الفلسفة في الرواية


* ترجمة: لطفية الدليمي

هذه ترجمة للمقالة المعنونة ( الرواية الفلسفية The Philosophical Novel ) التي نشرها جيمس رايرسون James Ryerson في ( Sunday Book Review ) – التي تظهر أسبوعياً في صحيفة النيويورك تايمز – في 20 كانون ثاني 2011 . يعمل رايرسون محرراً في مجلة التايمز النيويوركية و قد ساهم في كتابة مقدمة أنيقة للعمل الفلسفي الذي كتبه الروائي – الفيلسوف ديفيد فوستر والاس و المعنون ( الصيرورة والزمان واللغة : مقالة في الإرادة الحرة ) الذي نشرته جامعة كولومبيا نهاية عام 2010.

هل يمكن للروائي أن يكتب أعماله مستخدماً مقاربة فلسفية في أفكاره و أدواته ؟ أجاب بعض الروائيين من الذين تصنّف أعمالهم في خانة الاعمال الفلسفية بـ ( لا ) مؤكّدة و صارخة : أيريس مردوخ مثلاً وهي الأستاذة الاكسفوردية المرموقة للفلسفة لعقود طويلة والمؤلفة لما يزيد عن العشرين رواية في موضوعات تنتمي لعالم الثقافة الرفيعة مثل الوعي و الاخلاقيات ،،، تجادل مردوخ أن الفلسفة والأدب مسعيان بشريّان متمايزان يعملان في فضاءين متضادين ، وتؤكّد مردوخ نظرتها هذه في مقابلة طويلة معها على البي بي سي عام 1978إذ تقول أن الفلسفة تتطلّب مهارات متميزة للعقل التحليلي القادر على التنقيب في مشاكل مفاهيمية باستخدام لغة مقتصدة بعيدة عن الانشغالات الذاتية وتبغي الوضوح الصارم ، في حين يسعى الأدب إلى مقاربة الخيال باستخدام لغة سحرية مشوبة بالغموض و متماهية مع خصوصية كل كاتب ، وتعقّب مردوخ قائلة :” إذا ما ظهرت أية أفكار فلسفية في رواياتي فإن هذا يعدّ إنعكاساً غير منطقي لما أختزنه من معرفة فلسفية ” . يستذكر بعض الروائيين من ذوي النزعات الفلسفية الطاغية وبشكل واضح وحاسم ما صرّحت به أيريس مردوخ ، وأحد هؤلاء الروائيين هي الروائية ( ريبيكا نيوبرغر غولدشتاين Rebecca Neuberger Goldstein ) التي نشرت روايتها الأولى ( معضلة العقل – الجسد The Mind – Body Problem ) عام 1983 بعد نيلها شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة برينستون ، وقد شعرت غولدشتاين بقدر هائل من الخيبة والإرباك لسماع تصريحات مردوخ فعقّبت عليها قائلة :” لم يبد كلام مردوخ دقيقاً ، وأتساءل كيف يمكن لفيلسوفة مرموقة مثل مردوخ ان تتنكّر بشكل صارخ لثيمات أساسية ساهمت في تشكيل حياتها الذهنية والفنية ؟ ” . ثمة عديد من الروائيين المؤهّلين فلسفياً ، جنباً إلى جنب مع غولدشتاين ، من أمثال : ديفيد فوستر والاس ، ويليام إج. غاس ، كلانسي مارتن ممّن عانوا في دراسة العلاقة الإشكالية بين الفلسفة و الادب : فكلّ من الفلسفة و الادب يسعى لأن يطرح أسئلة كبيرة تختص بتوصيف حقائق عميقة في مسعى جاد لإضفاء نوع من نظام ما على الفوضى الضاربة التي تلفّ العالم الذي نعيشه ، ولكن يبقى السؤال المستديم ” هل ان هذين المسعيين يعملان في اتجاهين متنافسين ومتناقضين بمثل التناقض الذي نعتقده بين الذهن الخيالي والعقل المنطقي ؟ أو لنقل هل أنهما في أفضل الأحوال يسعيان لسبر أغوار ذات المعضلة و لكن من زوايا نظر متباينة ؟ ” .
تأريخياً ، كانت العلاقة بين الفلسفة والأدب علاقة شك مستديم ، او لنقل في أقل التقديرات كانت علاقة غير سلسة ، فقد كان أفلاطون واضحاً للغاية في عدائيته تجاه الفن وأبان في أكثر من موضع عن خوفه من ان يؤدي الاشتغال الفني والادبي إلى إنتاج ضلالات عاطفية قد تقوّض أي مسعى فلسفي نحو الحقيقة ، وذهب بعيداّ في موقفه العدائي واتخذ موقفاً في غاية التطرّف عندما دعا إلى إقصاء المنتجين لأي شكل درامي أدبي خارج نموذج جمهوريته الفاضلة !! ولكن مع هذا لم يكن أفلاطون مجحفاً أو مجانباً للحقيقة عندما أشار إلى أن المسعيين الفلسفي والأدبي لهما أجندات غير متوافقة : فالفلسفة تخاطب النخبة والأدب يخاطب العامّة ، و الفلسفة تعتمد التعميم والتجريد بينما الأدب ينحو باتجاه التخصيص و التشخيص ، وأهم من كل هذا و ذاك أن الفلسفة تطرح كل الأوهام جانباّ في حين أن الادب يخلقها !! . إن معظم الفلاسفة شديدو الحساسية فيما يخص قدرتهم في ميدان الكتابة الفنية والأدبية ولا ينبغي لنا أن ننسى ان اثنين من أعاظم الفلاسفة – أقصد “أرسطو” و “كانت” – امتلكا قدرات أدبية متواضعة على رغم إنتاجهما الفلسفي الضخم ، ومن الواضح ان التمايزات في الإشتغالين الفلسفي والأدبي التي أوردها افلاطون لم تكن ساذجة أو بسيطة لكن الغريب في الأمر أن أفلاطون ذاته كان كاتباً أدبياً لامعاً و يتشارك معه في هذا الوصف عدد من الفلاسفة الكبار : نيتشة ، شوبنهاور ، كيركيجارد ، وقد كتب فلاسفة من أمثال ( جان بول سارتر ) و ( جورج سانتايانا ) روايات في حين ان روائيين مثل ( ثوماس مان ) و ( روبرت موسيل ) كتبوا روايات مفعمة بالرؤى الفلسفية ، بل ذهب البعض إلى حد القول – ولو على سبيل الدعابة الخالصة – أن وليم جيمس الفيلسوف أفضل في قدرته الروائية من أخيه الروائي هنري جيمس ، وإن هنري جيمس كان أكثر توهجاً فلسفياً من أخيه الفيلسوف ، وقد عبّر الفيلسوف الأميركي ( جيري فودور ) عن هذه الدعابة التي تعكس حقيقة كبيرة رغم روح الدعابة الطاغية عليها بقوله ” إذا كان وليم جيمس أكثر مقدرة روائية من أخيه الروائي فذلك لأن العامّة ظنّوا – وهم مخطئون في ظنّهم – أنه كان قادراً على الكتابة بطريقة جيدة ، و إذا كان هنري جيمس اكثر مقدرة فلسفية من أخيه الفيلسوف فذلك لان العامّة ظنّوا – وهم مخطئون في ظنّهم أيضاً – أنه كان يكتب بطريقة أقلّ جودة من أخيه !! ” .
يرى ( ديفيد فوستر والاس ) – الذي قدّم أطروحة تخرّج ممتازة نشرتها جامعة كولومبيا عام 2010 تحت عنوان ( الصيرورة والزمان و اللغة : مقالة في الإرادة الحرة ) – أن الرواية تتيح إمكانية الإمساك بالمزاج العاطفي الذي يتضمّنه أي عمل فلسفي و كتب في هذا الصدد في دورية مراجعة الرواية المعاصرة عام 1990 قائلاً ” إن الغرض من الرواية الفلسفية لا يكمن في جعل الموضوعات الفلسفية المجردة متاحة للقارئ العادي عبر تبسيط مخلّ بالأفكار بل أن الغرض الأساسي منها هو في إشباع الجوع المفاهيمي للقارئ ودفعه بالنتيجة إلى قراءة النصوص الفلسفية ذاتها ” ، وقد إعترف والاس أن عمله الروائي الأول ( مكنسة النظام The Broom of the System ) المنشور عام 1987 كان خيبة كبيرة و فشلاً ذريعاً في محاولته دفع الجمهور لقراءة أعمال ( لودفيغ فيتغنشتاين ) و يؤشّر في ذات الوقت أن كثيراً من الروائيين الآخرين قد نجحوا في الكتابة بطريقة فلسفية لامعة و يذكر من هؤلاء بخاصة ديفيد ماركسون David Markson في عمله الأثير ( عشيقة فتغنشتاين Wittgenstein”s Mistress ) ، ويطري والاس أيضاً أعمال الروائي ( ويليام إج. غاس William H. Gass ) الذي يعترف في حوار له نشر في مجلة ( باريس ريفيو ) عام 1976 إنه لطالما شعر بنفور عارم من تلك الصرامة التحليلية التي لاقاها خلال مراحل دراسته الجامعية و يضيف أنه مقتها بطرق كثيرة رغم أنه كان يرى في تلك الصرامة وسيلة فعّالة لتدريب و تطوير قدراته العقلية ، و يعترف غاس أن تعليمه الفلسفي – مثل مردوخ – لم يكن ليؤثر على نتاجه الروائي .
وعلى خلاف كلّ من مردوخ ، غاس ، والاس فإن ريبيكا نيوبرغر غولدشتاين تتعامل في روايتها الأخيرة المعنونة ( 36 دليلاً على وجود الله 36 Arguments on the Existence of God ) مع المعضلات الفلسفية بصورة واضحة وغير مرتبكة وتضم روايتها محاورات عديدة بين شخصيات هم في الأساس فلاسفة أو فيزيائيون أو رياضياتيون ومع هذا فهي تبدي تعاطفاً واضحاً مع أيريس مردوخ في الحفاظ على الطبيعة الذاتية – حتى لو كانت رخوة بقدر ما – في العمل الأدبي و إبقائه بعيداً عن فضاء البحث الفلسفي والحقائق الصلبة المتّصلة به ، و قد وصفت غولدشتاين هذا الجهد بكونه كان دوماً “مصدراً فظيعاً للصراع الداخلي” و تضيف “أكتب الرواية وانا لا استطيع نكران خلفيتي التحليلية الصارمة المؤسسة على فلسفة العلم والمنطق الرياضياتي و الإيمان بالمثال الأعلى في مقاربة الموضوعية” ، ولكن يبدو أنها صارت مقتنعة بمرور الوقت بما يجوز لنا أن نسميه سايكولوجيا المقاربة الفلسفية القائمة على القناعة الآتية : إن تناولنا للمشكلات المفاهيمية يعتمد بصورة حاسمة على من نكون نحن كأفراد ، و أن هذا التناول هو وظيفة ينهض بها مزاجنا الذهني والفلسفي باعتباره أداة معرفية ، وهكذا يكون تضمين محاورة فلسفية في قصة مشبعة بخيال ثري مظهراً رئيسياً من مظاهر حياتنا الذهنية المتوهّجة لأننا عندما نقرأ عن معضلة فلسفية في سياق نص أدبي فنحن لا نسعى إلى مجرّد فهم المعضلة وحسب بل إلى الشعور بها في المقام الأول .
_______
*المدى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *