تَمرُّد

تَمرُّد

صحر أنور

 

شاردةٌ ، كل ما فيَّ يعاندني، لم يعد هناك ما يبهجني ، ما يعيد السلام إلى روحي، لم يعد لديَّ شغف لأي شيء، كأنني نقطة وقفت عندها اللغة، فاصلة تجمع بين ممرات السنين والأيام، علامة تعجب تقف عندها الدموع في دهشة ، علامة استفهام وقعت المفردات في حيرة اختيار وصف يليق بها. لا أدري من أنا الآن، ولا من أي لغة أتيتُ. أشعر بالتمردِ على كل شيء، على عملي، أنظمتي اليومية في النوم والصحو والطعام، على علاقاتي، ابتعدتُ عن كل ما كان يؤذي مشاعري ، تَجاهلتُ بخفةٍ وسهولةٍ لا أدري من أين أتيتُ بها أشخاصًا منحتهم من الاهتمام ما جعلهم ظنوا أنَّهم محور كوني ، تَجاهلتُ الأصدقاء الذين أصابهم الغرور والتعالي، قاطعتُ الشخصيات الباردة ، تمردتُ حتى على ملابسي الجديدة التي اشتريتها ولم أرتدها ولو لمرة واحدة ، حتى الكتابة صِرتُ أنا والقلم في حالة عصيان، كلما أمسكت به لأكتب يفلتُ منِّي ، يعلم أنني هذه المرة سأكتبني وأكتبه، يفرُّ هاربًا، ربمَّا يعلم أن هذه الكلمات قد تكون بداية النهاية، نهاية النهاية، ربمَّا نهاية هذه المرحلة في حياتي، وربمَّا بداية جديدة. كنت أحسبني وأنا مقبلة على ضمَّ أول ديوان شعري لصدري أنني أعالج جُرح لم يلتئم منذ سنوات طويلة، كم كنت أتمنى أن تتطاير روحي من حروفي ، تعانق ذرات الخواء القابعة داخلي، تبث فيها الحياة من جديد، تنثر بتلات ورد، فإذا بالشعر هو من يعالجني ويبعثرني في آنٍ، قاذفا بي من وجعٍ الى وجعِ، من حيرةٍ الى حيرةِ ، ومن عبثٍ إلى عبثِ ، بتُّ أرى الأشياء بعين الشعر كما لو أنه هو من يكتبني، يرتديني ، أراني نائمة في حِضنِ كلماتٍ تأتيني في منامي، تهمس لي، توقظني ، أصارع الصحو كي أنام ، تبادلني الصراع بصراع لأصحو، ليس لديَّ سوى سؤالا أردده ،أُلقيه على نفسي مرارًا، من أنا الآن ؟ سألتها: ماذا بكِ ؟ ماذا تريدين ؟ لماذا كل هذا الشرود؟ ؟أجيبيني. جاءني خيالها قائلا بصوتٍ متهدجٍ، منفجرٍ في وجهي كبالون اخترقه عود ثقاب مشتعل فجأة بقوة ، تعبت، تعبت منكِ، من سنوات عمر تُرفرفْ الآن على مضجعها الأخير، وحيدةٌ أنا بين الحاضرين والزائرين، كل ليلةٍ أعودُ إلى غرفتي الخاوية من كل أشيائي إلايَّ ، تتراجع أصداء أصوات من حولي، تنطفيء الأنوار إلا نور قلبي الخافت، الصمت يلفني من كل جانب، يأتيني من كل حدب وصوب، تأخذني الجدران نحو النافذة الصغيرة الوحيدة، أهفو لنسمة هواء، أسند رأسي على حافتها ، أتجه للسماء ، يداي تنبسطان في الظلام نحو الفضاء، نحو الأغصان النائمة في قلب أشجارها ، نحو نجوم لا تلدُ إلا عتمة إثر عتمة ، نحو هدير صوت رفرفة طائر الذكريات الحزين، ابتهل للكون ، للظلام، للطيور في أعشاشها، أصرخ في وجه الليل، أخبرني أيها الليل، ماذا عليَّ أن أفعل كي أحيا، ما الذي عليَّ أن أفهمه ، أنا ذا وحدي معك الآن ، لا حب يخدعنا ولا حبيب يهجرنا، أخبرني أيها الليل هل من وسيلة تصالحني بها على الحياة من جديد، مستعدة أيها الليل أن أكون مطيعة لك ، أسيرُ معك على شاطيء الايام مع السائرين أتلمس سبيلا للنجاة، نحو مرقص الحياة أرقص مع العاهرات، قدماي فقدتا قدرتهما على السير، نبت لها من اليأس جناحان يحثاني على الطيران إلى هذا الواقف على الشاطيء الآخر يناجيني،علَّهُ يهديني إلى أين أسير.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *