رواية “مصاطب الآلهية” للجنداري: قراءة من منظور المتخيل – التأويلي في رؤية الواقع

رواية “مصاطب الآلهية” للجنداري: قراءة من منظور المتخيل – التأويلي في رؤية الواقع

أسامة غانم

يعتبر نص ” مصاطب الآلهة “* للقاص محمود جنداري امتداداً لكل نصوص المجموعة الثمان ، أي الواحدة تتغذى من الأخرى ، أو الكل تستمد ديمومتها من مشيمة واحدة ، وبالأخص نص ” زو العصفور الصاعقة ” ، ففي هذه النصوص لا نعثر نهائياً على أي شيئاً مركزياً : شخصية – حدث – مكان – زمان – ثيمة ، يطغي على محاور النصوص ، لتلتقي مجتمعة في تأسيس نصوص تجريبية مفتوحة داخل الخطاب القصصي على شكل انزياح سردي ، تمتاز بالمغايرة والاختلاف ، تستند على مرجعيات : تاريخية – اسطورية – واقعية ، تحيلنا خارج النص تماماً الى ما وراء السرد ، والى ما وراء القص ، للعثور على الشفرات والاشارات المتواجدة داخل النص ، والواقعة في منطقة يتداخل فيها الوهم بالحقيقة ، والمتخيل بالواقع ، تحت مظلة الرمزية المبطنة لجميع المرجعيات ، مما يرغم القاريء على بذل مجهوداً كبيراً من أجل قراءة عميقة فاحصة مع مقارنة الصور المتخيلة الظاهرة بالصور الواقعية المضمرة وذلك من اجل إعادة تجميع آفاق النص الدلالية – المشفرة – المضمرة .
وهذا ما اشار اليه جنداري في الكلمة التي القيت في اتحاد أدباء العراق عن نصوص ” مصاطب الآلهة ” عام 1994 ، حينما قال : ” إنها نصوص قصصية مبنية بطريقة خاصة ومتفردة . قد تحتاج الى مزيد من الوقت والتمعن ، للكشف عن منطلقات تكّونها الإبداعية “1 . بمعنى أنها شبيهة بالكلمات المتقاطعة ، التي تحتاج الى وقت وتفكير وقوة ملاحظة بالإضافة الى ثقافة عميقة في كافة المجالات ، وهذه الطريقة في البناء ” الخاصة ” و ” المتفردة ” كانت في الاستعارة والمجاز والتلاعب في حقيقة الأشياء / المعلومة من اجل توصيل المراد توصيله رغم التشظي والتشتت المتعمد في النص ، والاشتغال على تقنية الظاهر/ المعلن والباطن/ المخفي ، الذي تم بواسطة المتخيل الادبي الذي ابداع صوراً ، واحداثاً ، جديدة غير واقعية .
هنالك تسأل يتبادر الى ذهن القاريء ، حالما يبدأ بالقراءة ، لذا علينا قبل الخوض في تحليل نص ” مصاطب الآلهة ” أن نستعرضه ، لماذا استلهم محمود جنداري2 الاساطير السومرية : ملحمة جلجامش – قصة طوفان نوح – السبيء البابلي لاورشليم – عشتار ودموزي – ملكة كيش كوبابا / صاحبة الحانة – الملكة اميتيس زوجة نبوخذ نصر الثاني ، الخ . والتراث العربي الاسلامي : مروان بن محمد – ابو مسلم الخراساني ، في بناء نص ” مصاطب الآلهة ” . فمن خلال توظيف هذه الاسماء التاريخية / الاسطورية ، ومن خلال عمق وعيه بالتحولات الوجودية ، وبالذات الوعي السياسي العالي ، في عملية سردية هادئة من حيث اصبح الحاضر ماضي وبالعكس ، عليه التجأ الى الاسطورة بدلاً من الحاضر ، والتجأ الى المحمولات الرمزية الموجودة في الاساطير ، وهذه الحمولات المختلفة في انساقها وتوجهاتها مرتبطة جميعها بوعي ظاهراتي حاد مع قصدية حذرة ، في إعادة صياغة مفاهيم العلاقات الممكنة القائمة بين ” الأنواع الرئيسية الثلاثة للخطاب السردي ( الأسطوري والتاريخي ، والتخييلي ) و ‘العالم الواقعي‘ التي ترجع اليه من دون شك “3 . لذا استخدم محمود جنداري : الترميز ، والاستعارة ، والإحالة في السرد ، لتأسيس علاقة جدلية بين المتخيل والتاريخ والواقع ، وليس ذلك فحسب ، بل أن هنالك علاقة متبادلة قوية بين المتخيل والتأويل .
إن هذه الأنواع الرئيسية الثلاثة للخطاب السردي ،استخدمها القاص بحيث دمج أو مزج هذه الأنواع في بوتقة واحدة مع إضافة الغرائبي اليهم ، لتكون في بؤرة قص مركزية ، مستقلة بذاتها ، متوحدة في توجهها ، ذات اهداف مرسومة بدقة وقصدية متمكنة ، حيث يقول جنداري عن تجربة هذا الاشتغال ، أن ” الدوافع الحقيقية للمزيد من الكشف والبوح ، تظهر علناً وفي زمن الكتابة ، عبر اجتراح مسارات جديدة وصعبة الى حد ما ، مثل مسار اختراق التاريخ “4. بحيث تصبح هذه الأنواع مع الغرائبي نسيج لحظة الكتابة ، الكتابة الشاملة والمعقدة بالنسبة الى المتلقي ،أي أن هذا النسيج يأخذ بالتشكّل لحظة الكتابة . نتيجة تلاعب القاص بهذه الأنواع . وفق منظومة من التحولات الفكرية والايديولوجية والفلسفية المستندة على التحولات الاسلوبية والبنائية ، التي تؤدي بنا الى رصد وكشف الواقع الحاضر ، وعن حمولات هذا الواقع الرمزية المتخمة بالدلالات والانساق المضمرة ، نتيجة كثرة التناصات في الأنواع الثلاثة من : اسماء – امكنة – ازمنة ، مختلطة ومتداخلة مع بعضها ، لتمنحنا وحدة المنظور الرابط بين لحظة التاريخ السردي الظاهرة وبين لحظة الحاضر المضمرة .
وهكذا ، فإن ” السرد التاريخي يشبه السرد التخييلي ، إلّا أن هذا يخبرنا عن مثل هذه الأعمال التخييلية اكثر مما يخبرنا عن مثل تلك الأعمال التاريخية . إن السرد التخييلي أبعد ما يكون عن عكس السرد التاريخي بل أنه يكمّله ويتحالف معه في الجهد البشري العالمي المتمثّل في التفكير في لغز الزمنية “5. بحيث مهما كانت الاختلافات بين الحدث الواقعي والحدث المتخيل فإن محتوهما الاخير هو ذاته . أي هنا يتقاسم المتخيل السردي والمتخيل التاريخي ، في الانفتاح اللامحدود ، وفي عدم التقيد بأي شيء ، عليه يتطلب منا أن ننظر للتاريخ كخطاب ، وكشيء بالاستطاعة التلاعب به من قبل السارد ، ومن قبل القاريء . ولاستخلاص المعنى من خلال اشتراك القارىء والقاص في لعبة التخيُل ، ويمكن ان ندعو ” نتاج هذه الفعالية الإبداعية البُعْدَ الفعلي للنص ، الذي يمنح النص واقعيته ، وهذا البُعْد هو ليس النص نفسه ولا تخيل القاريء : انه نتيجة النص والتخيُل معًا “6.
ولو علمنا ان المصاطب كانت تقام عليها المعابد السومرية القديمة أو بيوت الآلهة ، ويحلو للبعض أن يسميها مصاطب الآلهة . ومن امثلة المعابد المقامة على مصطبة معبد تل العبيد الكائن في موقع خفاجي ضمن منطقة ديالى ، الذي يعود تاريخ تشييده الى عصر فجر السلالات الثاني ، وقد تم العثور على نص يذكر فيه ان تشييد هذا المعبد يعود الى زمن الملك ” آنيبادا ” ملك اور .
تفتتح القصة بهذا الشكل ، مشهد غرائيبي ، وسرد متداخل متشظي :
” وضعوا سلال الخوص التي انجزوها تواً . وضعوها في الظل حول جذع نخلة فتية اخذت تنمو منذ سنوات نمواً غريباً ومضطرباً ثم جلسوا على مصاطب من المرمر في صفين متقابلين وراحوا يلملمون شتات الحكايات ويعيدون ترتيب اجزائها المفككة وسط صمت ظلامي ” , هذا المفتتح يعطي القاريء اللماح فكرة واسعة عما سيكون النص عليه ، حيث يتكون المشهد من: شجرة غريبة ومضطربة ، مصاطب من المرمر متقابلات ، يلملمون ويعيدون شتات الحكايات المفككة ، في صمت ظلامي . ثم بعد قراءة عدة صفحات من القصة ، يبين لنا السارد وظيفة السلال والتي يسميها ” سلة الحكايات ” ، حيث نكتشف أن المحتويات التي توضع داخل السلال هي التأريخ : المزيف أو الملفق أو الحقيقي ، فالحكايات هي تاريخ البشرية المغمسة بالدم منذ مقتل هابيل على يد قابيل ، رغم أن الإنسان اخو الإنسان ، ولكن ، كلما مرت حقبة ارتفع منسوب انهار الدم حيث ” لا تنفك تدور، سلال الخوص ، حاملة بداخلها الحكايات ، ملفقة وحقيقية على رقم من طين او رقاع من جلد غزال يجلس فوقها أخر الملوك ” , عندئذ نعلم بان ما يعني بالسلال هي الحقب و المحتوى هو التاريخ المنسوخ على الرقم الطينية ، وهذا التاريخ مهما تغيرت عصوره فهو محكوم من قبل الملوك الذين تتغير اسمائهم ولا تتغير افعالهم من حقبة الى حقبة : ” امبراطور – ملك – امير – رئيس – زعيم – جنرال ” . ولكن جميعهم ” طواغيت من حجر ” .
يبين لنا السارد العليم ، منذ البداية ، بإشارة واضحة الى أن الآلهة متفقة ومتعاونة مع الملوك ، في تسهيل وشرعنة افعالهم من خلال القوة المفرطة والاستعانة بإصدار فتاوى لـ تسخير الناس وفرض الضرائب العالية عليهم ، واستعبادهم عن طريق التجنيد الاجباري ،والقوانين الجائرة ، حيث الآلهة والحكام هنا يمثلون سوية سلطة قمعية ، وهذا نشاهده في المقطع التالي ، دماء وخوف ، ينزف الناس دماءً خوفاً من الآلهة ” حفروا عميقاً في الارض شبراً وراء شبر ونزفوا كثيراً من الدماء قطرة وراء قطرة . حفروا خوفاً من الآلهة . حفروا تحت رقابة صارمة امام اعين الجند المدربة على التقاط البريق من مسافات بعيدة ، حفروا تحت لذع السياط سياط جند الملك اسرحدون أو سنحاريب أو رعمسيس ، المعروفين بالدقة اللامتناهية في متابعة الفؤوس التي تهوي ، والمنهالين بالضرب فوراً على من يتوقف . من يتوقف يمت ” . يتوقف – يمت افعال مضارع – آنية مستمرة في كل الازمنة والامكنة ، وهكذا ” منذ عشرات القرون ، وهم الملوك بالسوط يضربون الخارجين من كهوف شايندر ” ، ليس ذلك فحسب بل نرى مشاهد فظيعة بشعة وحشية مخيفة للسلطة المطلقة عندما ” يذرون الرمل فوق نقاط الدم التي تناثرت على الارض ، وعلى الارض تسقط الآن قطرات الدم والعرق ومن الارض تنبعث للتو رائحة فريدة هي رائحة الدم والتراب ” . ولكن ليس باستطاعة أحد أن يغطي بالرمل الدم . فالدم ينبثق من الارض ، ينمو عشباً قانياً احمراً ، يطفو فوق الماء مشكلاً برك حمراء ، الدم الدم يُسفك في كل الحقب والازمان ، لأنها ” دهور الهلاك ” والموت المجاني . التي أبتدأت منذ خلق الخليقة . ومنذ أن اصبح للعالم ملك وأله .
وفي نص ” مصاطب الآلهة ” استلهم القاص اربع شخصيات من التاريخ ، القاسم المشترك بينهم ، هو انهم يمتازون بانهم كانوا آخر الملوك أو أخر الخلفاء في الحكم ، والمدن التي يحكمونها تسقط ، وقد ركز عليهم القاص بشكل ملفت للنظر ، الذين هم :
نبونيد : كان آخر ملوك الامبراطورية البابلية الحديثة حكم من 556ق م حتى سقوط بابل . على يد كورش الكبير في 539 ق م ، كان نابونيدوس أخر الملوك لبلاد ما بين النهرين القديمة ، ولم يكن هذا الملك من العائلة المالكة ، وهو يقول بصدد ذلك في احد نصوصه ” أنا نبونيد الذي لم يتشرف بانحداره من نسل ملكي ” :
” شعر نابونيد بالمهانة عندما عرف عن طريق الاله مردوخ في لحظة لقاء عاصف بينهما انه أخر ملك سيجلس على عرش بابل . اضطرب عقله وانحرف سلوكه وانجذب بهواه النفسي الى معبد الاله سن في حران ، حيث تعتكف هناك ، ومنذ خمسة الاف سنة ، امه كبيرة الكاهنات .” .
ريم سن الاول : هو ملك اموري لسلالة لارسا ، وكان آخر ملوك سلالة لارسا ، وسع هذا الملك نطاق مملكته الى اوروك وايسن ثم بدأ عدة حروب جديدة ضد بابل في زمن حمورابي ، الا أن بابل هي التي انتصرت في النهاية :
” عند حدود مارخاتس يحتشدون بصفوف متراصة ويندفعون كالسيل ويزيحون خصم بابل ريم سن ، ملك لارسا المدعوم من العيلاميين ، ويكتسحون اسوار الجبس من حول مدينة ماري ويدحرون الى الابد عدوتهم اشنونا ، ويشيدون اسواراً من الدم والكبريت والقار والرصاص ” .
مروان بن محمد ( 72 هـ / 691م – 132هـ / 750م ) آخر خلفاء بني امية حتى سقوط دمشق . كان شجاعاً بطلاً لا يفتر عن محاربة الخوارج ، حتى ضرب فيه المثل في الشدة ، فقيل ” أصبر في الحرب من حمار ” ولذلك سمي مروان الحمار :
” ومن يثرب خرج مروان باتجاه الشمال ، الى حران ، مطارداً أو مطروداً حاول المكوث عند المعبد لكن خيل ابي مسلم الخراساني ، اجتازت الجسور العباسية والعثمانية والحقب ، وعبرت من نهر الى نهر ومن بحر مظلم الى بحر مظلم ” .
” واضيئت بابل للمرة الاف
واغتمت بابل للمرة الاف ، لما هرب الملك الاخير امام ابي مسلم . توقف في قنسرين وقاومه اهل حمص ، وبصق اهل حماه على اعراف الخيل المخذولة فامر الملك المهزوم بان تصوب المنجنيقات اليها . واصل الملك تقدمه نحو حران ! ولكن خيل ابي مسلم كانت تنتظره عند ضفاف النيل فتمكن منه الجند ، وقتلوه . قطعوا راسه وعلقوا جسده على عمود وقطعوا لسانه ورموه لقطعة جائعة ” .
وللدلالة على ان نص ” مصاطب الآلهة ” الذي كتب في حزيران / 1988، و نص ” زو – العصفور الصاعقة ” الذي كتب في تموز /1988، قد جاءا متقاربين جداً ، من حيث الأسلوب وبناء الجمل ، وانتقاء الكلمات ، بل حتى من حيث الإنْسَاقَ المختلفة : الثقافية – السياسية – اللغوية ، قد استخدمت على نهج واحد ، برؤية متداخلة واحدة ، يصعب تمييزهما الا بصعوبة لانهما من نسيج واحد غير مختلف يؤديان ذات الوظائف ، الا في الشخصيات التي اسُتْلهمت لأغراض مقصودة من قبل محمود جنداري لتحقيق غاية ما أو فكرة ما معينة ، والمقطع السابق المقتطع من نص ” مصاطب الآلهة ” الذي انهى به القصة خير دليل عند مقارنته بمقطع قريب منه ، من نص ” زو- العصفور الصاعقة ” ، وعليه يجب ان يكون قارىء المقطعين على دراية كافية بأسلوب جنداري ، مع امتلاكه مرجعية ابستمولوجية واسعة ،وثقافة عميقة تاريخية – سياسية – اجتماعية ، لكي يتمكن من فهم ومعرفة مقاصد السارد ، ففي المقطع الاول كان هناك بابل ، والخليفة الاموي مروان بن محمد / المقتول ، والقائد العباسي ابو مسلم الخراساني / القاتل ، أما في المقطع الثاني كان هناك فقط مدينة بابل التي تنهض ثم تختفي ! :
” من الضوء ظهرت بابل / وفي الضوء دخلت .
نهضت في الضوء قبة من صخر ، فوقها قبة من حديد ، فوقها قبة من نحاس ، وفضة وذهب ، وخشب من شجيرات الارز وجوهرة بحجم الشمس ، ومخلوقات تتحدث بسبعين لغة ، والف عام وهي تحت الشمس ، مثيرة للدهشة ، تغسلها الشمس تسبح احداهما في حجر الأخرى / بابل والشمس / يقدمان نذوراً وقرابين تُقبلُ منهما على مدار الزمن بمحبة ، والاسوار ، تحرسها أسود الآلهة ، وثراها البليل / بابل / تعجن منه الطينة المقدسة التي يخلق منها الإنسان . ثم اختفت بابل / وازورت عنها الشمس وهدت الرياح اسوارها ، وفرت الأسود الى الجبال “7.
ابو مسلم الخراساني ( 100هـ / 718م – 137هـ / 754م ) هو عبد الرحمن بن مسلم الخراساني ، صاحب الدعوة العباسية في خراسان ، ومن ثم اصبح واليها ، وهو حسب الروايات الفارسية واحد من احفاد آخر الاكاسرة يزدجر الثالث ، سير ابو مسلم جيشاً لمقاتلة مروان بن محمد آخر خلفاء بني امية ، فهزم مما جعله يفر الى مصر ، فقتل في ابوصير وزالت الدولة الاموية سنة 132هـ ، وقتل الخراساني على يد الخليفة العباسي ابو جعفر المنصور وذلك لتعاظم نفوذه وازدياد شعبيته بين القادة والجند ، وخوفه منه ان يطمع في الحكم :
” كان ذلك من اجل بابل : خض ابو مسلم في صدور الخراسانيين ليجعل له نكهة فارسية ورفع كورش رقيماً من هنا ووضعه في مكتبة ورمى بآخر في تلك السلة التي بلغت الآن شواطىء البحر ” .
قبل ان نبحث لماذا اختار القاص هكذا شخصيات اشكالية ؟ لنقرأ ما كتبه عام 1970 عن الالتزام في الكتابة حينما يقول ” اذا كنت تكتب بتجرد ، فانك لن تقول شيئاً ذا اهمية . هذا يعني الاختيار ، الذي يعني الانحياز بالضرورة “8.يعني ان هنالك قصد مبطن في النص يلتقي مع قصد القارىء في القراءة ، على اعتبار ” الانتقاء ، إذن ، هو فعل تخييلي طالما انه يميز الحقول المرجعية للنص بعضها عن بعض وذلك من خلال ابراز وتجاوز الحدود الخاصة بها . وتنشأ عن هذه العملية قصدية النص ، وهذه القصدية لا تتماثل مع النسق المعني بالأمر ولا مع الخيالي في حد ذاته ( لأن اشتراطها يعتمد عموماً على تلك الأنساق الخارج نصية التي تكون مرجعاً ) بل هي موضوع انتقالي يكون بين الواقعي والخيالي ، لها كل خاصية مهمة تكون للواقع ، فالواقع يمكن في الطريقة التي يمارس فيها الخيالي تاثيراً على الواقعي “9. ان موضوع القصد يتطلب الى فاعل له قصد معين ، ولذلك سوف يكون هنالك فاعل واحد الذي هو الفاعل الحقيقي الاكثر ثقة بمسألة النص القصصي انما هو القاص . وعلى ضوء هذا تتحقق إمكانية تبادل المعنى بين القاص والقارىء معاً .
هذه الشخصيات الاربع هي بالإساس قد وضعت في صور فنتازية – تخيلية ، حيث أن من الصفات المميزة للفنتازيا في ادراج العناصر الخيالية داخل اطار متماسك ذاتياً ” متناسق بالداخل ” ، ويكون الخيال نابع من الأساطير والحكايات التراثية فكرة أساسية متسقة . بداخل هذا الشكل ، ويمكن تحديد أي مكان لعنصر الخيال : قد يكون مُخبأ ،أو قد تسرب الى ما قد يبدو اطاراً لعالم حقيقي ، كما يمكن ان ترسم الشخصيات في عالم باستخدام هذه العناصر ، أو قد توجد كاملة في اطار لعالم خيالي ، حيث تكون هذه العناصر جزءاً من هذا العالم ، بمعنى أن الفنتازيا والواقعية السحرية متداخلتين ، متشابكتين ، متقاطعتين في الاشتغال ، مختلفتين في الرؤية ، فالفنتازيا تصور عالما لا يمكن ان يكون . عند تناولها ما لم يحدث ولن يحدث ، وكذلك كانت البنيات الأسطورية التي تميز الفنتازيا جزءاً من اعظم الاعمال الأدبية بدءاً من ملحمة جلجامش ، والف ليلة وليلة ، والمجموعة القصصية ” مصاطب الآلهة ” و مائة عام من العزلة .
اقول ، لا يمكن كتابة هكذا نص من دون الاستعانة بالمتخيل – التأويلي ، لأن اللعبة / المغامرة هي جوهر المتخيل – التأويلي ، فهي حاضرة ، وبالذات الخيال ، منذ رسم اول حرف أو كتابة اول حرف في مدينة اوروك مخترعة الكتابة ، ومنها ظهر الحرف الاول ، والمشترك في هذه اللعبة ، لعبة المتخيل ، هما المؤلف والمتلقي ، ولكن لكل منهما دوره في اللعبة ، فالمؤلف يقدم نصًا غامضاً ملغزاً ، والمتلقي عليه كشف الغموض وحل اللغز ، وتحقيق ادبية النص وجماليته ، عندئذ تكون القراءة مُمتعة لأنها ستكون فعّالة وإبداعية 10.
قد يتخذ التأويل من المتخيّل الخاتل في الذاكرة الجمعية مادة انطلاق في تحليل نصاً ما ، وفي اللحظة ذاتها يكون فعل التخيل فعلاً تأويلياً في جوهره ، ولأن المتخيل يكون هنا قابلاً لاحتواء مفاهيم جديدة ، كما أنه يكون متواصلاً مع الطروحات المختلفة والمتغيرة ، فهو كما تقول عنه ايفلين بتلجيون أي المتخيل ” يتكون من جملة التمثلات التي تتجاوز الحدود المرسومة لشروط التجربة ” 11 :
” في تلك الساعة المريعة التي بدأت فيه رحلة مروان من يثرب وانتهت في صعيد العمارنة . رقاق من جلد الغزال فيه سور من كلام آنو الكبيرة مركبة بطريقة فذة تصف انتصارات نابونيد وشطحاته. ملوك يكتبون تاريخهم بأنفسهم عبر الآلف الزجالين والمداحين والنساخين ، ملوك يهوون الصيد ويحبون خصي العبيد ، مستمتعين بالصراخات وهي تترد في ارجاء بابل ” .
ومن النساء اللواتي لعبن دوراً مهماّ في ” مصاطب الآلهة ” ، هن ، الملكة كوبابا ، ملكة مدينة كيش ، ذكرت في قائمة الملوك السومريين ، وتقول القائمة انها حكمت لمدة مائة عام ، وهي اول ملكة لسلالة كيش الثالثة ، وانها كانت صاحبة حانة حسب ما جاء في الرقم الطينية ، فالنص لم يذكر أنها كانت ملكة لمدينة كيش ، بل يذكرها على انها صاحبة حانة فقط :
” صوت السيدة الجبارة – كوبابا – مديرة الفندق الوحيد الذي وافقت الآلهة على تشييده بعشرين طابقاً من خشب . فندق الربة عشتار الذي أسسه على جماجم عشاقها قبل طردها من الاجتماع ونفيها الى العالم السفلي ” .
والمرأة الأخرى الملكة اميتيس ، ابنة أو حفيدة ملك ميديا وزوجة الملك نبوخذ نصر الثاني ، تزوجها الملك لإضفاء الطابع الرسمي على التحالف بين السلالتين البابلية والميدية ويذكر ان حنينها الى وطنها أدى الى بناء جنائن بابل المعلقة ، لذا ارجو قراءة المقطع السردي الذي جاء في نهاية القصة بمخيلة مفتوحة مستعرضة النص كله، ولماذا تركها نبوخذ نصر الثاني عذراء لثلاث ليال ، الا بعد ان طلبت الآلهة منه العودة لفراش اميتيس من اجل بابل ، ولكن لماذا هذا التعامل الوحشي ؟ ، مما يعني ان ” يشير النص ذاته الى طبيعته الرمزية ، أي أن ينطوي على مجموعة من السمات المؤكدة التي يمكن تحديدها والإمساك بها ، سمات يحملنا النص من خلالها على القيام بتلك القراءة الخاصة التي هي التأويل “12 ، وهذا الشيء لا يمكن ان يحصل الا بعد قيامنا بعدة قراءات مختلفة لـنص ” مصاطب الآلهة ” ، من خلال الحفر والبحث لاستخراج ما اراد القاص ان يستعرضه ويقوله للقارىء :
” قام الى اميتيس ، جردها من ملابسها ، مستخدماً راس مدية مصنوعة من عظمة حصان ، وما أن دخلها حتى استغاثت ، وتولت تقطيع خيوط الحرير بيديها ” .
واخيراً ، لقد انهى السارد العليم قصة ” زو- العصفور الصاعقة ” ، باختطاف الواح الحكمة من قبل الآله زو وطار بها نشواناً ، وانهى قصة ” مصاطب الآلهة ” ، بإعلان الآلهة أن ” دهور الهلاك ” قد بدأت . وما بين سرقة الواح الحكمة / المعرفة – الفلسفة ، وبدأ دهور الهلاك / الموت ، ضاع الإنسان الحالم ، الشبيه به ، الذي كان تائهً وسط اهله ، منفياً داخل وطنه ، هارباً داخل ذاته ، متمرداً على العالم .

الهوامش والاحالات

*محمود جنداري – ” مصاطب الآلهة ” قصة ، مجلة الاقلام العدد 6 في 1/ يونيو / 1988م، دار الشؤون الثقافية ، بغداد / العراق .
جميع الاقتباسات التي ترد في متن الدراسة مأخوذة من نص قصة ” مصاطب الآلهة ” المحصورة ما بين الصفحات 59 – 67 لمجلة الاقلام الانفة الذكر .
1-محمود جنداري – الاعمال الكاملة ، تموز للطباعة والنشر والتوزيع ، دمشق / سوريا ، 2018م ، ص 459 .
2- يقول الروائي محسن الرملي في موقع الناقد العراقي في 6/4 / 2012 في مقالة تحت عنوان ” الإنسان ..هو تراكمات مكانية قراءة في القصص الاخيرة لمحمود جنداري زو نموذجاً ” ،كان محمود جنداري ” يقرأ ملحمة كلكامش مرة في كل عام ” .
3- هايدن وايت – محتوى الشكل : الخطاب السردي والتمثيل التاريخي ، ترجمة : د نايف الياسين ، هيئة البحرين للثقافة والآثار ، المنامة / البحرين ، 2017م ، ص 363.
4- محمود جنداري – الاعمال الكاملة ، ص 457.
5- هايدن وايت – محتوى الشكل ، ص 384.
6- جين ب تومكنز – نقد استجابة القارىء : من الشكلانية الى ما بعد البنيوية ، ترجمة :حسن ناظم و علي حاكم صالح ، دار الكتاب الجديد المتحدة ، بيروت / لبنان ، ط2 ، 2016م ص113 .
7- محمود جنداري – زو – العصفور الصاعقة / قصة ، مجلة الاقلام العدد 11- 12 في 1 ديسمبر 1988م ، دار الشؤون الثقافية ، بغداد / العراق
8- محمود جنداري – الوجه الواحد في خطوات المسافر نحو الموت ، مجلة الاقلام العدد المزدوج 11- 12 نوفمبر 1970م ، بغداد .
9- فولفغانغ إيزر – التخييلي والخيالي ، ترجمة : د حميد لحمداني و د الجلالي الكدية ، مطبعة النجاح الجديدة / الدار البيضاء ، 1998م ، ص 13 .
10- أسامة غانم – جدل التأويلية : الكتابة / النص – القراءة / الفهم ، دار الحكمة للطباعة والنشر والتوزيع ، القاهرة ، 2022م ، ص 74.
11- م . ن ، ص 73.
12- تزفيتان تودوروف – الرمزية و التأويل ، ترجمة وتقديم : د اسماعيل الكفري ، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع ، دمشق / سوريا ، 2017م ، ص 44 .
  • عن مجلة الرقيم

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *