نصف رغيف ساخن – قصة قصيرة

(ثقافات)

نصف رغيف ساخن

حاتم السروي

نهار الرابع من أغسطس سنة 1976.. الساعة الثانية عشرة ظهرًا.. موج الشاطيء لا يقر له قرار والمُصْطَافُون يحاولون أن يجدوا سبيلًا للمتعة بين الأمواج الثائرة؛ أما الأمواج فتعلو أمام ناظريهم كالغول ثم تصدمهم.. في كل صدمة صفعة، كأن البحر الذي تغير مزاجه يطردهم بلا سبب..

وهكذا قرر محمود أن يترك البحر الغاضب الصخَّاب ليأكل التُّوسْت المدهون بالجبنة الكِريمِيَّة ويرتشف كوبًا ساخنًا من الشاي.. الحق أقول لكم إنه مستعدٌ أن يبيع ثيابه لِقَاء كُوبِ الشاي الساخن هذا، لأنه صاحب مزاج؛ ولأن هذا الكوب هو الصديق الوحيد بين الضباب والريح والعتمة.. بين خوف الشتاء، وبرد الشتاء.

 يقولون إن برد الشتاء يزور محمود في أغسطس فيقرصه دون أن يراه أحد.. وحين يشعر بوخز الإِبَر يصيح مستغيثًا: ” أنا بردان، أنا بردان” فيضحكون عليه حتى تدمع أعينهم، ثم يقلده أحدهم بصوتٍ مخنث: أنا بردان، أنا بردان…. آهِ ما أشنع الشتاء في السجن، آهِ ما أثقله في المنفى..

أين السجن وأين المنفى؟؟؟

ها هو محمود يأكل ويشرب ويغني لفيروز، هل تراه يمثل دورًا ما؟؟ لا لا، إنه ولدٌ صادق، محمود “جدع” لا يغرك سِنُّه الذي لا يزيد على خمسةٍ وعشرين عامًا، انظر إلى عينيه.. ها؟ ماذا ترى؟؟ طيبة قلب وبراءة؟؟ ألم أقل لك، إنه طفل يبلغ طوله 180 سنتيمتر!

طفلٌ يفيض مالًا وصحة وشبابا.. كريمٌ حتى في مشاعره، ولكنه حزين.. هل كل غربة مصدرها الفقر؟ ثمة أسباب للشقاء لا يدركها إلا البشر..

الصيف لم يعد قائمًا.. محمود ترك الشاطيء منذ شهرين، وعاد إلى حيث مسكنه ومرسمه في القاهرة.

***

بابا.. ما أحلاها من كلمة، تخرج من اللسان فيذوق طعم السكر، بابا يعني الأمان، أليس كذلك؟ بابا يحب ولده أكثر من روحه، يمنحه تجربته بالمجان ويقيه الوقوع في مزالق الطريق وعَثَراتِه، إنه الوحيد الذي يريده أفضل منه.. ولكن ماذا عندما يكون بابا غاضبًا كل يوم؟؟

السيد جميل شاكر رجلٌ عجيب.. تمثالٌ إغريقيٌ من الرخام تلفت نظرك وسامتُه وتخالُه مزهوًا بنفسه.. ناشط سياسي في حزب “السلاحف الخضراء” ولديه فائض من الشعارات.. متقلب مثل موج البحر.. حساس مثل جرجٍ مفتوح بدا منه اللحم الأحمر فأقل نسمة تؤلمه.. تؤلم ذاتًا تضخمت فغدا صاحبها زعيمًا في مرآتِه.. ينظر إلى نفسه كل صباح حين يغسل وجهه ويحلق لحيته، ويطربه جدًا أنه يشبه أبا خالد..

يخزن لمحمود مثل الجمل ثم يلسعه مثل النحلة.. يلاحظ أخطاءه بدقةٍ شديدة فيراكمها في سردابٍ بداخله، في قبوٍ مظلم يمتلئ بالروائح الكريهة، مرحاض خصوصي يطرح فيه جميل كل قبيح، ادخل السرداب إن جاءتك الفرصة إذ نادرًا ما تراه مفتوحًا، ولكن أمسك أنفك وعينيك فالمكان مليء بالجِيَف، وستجد في نهايته قلبٌ بلون الأسفلت الجديد حين يفرشه رجال البلدية على تراب الشوارع..

جميل شاكر مناضل يدافع عن حقوق الفقراء الكادحين بالخطب الرنانة والعبارات الغليظة، ويدخل الحمام كل ربع ساعة، وفي بعض الأيام كل خمسة دقائق.. كم أتعجب من هذا القلق الذي يبدو عليه؟؟ أتُراه يقلق من الهواء حين يمر به؟ أم من الهاموش حين يزن بالقرب منه؟ أم أن أصوات الأي شيء تؤذيه وتعكر صفوَه الشريف؟ أمَّا عجائب واللهِ.. ما الذي يغضبه طول الوقت؟؟ أقسمت عليك أن تفهمني لماذا هو عصبي المزاج هكذا؟ ولماذا حين يكون من حوله في ورطة تستحيل ناره المستعرة ألواحًا من الثلج… هاه؟؟ خِلقة ربنا؟ طيب، لله في خلقه شئون.

لكن بالله عليك أفهمني مرةً أخرى، لماذا حين يحبس نقمته على العالم وما فيه، وحين يدعي النبل والشرف والإنسانية والنخوة إلى آخر تلك الأغنية المعهودة.. وحين تأخذك ثقافته وتلف دماغك فلسفته العريضة، وحين تبهرك عبارات الأدباء وحكم الفلاسفة وأفكار الزعماء التي لا يني يرددها مُنْتَفِشًا كالطاووس مخرجًا كل مَقُولةٍ مُعْجِبة، لماذا حين أحب ذاته نَسِيَ قطعةً منها؟!

****

الأيام تمر وتتعاقب، الأيام تركب على جملٍ وئيد السير مرة، ويردف بعضها بعضًا على صاروخٍ مرتين، صباحها ما فَتِئَ يشرق بالأمل أما الليل فطالما أتى باليأس والحسرة.

في الصيف كان يجري حتى ينسى، وفي الشتاء كان ينام ويأكل، والسمنة لا تبارحه أبدًا، فحين يجري يتَموَّج بطنه وأردافه وتلاحقه نظرات حادة كالخناجر.. يخجل من جسده فيجري حيث لا يراه أحد، ثم يعود منهكًا فيترك نفسه للنوم..

وفي الشتاء يأكل كثيرًا فتزيد سمنته، وحتى يهرب من الحصار يمسك بفرشاة الرسم ويقلد لوحات “بيدر مورك” و”فان جوخ” و”مانويل جارسيا”.. أخيرًا وجد متعته في شيء.. الرسم هو الحل.. لا يمكن أن تكون المشاكل بلا حل.. أليس لكل داءٍ دواء؟..

***

خمسة عشر عامًا مرت..

السيد جميل شاكر في حزب السلاحف يتصدر المنصة، والقاعة الكبيرة في مقر الحزب تتهيأ لمحاضرة عن أسباب سقوط “البُلشفية” فيما الرفيقة الحاجَّة “ميرفت” تُعِدُّ فنجان القهوة لزوجها الجميل اسمًا وفعلًا – هكذا تراه- ولم لا؟ ألم يتزوجها على زوجته؟ وهو الذي لا يؤمن بتعدد الزوجات ولا بالزواج نفسه مع أنه اقترن بثلاثٍ من السيدات، الأولى رحلت، والثانية في بيتها تُعزِّم على ضرتها “ميرفت” وتنفق على الدجالين حتى يصنعوا لها عملًا سحريًا قالوا إنه سيقلبها إلى قرد، أما الثالثة فهي التي لما ترك “محمود” لم يترك وَلَديْها اللذين أنجبتهما من غيره؛ بل جعل منهما محمودَيْن..

محمود: بابا.. انت نسيت تاخد دوا السُكَّر وقطرة العين.

جميل: ياااه، طيب يا حبيبي لما نروح البيت ابقى ناولهم لي..

محمود: طيب يا بابا، بس ابقى خد بالك بعد كده..

جميل: عملت إيه في المعرض بتاعك..

محمود: يوم التلات الجاي الافتتاح ان شاء الله..

جميل: اللوحة اللي رسمت فيها جدك الشيخ شاكر جميلة أوي، كلها مهابة وجلال، هو فعلًا كان راجل وقور، لما تشوفه أول مرة تخاف منه لكن لما تعاشره تحبه جدًا.

ما رأيك أن ترسم لوحة كوميدية؟ هكذا حدث الفنان نفسه.. وهل هناك لوحة كوميدية؟ آه، تقصد “كاريكاتير”… ولم لا؟ سنرسم مجلسًا عامرًا بالنساء الجميلات وصور “ماو تسي تونج” و”تشي جيفارا” وفناجين القهوة، وسنرسم رجالًا تعجبك هيئتهم وثيابهم الأنيقة، على أنك ستندهش حين تجد على كل رأس طاقية، وحول كل عُنُق شَمْلة وتحت كل أنف شاربٌ ثخين، رجالٌ تحار فيهم أهم من أهل المدن أم من قاع الريف، وعيون تُحَيِّرُك نظراتُها أيؤمن أصحابها بالله أم يجحدون به؟؟ ولا تنسَ أن ترسم صورة لينين في البرواز الأنيق، ارسمه مبتسمًا كأنه يقول: أولئك أبنائي..

ولكن هناك مشكلة، لوحة الكاريكاتير لن تتسع لكل هذا.. هاهاهاهاه.. لا عليك، إن سر العبقرية حين يسري سينتظم البدائِعَ والفنونا.. ارسم لوحاتك بشغفٍ حتى يرى الجميع ألَقًا غير عادي.. سترسم نفسك على شاطي مطروح وقد لاحقتك الأمواج فرمت بك على الشاطئ وحيدًا.. وسترسم سماءً لم يَزُرْها القمر في ليلة المحاق.. وسترسم أمَّك في ثوبها الأبيض وهي تنظر إليك من فوق السحاب.. وسترسم……

جميل: انزل يا محمود هات لنا العشا، البيت مافيهوش أكل..

ينزل محمود من البيت تاركًا فيه شابين أطول منه لكنهما لا يحبان شراء الطلبات المنزلية، فقط يخترعان النكات ثم يضحكان عليها..

وهكذا اشترى الفنان خبزًا وفولًا ولم ينسَ المَرَبَّى والزيتون المخلل والجُبن الفلامنك، وسلَّم لوالده وأسرته الطعام، وحين انشغلت الرفيقة الحاجة “ميرفت” بإعداد المائدة إنْسَلَّ في هدوء تاركًا بيته القديم، مقبلًا بشغف على مرسمه حيث تراءت له اللوحة الجديدة، لوحة “الموناجيزة” ويمكن أن تسميها “الموناشُبْرا” لا مشكلة..

لماذا تضحك؟ أليس هذا ما تراه كل يوم؟ إنك لم تنتبه إلى الفول بجوار الجبن الفلامنك، ولم تنتبه إلى شاهيناز جارة محمود، تلبس مثل “هوانم جاردن سيتي” وتشتم مثل “هوانم مَنْشِيَّة ناصر” لا داعي للتعجب.. انظر حولك وستعرف..

وأخيرًا أمسك محمود بالفرشاة.. هاهو أمامك يرسم اللوحة في دَأَب وقد فَنِيَ عن العالم وبقي في إطار لوحةٍ من القماش المسنود على الورق المُقَوَّى.. والآن ستظهر اللوحة.. أَنْ أَنْ أَنْ آااااان..

لا لا.. ما هذا يا محمود؟! أُف، ياللغُثاء، رسمت قصرًا من المرمر على أرضٍ من الوحل، وما هذا الرجل الذي يبول على الجدار في وضح النهار؟ أتعبث يا رجل؟!..

نظر إليَّ محمود ثم تجشَّأ في وجهي وأعطاني نصف رغيف ساخن.. جُبن فلامنك وفلافل وباذنجان وبلوبيف… أكلتُهُ بشهية وكان لذيذًا بالفعل، لكن لا أدري لماذا لم أشبع؟!!

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *