إليزابيث بيشوب شاعرة أمريكية حوَّلت صدمات طفولتها إلى شِعْر

(ثقافات)

 

إليزابيث بيشوب شاعرة أمريكية حوَّلت صدمات طفولتها إلى شِعْر

ترجمة : د. سارة حامد حواس

فقدانٌ بدأ منذ المهد ، طفلة تفقد أباها و عمرها ثمانية أشهر و أمٌ تُجنُّ بعد فقدها زوجها و تعاني من انهيارات نفسية عنيفة تنتقل على إثرهاإلى مصحةٍ نفسيةٍ تاركةً طفلةً عمرها خمس سنوات وحدها تواجه الحياة من دون إدراك أو وعي لما يحدث حولها،  و انتقال الطفلة نفسها  إلى منزل عمَّاتها و محاولة العم التحرُّش بها و إمساكه شعرها و تعليقها منه ، من شُرفة الطابق الثاني.

يا ترى ما مصير طفلة ولدت في هذه الظروف المأساوية ؟

هل ستنجو منها بسلامٍ أم ستترك لديها  آثارًا لن تداويها الأيام؟ تلك هي بداية حياة الشاعرة الأمريكية إليزابيث بيشوب التي عرفتنا بهاالكاتبة الأمريكية الشهيرة ميجان مارشال Megan Marshall(١٩٥٤)في سيرة جديدة من نوعها لإليزابيث بيشوب في كتاب عنوانه ” إليزابيث بيشوب: معجزة للإفطار” Elizabeth Bishop: A Miracle for Breakfast’’ و استقت معلوماته من مجموعة من الرسائل التي كتبتها إليزابيث بيشوب لطبيبها النفسي في عام ١٩٤٧و التي لم يعلم عنها أحد من قبل.

ولدت الشاعرة إليزابيث بيشوب في وركستر بولاية ماساشوستس بالولايات المتحدة الأمريكية عام ١٩١١ ، تربت على يد عمَّتها مود Maud وكانت إليزابيث تحبها كثيرا و تحكي لها عن كل شيء يخصها.

عانت إليزابيث في طفولتها من مرض الربو الذي  عكَّر صفو  تعليمها المبكر.

قضت إليزابيث مرحلة الثانوية في مدرسة والنت هيل Walnut Hill في ناتيك بولاية ماساشوستس بالولايات المتحدة الأمريكية و نشرت أولىقصائدها في مجلة المدرسة كما  درست الموسيقى في المدرسة نفسها و التحقت بعد ذلك بفازار عام ١٩٣٠ على أملٍ أن تصبح مُلحنة والتقت هناك بالشاعرة الأمريكية الشهيرة ماريان مور Marianne Moore (١٨٨٧-١٩٧٢) التي أصبحت صديقتها المُقرَّبة لها مدى الحياة،  و غنت إليزابيث بعد ذلك في فريق الكورال في السنتين الأولى و الثانية و كان على الفريق الموسيقي أن يؤدي الغناء مرة واحدة في الشهرو في الأماكن العامة ،و كما قالت إليزابيث في حوار لها من قبل: إن هذا قد أرعبها كثيرا ؛لأنها كانت مريضة و لم تتحمل ذلك الوضع و تركتالموسيقى و انتقلت إلى دراسة اللغة الإنجليزية، و بصفتها متخصصة في اللغة الإنجليزية أخذت إليزابيث دورات تدريبية في هذا المجال:شعر القرنين السادس عشر و السابع عشر الميلاديين؛ شكسبير و دراما عصر النهضة و الأدب الأمريكي و الشعر الحديث كما أنها درستاللغة اليونانية مدة أربع سنوات و كذلك اللاتينية و الكيمياء و الموسيقى.

عاشت إليزابيث بيشوب بعد تخرجها في ولاية نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية و سافرت إلى العديد من البلدان مثل :فرنسا و إسبانيا وأيرلندا و إيطاليا و شمال أفريقيا و امتلأ شعرها نتيجة لذلك بوصف رحلاتها و المعالم المختلفة التي رأتها.انتقلت إليزابيث بعد ذلك إلى كيويست Key West حيث كتبت الكثير من قصائدها التي جمعتها في كتابها الأول ”الشمال و الغرب”North and West عام ١٩٤٦ وفي عام ١٩٥٥  نشرت كتابها الثاني ”قصائد:الشمال و الغرب /الربيع البارد”Poems:North and West /A Cold Spring’’الذيحازت على إثره على جائزة البوليتزر

في عام ١٩٤٤ تركت إليزابيث كي ويست وعاشت في البرازيل مدة أربعة عشر عامًا و انتقلت بعد ذلك تدريجيا إلى نيوريورك و سان فرانسيسكو  وماساشوستس، حيث اشتغلت في  مهنة التدريس بهارڤارد عام ١٩٧٠ و في السنة نفسها حازت على جائزة الكتاب القومي في الشعر عن” القصائد الكاملة ” The Complete Poems و ذاع صيتها بعد ذلك في السنوات القليلة قبل وفاتها خصوصًا بعد نشر كتابها ” جغرافيا ٣” Geography lll عام ١٩٧٦ و حصولها على جائزة نويشتات Neustadt في الآداب.

عُرِف شعر إليزابيث بأنه وصفيٌّ يتسم بالدقة  كما أن صورها الشعرية كانت تتسم بالصدق و البساطة و عدم التكلف وكان يعكس ذكاءهاالحاد و حسها الأخلاقي، ويرصد كل ما له علاقة بالعالم الخارجي حيث يبعد كل البعد عن حياتها الشخصية على  عكس صديقها المُقرَّبالشاعر الأمريكي روبرت لويل Robert Lowell (١٩١٧-١٩٧٧) الذي كان يكتب شعرًا اعترافيًّا ؛ شأنه شأن شاعرات أمريكيات شهيرات أخريات مثل سيلڤيا بلاث و آن سيكستون و سارة تيسيديل.

في أعمالها الشعرية الأولى ، استخدمت إليزابيث بيشوب السريالية Surrealism و التصوير Imagism لخلق واقع جديد تقلل فيه الإشارة إلى الذات ، ثم أصبحت قصائدها الشعرية أكثر اهتمامًا بالسيرة الذاتية و البحث عن الهوية الشخصية.

لم تكن إليزابيث شاعرةً غزيرة الإنتاج ، فقد كتبت نحو ١٠١ قصيدة فقط، حيث كانت تتحرى الدقة و العمل على انتقاء المقاطع اللفظيةالمناسبة للقصيدة مع وجود عنصر الغموض و الرسائل الضمنية  المخبوءة وراء الكلمات حيث كانت تميل إلى الإشارات و عدم الوضوح فيعرض أفكارها ومشاعرها في قصائدها الشعرية.

أثناء قراءتي شعر إليزابيث بيشوب ، وجدت أن قصائدها الشعرية تمتاز بالمفردات البسيطة غير المتكلفة و لكن معانيها تتسم بالعمق والازدواجية duality حيث المعنى الظاهر في الكلمة ليس شرطًا هو المقصود بل تخبِّىء دوما المعنى المقصود داخل الكلمة يُفهم حسبالسياق الفني للقصيدة فقط ، فقصائدها تترك العَنان لخيال القارىء لفهم ما يراه في القصيدة من منظوره الخاص ، لا تحب الشرح والتوضيح ، لذا  تتعرض قصائدها للتأويلات المختلفة حسب رؤية القارىء الخاصة  للقصيدة.

أستطيع أن أطلق على شعرها ” السهل الممتنع” و ذلك يدل على أن  إليزابيث تتقن استخدام الأساليب الفنية الشعرية باحتراف كما أنه يدل على وجود موهبة شعرية فذَّة.

إليزابيث بيشوب عملت رسَّامة أيضا ، فصرحت في حوارٍ لها أنها “كانت تتمنى أن تصبح رسَّامة فقط فحبها للرسم تجاوز حبَّها للشعربكثير حتى أن أصدقاءها من الرسَّامين كانوا أكثر عددا من أصدقائها الشعراء.

تحدثت إليزابيث بيشوب عن سبب كتابتها الشعر و عن مصادر الإلهام للكتابة بالنسبة إليها  في مقابلة أجرتها معها ألكسندرا چونسون ،نشرت في صحيفة كريستيان ساينس مونيتور Christian Science Monitor عام ١٩٧٨كما أنها نُشرت لاحقا في كتاب محادثات معإليزابيث بيشوب Conversations with Elizabeth Bishop الذي حرَّره المؤلف الأمريكي چورچ مونتيرو George Monteiro (١٩٣٢-٢٠١٩)و نُشر في عام ١٩٩٦.

في هذا الحوار، سُئلت عن سبب كتابتها الشِّعر فأجابت بأنها بدأت كتابته و هي في الثامنة من عمرها، فكانت طفلة منعزلة ،وكان الشعرهوالطريق  الوحيد لجعل الأشياء حولها أكثر ألفة لها كما أن هناك أشياء كثيرة جعلتها تكتب الشعر حيث قالت إن جدتها نوڤا سكوتياNova Scotia كانت مغنية ترانيم عظيمة ،فنشأت مع تلك الأصوات و قالت إن المئات منها  لا تزال تحوم حول رأسها، كما أن عمتها مثلالكثير من الفيكتوريين كانت تنتمي إلى مجتمع القرية الشعري و تُلقي الكثير منها لها و حفظت الكثير  و سرعان ما أصبحت في اللا وعيعندها، وسُئلت أيضا عن بداية القصيدة بالنسبة إليها، هل تبدأ بصوتٍ أم صورة أم فكرة ، فقالت إنها تختلف من قصيدة إلى قصيدة ،فبعض القصائد تبدأ كمجموعة من الكلمات التي لم تجد لها سياقًا بعد ولكنها بعد ذلك تتراكم و تصير جُملًا ثم تبدأ  تأخذ شكلًا مُحددًا،وفي بعض الأحيان بعض الأفكار تسيطر عليها لفترةٍ طويلةٍ و لكن القصائد التي تبدأ بأفكار أصعب كثيرًا في الكتابة وقالت إن الجودة اللاواعية مهمة جدا أي لا تسأل القصيدة عن معناها بل دعها تُخبرِكَ.

وفي سياقٍ آخرٍ، قالت إنها تحتفظ بالقصيدة قبل كتابتها داخلها قبل كتابتها من عشر دقائق إلى أربعين عاما فالشاعر لابد أن يتسم بالصبر، وقالت إنها تشعر أحيانا بالغضب من نفسها على قدرتها على تحمُّل القصيدة داخلها لمدة تصل إلى عشرين عاما لحين الانتهاء منها و لكنالشاعر الجيد لا يتحمل وصفه بأنه طائشٌ مُتعجلٌ، وقالت إنها تكتب الشعر لتسعد نفسها و أن التحدي بالنسبة إليها هو كتابة المشاعرالصعبة المعقَّدة في لغة بسيطة  و إنها تميل إلى البساطة وتحب أن تعبر عن  الأفكار المعقدة الغامضة بأبسط الطرق الممكنة ، وقالت إنالنقاد دائما يكتبون عنها أنها تحب الكتابة عن الأشياء أكثر من الأشخاص وأكدت أن ذلك يتم بطريقة غير واعية منها ، فالفضول نحو معرفةالعالم من أهم الأشياء في الحياة كما قالت إن كونها رسَّامة جعلها تحب ملاحظة الأشياء عن قرب و بدقة بالغة و تمنَّت أن تولد رسَّامة أكثربكثير منها شاعرة.

في هذا الحوار أيضًا، قالت إن الجبال و الشلالات و الخيزران الملكي في البرازيل كانت من مصادر الإلهام لها لكتابة الكثير من قصائدها والغامض عن فكرة مصدر الإلهام هو أنني لا أعرف تحديد سبب كتابتي لقصيدة بعينها حيث يمكنها كتابة قصيدة عن حدث قد حصل لهامنذ عشرين عاما وإنها تترك العَنان لعقلها و عينيها لتسجيل ما تشاهده و أنها تصبر كثيرا حتى يظهر ما تم ملاحظته و تسجيله، و سألتهاألكسندرا عن الصفة التي يجب أن تتسم بها القصيدة فقالت ” عنصر المفاجأه” ، فاللغة و الموضوع في القصيدة لا بد أن يفاجئاك ، أي لابد أن تتفاجأ برؤية شيء جديد وحيوي بشكل غريب و غير تقليدي.

ظلت إليزابيث بيشوب تُلقب ب ” شاعرة الشعراء” The Poet’s Poet و لكنها بعد ذلك عُرفت كقوة رئيسة في الأدب الأمريكي المعاصر.

حياة زاخرة مليئة بالمفاجآت كتلك التي تنتشر في قصائدها، صدمات في الطفوله و فقد عظيم و يتم مبكر ، كل ذلك أدى إلى ظهور موهبةحقيقية استطاعت أن تتحدى يتمها المبكر و تنجح و تمتاز و تصبح من أكثر الشاعرات المؤثرات في المجتمع الثقافي الأمريكي، وتوفيت عام١٩٧٩ بمنزلها في بوستن بالولايات المتحدة الأمريكية.

قصيدة لإليزابيث بيشُوب

‎أحتاجُ إلى الموسيقى (I Am in Need of Music)

‎ترجمة و تقديم: د.سارة حامد حوَّاس

 

‎أحتَاجُ إلى مُوسِيقَى تَنسَابُ

‎فوق أطرَافِ أصَابِعِي المُرتَعِدَةِ

‎وشَفَتيَّ المُرتَجِفَتينِ المَوصُومَتيْنِ بالمَرَارةِ

‎مع لَحنٍ عمِيقٍ واضِحٍ بَطِيءٍ كسائِلٍ.

‎آهٍ من الذبذَبَاتِ المُدَاوِيةِ

‎البَطِيئَةِ الخَافِتَةِ

‎لأغَانٍ تَغَنَّت لإرَاحةِ

‎المَوتَى المُتعَبِين.

‎أغنَيةٌ تسقُطُ كالمَاءِ على رأسِي

‎فوق أطرَافِي

المُرتَعِشَةِ

‎تَندَفِعُ لتَتَوَهَّجَ كالحُلمِ.

‎الّلحنُ يَصنَعُ سِحْرًا

‎تَمِيمَةً من الرَّاحةِ

‎نَفَسًا هَادِئًا بَارِدًا.

‎قَلبٌ يَغُوصُ في الألوَانِ البَاهِتةِ بِعُمقٍ

‎إلى سُكُونِ البَحرِ العَمِيقِ

‎يَطفُو إلى الأبَدِ

‎في مَسبَحٍ قَمَرِيٍّ أخضَرَ

بين أحضَانِ الإيِقَاعِ و النَّومِ.

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *