جان بابتيست أندريا يفوز بـ”غونكور 2023″ بروايةٍ جامعةٍ وباهرة

جان بابتيست أندريا يفوز بـ”غونكور 2023″ بروايةٍ جامعةٍ وباهرة

أحمد المديني

 

يَحِقّ لأكاديمية غونكور التي تمنح أرفع جائزة عن الرواية في فرنسا، وأصبحت تقليدًا أدبيًّا راسخًا، أن تحتفل هذا العام بالذكرى المائة والعشرين لتتويج فائزها الأول (1903/12/10)، وأن تتوافق الذكرى مع منحها الجائزة هذا العام لرواية من عيار مكانتها، وأذهب إلى أنّها تعيد إليها الاعتبار بعد تفاوت ملحوظ في قيمة الأعمال المتوّجة، آخرها العام الماضي  Vivre vite (فلاماريون) لبريجيت جيرو.

وكانت تلم الرواية موضوع جدال في قيمتها- محتوى وفنًّا- فلم تنل حظّا كبيرًا في السوق، والحال أنّ ما يجنيه الفائز هو المبيع الذي قد يصل إلى مليون نسخة مع ترجمة إلى لغات العالم، في حين أنّ القيمة المادية للجائزة لا تتجاوز 10 أورو.

أجل، قدّم جان بابتيست أندريا رواية استحقت الفوز ضمن منافسة حامية (بعد أربعة عشر جولة تصويت من الأعضاء العشرة للجنة التحكيم، وحسَمَها الرئيس الذي يملك صوتين).

والكاتب الفائز هو ليس طارئًا على عالم الرواية، بل صدر عمله الأول سنة 2017، تلاه اثنان والرواية الرابعة المتوجّة هذا العام Veillez sur elle (نترجمها مؤقتًا بـ”اسهروا عليها” أو “اعتنوا بها” ويُفهم العنوان في سياق محدّد، سنعود إليه).

هذه الرواية صدرت عن الدار نفسها التي تبنّته من البداية وبقي وفيًّا لها L’ICONOCLASTE ما يعني مقدمًّا أنّ غونكور هذا العام ذهبت أولاً الى دار نشر صغيرة ولم تبتلعها كالعادة دلافين النشر الباريسية مثل غاليمار ولوسوي؛ وثانيًّا، حازها كاتبٌ ما زال في أول الطريق، وهي رغبة الأخوين غونكور حين أوصيا بهذه الجائزة سنة 1892.

أجمل ما صرّح به أندريا بعد الإعلان مباشرة وهو درس للمتنطعين صغارًا: “أنا سعيد لأنّ هذا التتويج منحني الاعتراف بأني أصبحت كاتبًا”.

 

حكاية الرواية

لا جدال في هذا الفن أنّ الحكاية في الرواية مكوّنٌ أساس، عمادُها قصّة، ولذلك تُسمّى فنَّ السرد، وإنّ عرف منذ بدايات القرن العشرين تحولات جذرية لأسسه وخصائصه الكلاسيكية.

أسجّل أنّ رواية أندريا، وقد فازت هذا العام أيضًا بجائزة مرموقة لمؤسسة (FNAC)، تجدّد الصلة بهذا المكون وهو عمودُها الفقري تمتد منه أضلاع وفروع عبارة عن مجموعة من الحكايات تتناسل من بعضها وتتظافر ممثلةً صورة بانورامية لعصر وتاريخ وبلدان وثقافة ومصائرَ فرديةٍ وجماعية وأخيلةٍ وتخيلاتٍ باهرة، موهبةٌ قويةٌ وحدَها قادرةٌ على لمِّها في وحدة متناغمة.

أعادنا الروائي الفرنسي ذو الأصول الإيطالية إلى جذور وتاريخانية هذا الفن، ليُخرج الرواية الفرنسية من كماشة الأنوية الضيّقة، جاعلة همومها الصغيرة سُرّةَ العالم أو ما يُسمّى (Le nombrilisme) والمجال الوحيد الذي تتحرّك فيه فراشة تطوف حول الضوء وتحترق به.

لا، هنا نعود إلى قصة متماسكة من البداية إلى النهاية، وإن بتغيير وتنويع في المحطات، وتعدّدٍ في الرواة، وتغييرٍ لمفهوم البطولة، وتلاعبٍ ذكي ومتّقن ببؤرة الحكاية وتدويرها.

رواية الحكاية

سأحاول اختصار سرد يبلغ 580 صفحة لا إطالة فيه ومن دون تمطيط. تقصّ علينا حكاية ميكل أنجلو فيتالياني، الحامل لقب (ميمو) من مواليد 1904 ابن نحّات فرنسي في غربي فرنسا، يهلك أبوه في الحرب (العالمية الأولى)، فترسله أمه إلى خالٍ له (مزعوم) في إيطاليا، نحات بدوره، ليتعلّم الحرفة، في قرية (Pietra d’Alba) جنوبي مدينة جنوة. يصل إليها سنة 1916 وابتداءً من هذا التاريخ يستهل حياته الإيطالية هو من جاء باسم “الفرنسيزي”.

في البداية يكلّفه الخال بأعمال يدوية تافهة، وتشاء الصدفة أن يتعرّف إلى عائلة أورسيني النبيلة سيدة المنطقة، حين يكتشف الماركيز أورسيني مهارته فيشرع في صنع منحوتات تماثيل وترميمها، الصدفة هي ما تضع في طريقه فيولا ابنة الماركيز، الفتاة ذات الذكاء الحادّ والميول الشاذة، من قبيل النوم في المقابر ومخاطبة الموتى وصداقة دبّ، ثم نتعرّف على خيالها الفائق يقودها لهوى أن تطير بجناحين، يصبح ميمو تدريجيًّا رفيقها وصديقها الحميم ويعبران معًا زمنًا طويلاً هو النسيج الكرونولوجي لرواية تمتد ثمانية عقود، من 1916 إلى 1086، تاريخ وفاة ميمو.

النحات ولغزه

يسرد جان بابتيست أدريان في روايته قصة مركزية بفروع وتجاذبات، نعم، بطلها الأول هو ميمو، هذا الذي على امتداد أربعين عامًا سيصبح نحّاتًا شهيرًا للتماثيل والأيقونات الدينية أولًا، تنهال عليه الطلبات من الفاتيكان وعلية القوم في روما، من خلال المكانة التي سيحوزها بعلاقته مع عائلة أورسيني المكوّنة من شخصيات ذات نفوذ.

أولها فرنسيسكو الذي يصعد سريعًا سلالم الفاتيكان ليرتقي في الأخير كاردينالًا، وستيفانو، المقرّب من الحكم الفاشيستي الطارئ في العشرينات، فكوكبة شخصياتٍ من محيط خاله صاروا إخوة وزملاء، ومحترفاتٍ تنقّل بها بين روما وفلورنسا وحرفٍ أيضًا كبهلوان في السيرك، وبوهيميا، قبل أن يستقرّ نحّاتًا محترفًا وترتبط حياته عضويًا بعائلة أورسيني ووجدانيًا بالآنسة فيولا التي ستفتح عقله وثقافته وتصبح رقيبًا موجِّهًا لوعيه وتوأمًا روحيًا له بتولاً في نوع من الحب الطهراني رغم تضارب تام بين مزاج وسلوك الشخصيتين.

لذا، يمكن لهذه الرواية أن تُقرأ قصة حب عذري، فخطّها طويل متصل في بحبوحة مشاعر فياضةٍ ومتكتمةٍ بين طرفين، يتوفّر لها عنصر الفجيعة بعطب جسد فيولا بعد فشل محاولتها الطيران بجناحين صناعيين، ثم خسران زواجها من كامبانا المحامي والمنتج السينمائي الانتهازي، مظهر إضافي لزمن وقيم تتغيّر، وعجزها عن الإنجاب، وأخيرًا موتها وأهلها بسبب زلزال يمحو قرية بيرتا داربا، ويُنهي عهد أقطاع ونبالة يوازي نهاية الملكية واختيار لشعب للنظام الجمهوري.

يمكن للرواية أن تُقرأ سيرةَ بحث لإعجاز موهبة في صنع فن عظيم، فالنحت نقش وخلق من الصّخر، ومسيرة ميمو فيه تصاعدية خلاّقة، لكنها وصاحبَها محفوفان بأسئلة الحيرة: لماذا ينحت؟ وماذا يريد؟ ليتبيّن أنّه يضع شيئًا من روحه القلقة في منحوتاته التي تشذ عن المألوف، خصوصًا حين سيُكلّف بنحت تمثال (Pietra) نظير تمثال ميكل أنجلو للعذراء بين يديها السيد المسيح، لحساب الفاتيكان، وستضطر الكنيسة بعد نصبه وعروضه الأولى لإخفائه عن الأنظار في مكان سرّي في أحد الأديرة لتسبّبه في رجّة نفسية وجسدية لدى كل من يراه، وحرصًا سيلتحق به (خالقه) ليسهر على العذراء، يعتني بها، بالتمثال، هكذا يبقى العنوان مزدوج المعنى، كِنائيًّا بلاغيًا، وملتبسًا، وليعيش ما تبقّى من حياته في الدّير نفسه كأنّه راهب وهو نحّات محتفظًا بسرّ رهيب (الخلق).

 

الرواية والزمن التاريخي

تعبُر رواية جان بابتيست أندريا التاريخ ويعبرها. قصتُها وشخوصُها وأحداثُها تعمل في أمكنة وفضاءات وأوقات وظروف بلدٍ محدّد هو إيطاليا من العشرية الثانية إلى الخمسينات وما تبقّى هوامش. أفعالُ ومواقفُ الشخصيات وما حولها من أوضاع اجتماعية ويطرأ عليها من تبدّلات محكومٌ مشترطٌ كله بالزمن التاريخي، تحديدًا بما عرفته إيطاليا مع ظهور الحركة الفاشية بزعامة موسوليني وأجوائها وتأثيراتها على المستويات كافة، الفن إحداها مضمارُ ميمو سيستفيد من هبات الحركة ، ثم وقد وصل إلى قمة الشهرة باختياره عضوًا في أكاديمية المملكة، ينقلب عليها بتأثير من الوعي الرافض لمحبوبته فيولا ليُسجن ثلاث سنواتٍ ويطلقَ سراحُه بعد دخول الحلفاء إلى إيطاليا وبداية حملة استئصال الفاشيين، مرحلة حامية في هذا البلد.

إنّها ليست رواية تاريخية البتة، لكن تفاعلَها مع التاريخ وترابطَها عضويٌّ، وإن بقي دائمًا خلفيةً وماءً جوفيًا تحت أرض السرد الروائي الصلبة، أحيانًا يتبادلان الأدوار، لكن البؤرة هي حكايةُ وإشكاليةُ فن وبحث النّحات، ضمن العلاقة الوجودية والملغزة التي تربطه بفيولا وبتمثاله.

أقول، هكذا هي الرواية الواقعية الكلاسيكية التي أُنجزت على يد بلزاك وستاندال وفلوبير، استوعب منجزها أدريان وبنى عليها فنه لمّا طرزها بمحكياتٍ خرافية، فجعلنا نقرأها كأنّها خيالية (conte de fée) فما أكثر المفاجآت واللاّ متوقع كألاعيبِ الحُواة والسّحرة يتقبّلها العقل كالحقيقة (مثال لعبة الدّب الحقيقية والخادعة في القصة) ويستطيبها ملحَ سرد ويواصل.

خطط السرد  

السّرد نهجٌ أساسٌ للرواية، سواءٌ جاء خطيًّا تعاقبيًّا، هو السائد، أو على وتيرة أخرى. في عمله هذا زاوج الكاتب بين نهجين باعتماد ساردين: الأول، الشخصية المركزية (ميمو)، سرد القسم الأغلب من الرواية، تارةً بضمير متكلّم معلن، وطورًا جاء مضمرًا متباعدًا مندمجًا بسارد عليم. النهج الثاني، تولاّه الراهب فانسانزو الذي يستهل الرواية لكن من النهاية، سيروي، إذن، خصوصًا الطور الأخير من حياة ميمو اعتمادًا على وثائق مودعة بالدّير في خزانة محكمة الإغلاق عن حياته وتمثاله المحيِّر المنافس لميكل أنجلو الأصلي لا التخييلي، من تدوين باحث أميركي مزعوم تتبّع ودوّن سيرة هذه الشخصية. ويرافق البادري ميمو وهو يحتضر حتى الرمق الأخير في معزله بالدير، ونكون نحن قد علِمنا سيرته جميعَها يُسدِل عليها هو بواسطة الفلاش باك السّتار، ونندهش بعد ذلك كيف تلتقي البداية بالخاتمة في انسجام ووحدة عضوية تامة، ومن سلاسة السرد ومتعة الحكي ولوامع الأفكار والإشراقات الشعرية، كذا انشدادنا للشخصيات ومجرى الأحداث، نحسّ أننا نرغب في المزيد، فنرحل مع ميمو وهو يأفل تحت عين كوكب، والرواية تسكننا حزانى لرحيله وفرحين في آن بعمل كلّي جميل.

  • عن النهار البيروتية

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *