعلام من المتنورين أمثال خليل السكاكيني وروحي الخالدي وغيرهم كثيرين في مجالات الفن والأدب، وبالرغم مما واجهته من تحديات واستلاب من قبل المحتل فقد تمكنت الثقافة الفلسطينية الوطنية من النهوض، فبرز أعلام في الأدب أمثال راشد حسين وإيميل حبيبي وسميح القاسم ومحمود درويش وغيرهم من شعراء وأدباء وفنانين ومفكرين كإدوارد سعيد وحنا مقبل وليس آخرهم زكريا محمد الذي غيبه الموت قبيل أيام.

وهنا، يتجلى السؤال: ما وظيفة الأدب ودوره في المعركة الوطنية؟ قد تثير الإجابة عن هذا السؤال جدلاً محملاً عدة أوجه وقد تأتي ملتبسة ومتعددة الأفكار والنظريات.. لكن إن سلمنا جدلاً بأن الثقافة هي مكون رئيس للهوية الوطنية، فإن المعركة الثقافية مع المحتل هي من أعقد المعارك المتواصلة بعد خسران البنادق وهجران الخنادق!

والكتابة كإحدى أدوات الثقافة المقاوِمة ليست حالة ترف أوغاية بل هي وسيلة من وسائل الصراع والتحريض ونشر الوعي، والثقافة بكل صعدها والسياسة في صلبها، هي منظومة الأفكار والمعتقدات والابداعات التي تصوغ وعي الجماعة باتجاه فعل تغيير الواقع، ومهمة ووظيفة الكلمة الإسهام في فعل المقاومة والتغيير. لقد تباين الأدب المقاوم مع اختلاف ظرف وطبيعة الصراع مع الاحتلال، بحيث اتسم بالحماسة والعنفوان إبان الاحتلال البريطاني وبداية تكينن المشروع الصهيوني على أرض فلسطين وتحول إلى أدب أكثر وجدانية وحنين إلى الوطن السليب بعد النكبة وفي أماكن اللجوء والشتات.

ومع انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة عادت لغة الخطاب سيرتها الأولى محملة بالحماسة والتحدي، فتغنى الشعراء بالبندقية والرصاص وتَرَفّع عن خطاب الهزيمة واللجوء..

(طل سلاحي من جراحي طل سلاحي..

ولا يمكن قوة في الدنيا تنزع من إيدي سلاحي)

(كلاشينكوف خلي رصاصك بالعالي)

وكتبوا في الفداء والشهداء..

(فتىً يمضي يزنره الهوى والوجد

تِلوَ فتىً

فيا أعداءنا عدوا)

واستمر خط الخطاب الحماسي صعوداً في كل الأنماط الأدبية والفنية، فعلى صعيد الفن التشكيلي بدأت خطوط الفنانين تُبرِز في لوحاتهم صور النكبة واللجوء والتهجير حتى أواخر ستينيات القرن الماضي لتتسم أعمالهم في مرحلة المد الثوري بروح المقاومة والثورة.

ويندرج تحت مصطلح أدب المقاومة أدب السجون وإبداعات أسرى الحرية المتسربة من وراء قضبان باستيلات الاحتلال من كتابٍ وباحثين وشعراء، فيعمد الكاتب داخل السجن إلى تفكيك الزمن ويخلق زمناً خاصاً.. زمناً افتراضياً مرتبطاً بالإبداع والإنجاز في محاولة لتحدي فلسفة الاحتلال في جعل زمن الأسير دون فائدة، فيحوله من زمن عدميّ إلى زمن منتج، وبهذا يقول الروائي الأسير منذر مفلح في زمن السجن: “علينا أن نسعى لتحويله إلى زمنٍ مثمر”. وفي تحدٍ للسجن أيضاً يقول الروائي الأسير وليد دقة: “نكتب عن السجن لنفْيِه” ليتفوق سائد سلامة بدوره على واقع السجن بالكتابة كما يقول.

كانت حيطان السجن هي الوسيلة المثلى بل والأولى التي خط عليها الأسير اختلاجات نفسه وما يعتمل في وجدانه لتعذر أدوات الكتابة بل وحتى حظرها. وفي محاولة لتقشير حيطان الزنزانة يتجلى تاريخ من مروا بها، تاريخ يوثق مواقفهم فكرياً وسياسياً ووجدانياً.

يعتبر الثائر عوض النابلسي أحد ثوار ثورة 1936 والذي أعدمه الاحتلال البريطاني، أول من خط بالفحم قصيدة على جدران زنزانته في سجن عكا، وكذلك الشاعر الثائر نوح إبراهيم التي كانت قصائده سلسة الاسلوب معبرة عن نبض الشارع، والمفكر خليل بيدس ابن مدينة الناصرة المحتلة والذي كان معتقلاً إبان الحكم العثماني، واعتقلته فيما بعد سلطات الاحتلال البريطاني في بداية انتدابه على فلسطين، ليكتب من السجن “حديث السجون”.

عموماً، لا يعتبر أدب السجون حكراً على الفلسطيني، فقد أبدع كثيرون من معتقلي الرأي ومناضلون من أجل الحرية في هذا المجال، أذكر منهم وعلى سبيل المثال لا الحصر المصري الطاهر عبد الحكيم في “الأقدام العارية” و”دفتر السجن” للقائد الفيتنامي هوشي منه و”رسائل السجن” للمفكر الإيطالي غرامشي الذي ميز المثقف العضوي المنتمي لخط الشعب والمعبر عن الثقافة الأصلانية المنسجمة مع أهداف التحرر الوطني والمعبرة عن الإرادة الجمعية للجماهير؛ ميزه عن نقيضه المثقف النخبوي الذاتي والمسترزق النازع للشهرة.

ولئن تطلبت الكتابة الإبداعية أجواء من الراحة ومساحة من الاستقرار النفسي، فإن الكاتب في السجن يواجه تحديات ليس أقلها الوقت المشحون بالتوتر والتحدي وشح ما يرشح من معلومات عن الحياة خارج السجن، إنها الكتابة المعجزة التي تواجه استهداف الاحتلال لوعي الأسير وإرادته، ناهيك عن صعوبة إمكانية تسريب المادة خارج أسوار السجن وما تواجهه من مخاطرة مداهمة السجان ومصادرتها.

أما على صعيد المشهد الثقافي الحالي وبالرغم من محاولة البعض الاستيلاء على الهوية الوطنية ومحاولة الطمس والاحتواء، لا بد لأن نحتكم للموضوعية في وصف الحالة بعد ـ وكما أصفها بـ جائحة أوسلو، وهيمنة السياسي على الثقافي والرسمي على الشعبي واتضاح إشكالية العلاقة بين الثورة والسلطة مما أدى لترهل المؤسسات الثقافية وتراجع الفعل الثقافي التحرري وترهل الخطاب

* عن جريدة القدس الفلسطينية

شاهد أيضاً

رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان

(ثقافات) رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان  صفاء الحطاب تذهب بنا رواية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *