قراءة جيفري ميرز الصهيو-استعمارية لكتاب البروفيسور إدوارد سعيد، الاستشراق

(ثقافات)

 

قراءة جيفري ميرز الصهيو-استعمارية لكتاب البروفيسور إدوارد سعيد، الاستشراق

تقديم وترجمة: محمد نور النعيمي**

د. محمد نور النعيمي

بدايةً سأقتصر في تقديم مراجعة جيفري ميرز التالية لكتاب إدوار سعيد، الاستشراق، على نقطتين اثنتين فقط؛ النقطة الأولى، وتتعلق بإلقاء بعض الضوء، وبشكل مختصر، على العلاقة بين الاستشراق (وخاصة الإنجليزي منه كما مثَّله ت. إي. لورنس المعروف بـــ “لورنس العرب”) وبين الصهيونية، والنقطة الثانية – وهي متعلقة ومتداخلة مع النقطة الأولى – وتتعلق بإيضاح سبب اهتمام جيفري ميرز بـــــ ت. إي. لورنس.

 فجيفري ميرز ناقد أدبي أمريكي يهودي، وهو، إضافة لكونه متخصصاً بالأدب الإنجليزي الحديث، مهتم بشكل رئيس  بـــ “لورنس العرب” الذي أطلق عليه الكاتب هنري لورنس بــــ “المغامر والمستشرق” (1) والذي، كما هو معروف تماماً، عمل كمخلب للاستعمار الغربي في بداية القرن العشرين مما أدى بالتالي إلى تقسيم شرق المتوسط العربي بين فرنسة وبريطانيا. ولا ريب في أن قيام الحكومة الإنكليزية في خداع العرب واستمالتهم للقتال إلى جانبهم ضد العثمانيين قبيل الحرب العالمية الأولى واستخدامها للمستشرقين الإنجليز مثل د. جي. هوغارث وتلميذه ت. إي. لورنس للقيام بذلك يظهر بشكل جلي في كتابه أعمدة الحكمة السبعة  (2)ليس فقط كيفية ذلك الخداع وتلك الاستمالة للعرب بل وكيف خدم اولئك المستشرقون الصهيونية . نجد ذلك واضحاً في إحدى رسائل لورنس الشخصية المبكرة التي كتبها من الجليل في فلسطين إلى أهله خلال فترة  التحضير للحرب العالمية الأولى والتي لا يبوح فيها بالجو السياسي العام المهيمن في الغرب وخاصة في إنكلترة آنذاك فحسب، بل بنية الإنكليز في إعطاء فلسطين لليهود. إن فحوى جوهر تلك الرسالة مُشاب بنوع من الحنين إلى الزمن السابق للفتح العربي لفلسطين (أو بلاد الشام عموماً من قبل الرومان) كي يبرر إعطاء الإنكليز ما لا يملكون لمن لا يستحقون. ويبرر ذلك في أن فلسطين تحولت برأيه بعد الفتح العربي إلى خيام متناثرة في صحراء جرداء ويأمل في أن اليهود الذين سيهاجرون إلى فلسطين سيحولون “مستعمراتهم إلى جنان على الأرض”. وفي هذا السياق يقول:

كانت فلسطين آنذاك مقبولة ويمكن أن تكون كذلك ثانية. وكلما عجَّل اليهود في استصلاحها كلما كان ذلك أفضل: فمستعمراتهم بقع مضيئة في الصحراء (3).

 هذا الهوى الصهيوني على المستوى الشخصي عند لورنس الشاب أكده الكاتب هنري لورنس، المذكور آنفاً، بقوله: “وفي الجليل يعجب [لورنس] أيما إعجاب بعمل الرواد الصهيونيين الذين هم بسبيلهم إلى تحويل فلسطين” إلى بقع خضراء في الصحراء (4). هذا الهوى الصهيوني في نفس لورنس يشكل السبب الجوهري الكامن وراء اهتمام جيفري ميرز الكبير وتخصصه بعمل لورنس وإنتاجه للعديد من الكتب التي تتناول شخصه وكتبه، كُتبت كلها بنَفسٍ يساهم بتحويل الأخير إلى أسطورة تصل إلى حد التقديس، وبشكل أكثر رزانة وذكاء مما فعلته دعاية الأمريكي لويل توماس(5)، كرد للجميل على موقفه من تسهيل استعمار فلسطين من قبل الصهاينة. وهنا نرى تطابق النزعة الصهيونية الاستعمارية الاستعلائية مع النزعة الاستشراقية الاستعمارية تهيمن على مراجعة جيفري ميرز التالية لكتاب الاستشراق.

 فما أن نشر سعيد كتاب الاستشراق (1978) حتى انهال عليه الهجوم من كل حدب وصوب والسبب في ذلك يعود إلى أن كتاب إدوارد سعيد أحدث حين صدوره هزَّة قوية في عالم الفكر الغربي تشبه سقوط حجر ضخم في مياه راكدة وخلق تفاعلات فكرية بدأت آنذاك ولم تنته حتى يومنا هذا لأنه لم يُعَرِ هذه العلاقة بين الاستشراق والصهيونية فحسب، بل وضع اصبعه على الجرح في كثير من القضايا الأخرى التي كانت تعتبر من المسلمات والمقدسات التي لم ينجح أحد من المفكرين قبله على المساس بها بهذا الشكل الفكري العميق الشامل والمفصل والمزلزل الذي قوض هذه المسلمات.

فإدوارد سعيد، الفلسطيني الغريب، قام بنقل النظرية النقدية إلى الولايات المتحدة في العديد من كتبه مثل، بدايات، العالم والنص والناقد، والاستشراق، والثقافة والإمبريالية،  مصححاً مسارها وذلك بربطها بالواقع السياسي والثقافي والفكري، فبرز ليس كمفكر عالمي ينظر إليه الأوروبيون بعين الإعــجــاب والاحترام والغيرة، على حدٍّ سواء، وكناقد أدبي موسوعي وعازف موسيقي وسياسي ملتزم بقضيته وقضية شعبه الأم التي لم ينساها، ألا وهي قضية فلسطين، ومُطِلع على أكثر من لغة وأدب وثقافة متجاوزاً حدود الثقافة والأدب الغربيين، رغم أنه يتكلم من داخلهما. في الواقع ثمة جملة من الأمور الأخرى تكمن خلف الهجوم على سعيد شخصياً وعلى أفكاره؛ أول هذه الأمور عرضه لمظلومية شعبه الفلسطيني وما ارتكب بحقه من جرائم وما تزال ترتكب حتى الآن؛ وثانياً، انـتقـاده للسياسات الاسـتـعـمـاريـة عموماً والسياسة الإمبرياليـة الأمريكية التدخلية خصوصاً؛ وثالثاً، لأن أفكاره لا تقوض كثير من الأساطير الاستعمارية فحسب، بل وتساعد شعوباً وجماعات كثيرة في الدفاع عن قضاياها التحررية كالمستعمَرين والمرأة والسود، على سبيل المثال، فهو مثقف عضوي يبحث عن الحقيقة وإزالة الظلم والطغيان عن المظلومين أيا كانوا، ينظر مباشرة إلى القوة الغاشمة نظرة تحدي، عارضاً سردية، ليس شعبه الذي تشرد من أرضه ونضاله من أجل استعادة أرضه فحسب، بل سردية كل مظلوم؛ ورابعاً، لأنـه جعل الغربيين يعيدون النظر بالكثير مما كانوا يعتبرونه علوماً موضوعية كالاستشراق والدراسات الشرق أوسطية ودراسات ما بعد الاستعمار والنقد الأدبي وعلوم الإنسان وغيره من العلوم. فعمل سعيد، بكلمات ثائر ديب المختصرة والمعبرة، “يطل منه” المرء “على تناقضات العصر وكروبه”(6).

 كانت أسباب هذا الهجوم على سعيد ومشروعه إذاً متعددة ومن قبل نقاد من مختلف الاتجاهات والمشارب. ويمكن تصنيف مــهـاجـمـي سعيد ونـاقــديـه كـالـتــالـي: أولاً، بعض المستشرقين والأنثربولوجيين أمثال برنارد لويس وإرنست جلنر الذين كانوا متحصنين خلف نوع العلم بدأ يتغير أو يتلاشى نتيجة تطبيق سعيد للنظريات الحديثة عليه – كأفكار فوكو وغرامشي و فيكو، على سبيل المثال – وهم يرفضون، ليس فقط تدخل العلوم الأخرى بحقلهم، بل مجيء غريب (من أصل غير أوروبي) إلى ذلك الحقل، حيث يُظهر سعيد أن علمهم ليس بالعلم المـوضـوعـي ولـيـس نـبـيـل المقصد. ثانياً، مجموعة من المعتاشين من الإدلاء بآرائهم عن العرب والذين يسمون بـــــــ “خبراء” الشرق الأوسط، وهم في حقيقة الأمر أناس مؤدلجون يخدمون سياسات الدول الكبرى أمثال دانييل بايبس الذين لا يعرفون الواقع العربي ولا اللغة العربية. وثالثاً، ثلة من غير الأوروبيين، المقلدين للغرب الذين أنكروا انتماءهم لثقافتهم الأصلية وتبنوا الثقافة والهوية الغربيتين، أمثال ف. س. نيبول، أي أولئك الذين انبهروا بالغرب فأخذوا ينظرون إلى شعوبهم نظرة دونية (7). ولكن الهجمة العاتية التي تعرض لها سعيد وفكـره كـانـت هـجــمــة اللوبي الـصـهــيــونـي فـي أمريكا وأوروبا، إذ أنه وصف من قبل صهاينة أمثال بول بوغدانور وسنثيا أوزيك على أنه “من نوع النازي” وأنه “إرهابي” بل “أستاذ الإرهاب” وتلقى تهديدات بالموت واقـتــُحـم مكتبه ومنع من نشر آرائه في كثير من الصحف والقنوات الأمريكية نتيجة سيطرة الصهيونية عليها. إن مراجعة جيفري ميرز التالية لكتاب الاستشراق تنضوي ضمن هذا الخط المترع بالدفاع عن كل ما هو استعماري وعنصري وصهيوني متعجرف حيث يصل التطابق بين النظرة الصهيونية اليمينية المتشددة والتراث الاستشراقي الاستعماري الغربي إلى أوجه رغم كل التطور الذي أحدثه سعيد في الوعي الغربي وفي العديد من العلوم الإنسانية، لأن الغرب الاستعماري الذي  زرع الصهاينة في فلسطين رأس حربة له في قلب الوطن العربي، لا يعير سوى آذان من طين وعيون عمياء لحقيقة شعب يناضل يومياً ليعيش بكرامة على أرضه التي اغتصبت منه من قبل شذاذ آفاق ادعوا أن فلسطين هي أرض بلا شعب، وعندما اكتشفوا ذلك الشعب الذي رفض المذلة أخذوا باستخدام التراث الاستشراقي (وخاصة البريطاني منه) كأسلوب عمل للسيطرة على الشعب الفلسطيني بالحديد والنار، كما فعلت بريطانيا سابقاً مع الشعوب المستعمرة الأخرى، وذلك بالتجسس اليومي عليهم (من خلال استغلال حاجاتهم اليومية للعيش في عمل ملفات عنهم خدمة لأهدافهم الاستعمارية في السيطرة) وإقامة معسكرات الاعتقال لهم؛ وإن لم يسكتوا فبقتلهم بدم بارد؛ وهذا منهج استمر منذ زرع الكيان الصهيوني في قلب الأمة العربية حتى اليوم. إن وجهة نظر ميرز الصهيونية المشوبة بالعنصرية والتزمت والاستعلاء، كما هو واضح في مقالته، ترى أن في الاستعمار فضيلة يجب أن يتعلم من خلالها العرب “معنى الحرية” وفوائد الاستعمار الـــ “إيجابية” ؛ وميرز، كغيره من المستشرقين والصهاينة، يرى في العرب أمة دونية وفي الإسلام رمزاً للرعب والتدمير والهمجية.

الناقد الأدبي الأمريكي جيفري ميرز

مقالة جيفري ميرز:

إدوار سعيد، مؤلف كتاب الاستشراق، هو عربي فلسطيني تلقى علومه في الشرق الأوسط وأمريكا وهو […] أستاذ الأدب الإنكليزي بجامعة كولومبيا في نيويورك؛ ينمُّ كتابه عن علم وأسلوب رفيع في الكتابة وهو كتاب جذَّاب وغاضب ومستفز، ولكنه أيضاً بلا شكل إذ يتسم بالعناد والاضطراب والتكرار والتشويش والإزعاج.

يرى سعيد أن “الشرق اختراع أوروبي، فقد كان منذ القدم مجالاً لقصص الحب والمغامرات والمخلوقات الغريبة والذكريات الملحة والمناظر الطبيعية والتجارب المهمة”. إنه يعتقد أن الكتابات الغربية حول الشرق الأوسط، رغم أنها مبنية على التشويه وعدم الدقة، خلقت جسماً فاعلاً من النظرية والممارسة وأسست فكرة التفوق الأوروبي التي لم تُثر مقاومة عنيفة من جانب الشرق.

لقد فرضت أوروبا أساليبها وعاداتها واعتقاداتها الدينية وقيمها الأخلاقية على طريقة حياة غريبة عنها وبررت الإمبريالية التي بدأت مع احتلال نابليون لمصر عام 1798 بتأكيدها أنه من الأفضل للشرق أن يكون تحت السيطرة الأوروبية التي ستعلمه معنى الحرية من أن يكون تحت نير الاستبداد المحلي. ويدحض سعيد هذه المقولة دحضاً مقنعاً غير أنه لا يُقِرُّ بالمظاهر الإيجابية للإدارة الاستعمارية من ثقافة وعناية صحية وطرق مواصلات واتصالات.

وعلى الرغم من أن سعيداً يجادل من أجل نسبية ثقافية cultural relativism  (محاولاً رؤية الحياة الشرقية بشكل فردي ومتعاطف وحدسي) على أنها شيء معارض للتمركز العرقي (رؤيتها فقط من وجهة نظر الثقافة الغربية). ويبدو أن سعيداً لا يُسلِّم حتى بالمؤلفين المتعاطفين من ذوي الثقافة الرفيعة مثل ستندال Sendal  وهنري جيمس  Henry James، عندما يكتبون عن الإيطاليين، وهم الأكثر وضوحاً للأوروبيين والممكن فهمهم، حيث إن هؤلاء الكتاب كانوا خاضعين على نحو لا مفر منه للقيم الثقافية الخاصة لبلدانهم وأزمانهم. إن وعي الثقافة الغربية كان بشكل طبيعي أكثر توتراً حين كان الأوروبيون يواجهون الشرق؛  فـــــ “الإدراك المتجرد من التخوف” كان مستحيلاً عملياً. ويمكن التأكيد، مثلما يفعل آرثر كويستلر Arthur Koestler في كتابه،  زهرة النيلوفر والربوت The Lotus and the Robot، أن حدود ثقافة امرئ ما تمنعه من أي فهم حقيقي لحضارة غريبة عنه. ومن هنا لم يكُ بإمكان الغربيين رؤية الشرق إلا بعيون غربية.

لا يعير إدوارد سعيد اهتماماً كافياً للأسباب التاريخية التي ساعدت على تحديد متلازمة syndrome لما يدعوه بالاستشراق. فبعد الفتح العربي الذي لم يسبقه فتح مثله والذي امتدّ من مكة حتى المغرب، فإن الحملات الصليبية – وهي المفهوم المقابل للجهاد – رسَّخت بذور العداوة التاريخية والدينية بين الشرق والغرب. وقد اشتد الخطر على المسيحية من جانب الإسلام الذي جاء “ليرمز للرعب والتدمير، وكل ما هو شيطاني ولرعاع من الهمجيين المكروهين”، وذلك عندما تحولت أرض المعركة من أطراف أوروبا إلى مركزها: إلى رونسيسفال Roncesvalles، بعد الفتح المغربي لإسبانيا وإلى أبواب فيينا Vienna بعد سقوط القسطنطينية [بيد العثمانيين].

ويضاف إلى ذلك عامل آخر ألا وهو أن الشرق قد وصل إلى ذروته الثقافية خلال القرون الوسطى حين مَثَّلت بغداد وقرطبة قمة الحضارة ثم آلت إلى الانحطاط؛ لقد أمست لحظة الشرق العظيمة هذه من الماضي، في حين طوَّرت أوروبا عظمتها الفنية وقوتها العسكرية خلال عصر النهضة والثورة الصناعية، إذ اكتشف الغرب، لا الشرق، كنوزَ الشرق الأثرية والنفطية، وبعمله هذا قوَّض امتياز الشرق وقوته وأفرغه من محتواه.

لقد هيمن الرأي الغربي أيضاً لأنه لم تكن ثمة صورة شرقية قوية مضادة لا عن الغرب ولا عن الشرق لتعارض هذا الرأي وتوازيه فـــــ (“الشرق لم يستطع تمثيل نفسه”). وكما أوضح أحد الباحثين أن الإسلام “لم يكن مهتماً بشكلٍ فعالٍ بدراسة بنية الثقافات الأخرى، سواءً أكانت هذه الدراسة غاية في حد ذاتها أم وسيلة لفهم شخصيته أو تاريخه الخاص بشكل أفضل”. ويُقِرُّ سعيد أن هذا الوضع هو نفسه اليوم كما كان في بداية القرن التاسع عشر: “ظل العالم الإسلامي قوة من الدرجة الثانية فيما يخصُّ إنتاج الثقافة والمعرفة والبحث العلمي”. فليس هناك مكتبة واحدة محترمة في كل الشرق الأوسط وليس هناك دورية رئيسة تنشر الدراسات العربية في العالم العربي اليوم وليس هناك معاهد مخصصة لدراسة العالمين العربي والغربي: “باختصار فإن الشرق الحديث يساهم بتشريق نفسه”.

إن سعيداً، في أفضل حالاته، وإلى حدٍ بعيد، في الفصول الوصفية عن تطور البحث العلمي الشرقي منه في حماسه الجدالي، ينتقد ويستنكر إلى حدٍ ما كلَ كاتبٍ (ابتداءً من إسخيلوس ويوريبيدس Euripides، الأعداء الوطنيين للفرس) كتَبَ حول الشرق الأوسط؛ غير أن محاجته هذه غير منصفة وغير مقنعة لأنه يتجاهل قصداً المواقف الإيجابية تجاه الشرق ويقلل من شأنها ويشوهها. ويلحُّ سعيد في لحظة تغافل على أن سِنَّ التقاعد الإجباري (خمس وخمسون سنة للإداريين الاستعماريين) لم يُحَدد كذلك لأسباب صحية أو لأمور متعلقة بالكفاءة، ولكن كي “لا يُسمَح لأي شرقي إطلاقاً أن يرى الغربي وهو يهرم ويشيخ”.

وثمة مناقشة محدودة لمفهوم التفوق الشرقي (القوي على وجه الخصوص في اليابان) عن الفكرة الرومانسية المؤثرة القائلة أن الغرب يجدد ذاته من خلال آسيا، وعن الشرق كمصدر للروحانيات والحكمة القديمة، وعن جاذبية الشرق الفاتنة عند كُتَّاب مثل ييتس Yeats، وباوند Pound، وإليوت Eliot، وهيسه Hesse، وفينولوسا Fenollosa، وكلوديل Claudel. ثم إن سعيداً لا يناقش إطلاقاً ما إذا كان للأحكام السلبية عن الشرق أي شرعية.

فنادراً ما يذْكرُ سعيد الاستثناءات العظيمة للرأي الاستشراقي المتمثلة في آراء كتّاب معادين للإمبريالية مثل ج. أ. هوبسون G. A. Hobson، و ويلفرد بلَنتBlunt  Wilfrid، الذي عارض كرومر Cromer ودعم المؤسسات الوطنية الحرة والسيادة القومية المصرية. وحتى أن سعيداً لم يُذكَر ستيفن رَنسيمان Steven Runciman الذي يجعل صلاح الدين بطلَ كتابه التاريخي الضخم عن الحملات الصليبية، ولا ويلفرد ثييزغا Wilfred Thesiger الذي يقول بتفوق الثقافة العربية في كتابيه، الرمال العربيةArabian Sand    وعرب الأهوار The Marsh Arabs . ويذكر سعيد بعجالة دولاكروا Delacroix الذي يشكل تناقضاً أخاذاً مع الرؤيوي غوستاف مورو Gustave Moreau؛ ولقد صرف سعيد النظر على غير وجه حق عن كامو Camus الذي دعم الجزائريين طوال حياته. أما كونراد Conrad و مالرو Malraux فلم ينالا منه إلا كلمة ثناء عابرة. في حين امتدح سعيدٌ ريتشارد بورتون Richard Burton الذي حج إلى مكة متخفياً في زي طبيب هندي،  “لمعلوماته الواسعة حول الشرق التي تَظْهَر في كل صفحة كتبها، وتُظْهِرُ أنه عرف أن الشرق عامةً والإسلام خاصةً كانا نسقين من أنساق المعلومات والسلوك والاعتقاد”.

إن أضعف نقطة في نقاش سعيد هو تأويل النصوص الأدبية. فهو مندهش على نحو ساذج لاكتشافه الحقيقة الجلية أن لدى الكُتاب اهتماماً بذاتهم يفوق اهتمامهم بموضوعاتهم وأنهم يتأثرون بأساطيرهم الخاصة وهواجسهم ويفضلون الخيال على الواقع. إن سعيداً غيرُ مقنع عندما يدَّعي أن قراءة فلوبير Flaubert كان لها تأثير في عمله أكثر من تأثير الاستجابة الخيالية المباشرة لواقع الشرق.

وسعيدٌ لا يقرأ النصوص الأدبية – بل يقرأ فيها؛ وإساءة تأويله لأعمال فورستر Forster وأوروِيل Orwel   و ت . إي . لورنس T. E. Lawrence توحي بارتيابٍ عميق في منهجه. إنه يكتب قائلاً إننا نُتْرك في نهاية “الخاتمة المخيبة للآمال” من كتاب، ممر إلى الهند A Passage to India: “مع شعور من المسافة المحزنة التي ما تزال تفصلنـا عن شرق قُدِّر عليه حمْلُ أجنبيته بوصفها سمةً دائمةً تجعله غريباً عن الغرب”. ولكن فورستر المتعاطف مع الرأي الهندي على الدوام والمعارض للرأي الإنكليزي (الذي يُوضح أن الطبيبَ عزيزاً أفضلُ من كاليندار*، وأن اتهامات أديلا Adela مزيفة)، يأسف لهذا الانفصال بين العرقين أسفاً عميقاً، ويؤكد أن فيلدينغ Fielding وعزيزاً لا يمكن أن يكونا صديقين أبداً ما لم تُلغَ الامبريالية، الأمر الذي يجعلهما متساويين.

وبالمثل، فإن سعيداً يؤكد أن “الشعوب المستعْمَرة كما رآها جورج أورويل في مراكش عام 1939، يجب ألاّ يُنْظر إليها إلا على أنها نوع من الانبثاق القاري continental emanation، الأفريقي، الآسيوي والشرقي”. ولكنه يتجاهل حقيقة أن أورويل، في مقالته المعادية بشدة للاستعمار، يستنكر الإمبراطوريات التي تختزل المخلوقات الانسانية الفردية إلى نكرات وتتجاهل كيف يعيشون بفقر، وكيف يموتون ببساطة.

إن إساءة قراءة سعيد الأكثر خطورة تخص كتاب ت. إي. لورنس، أعمدة الحكمة السبعة Seven Pillars of Wisdom، إذ أنه يفترض– وهو مخطئ تماماً في هذا الافتراض – أن لورنس كان عميلاً إمبريالياً، وينتقده حتى عندما يعتمد لورنس نوعاً من النسبية الثقافية التي يدعو إليها سعيد. إذ يكتب لورانس لصديقه: “باعتقادي أنني أستطيع فهم [الإسلام (الأقواس للمؤلف)] بما فيه الكفاية لأنظر إلى نفسي وإلى الأجانب الآخرين من زاويتهم، دون شجبه”، “أعرف أنني غريب عنهم، وسوف أكون دائماً كذلك”. وعلى الرغم من أن لورنس يُقرُّ بشكل محدد أنه لم يكُ يكتب تاريخ الثورة العربية، بل كان يكتب عن دوره الخاص في الحرب ضد الأتراك، فإن سعيداً ينتقده لأنه “يُقحِم تجربته العارِفة بين القارئ والتاريخ”. وعلى الرغم من أن لورنس كان مسؤولاً عن إلهام وقيادة الثورة العربية “مسِّرعاً تبلور شكل … آسيا الجديدة  [التي] كان الزمن يجلبها نحونا بلا هوادة”، لتصنع الممالك الهاشمية في سوريا والعراق وعبر الأردن، فإن سعيداً يعاقبه لإخفاقه في إدراك حقيقة أن العرب سيقومون في نهاية المطاف [ولكن متى وكيف؟ – (الأقواس للمؤلف)] بصراعهم مع الأتراك دون الأموال والسلاح والقيادة الانكليزية، وكذلك “أنه حتى بدونه، فإن العرب سيقومون في النهاية بالعمل نفسه”.

وعلى الرغم من أن سعيداً يقدم تحدياً مفيداً وأحياناً مدمِّراً لافتراضات الغرب غير المفنَّدة حول الشرق، فإنه يضعف مناقشته بتشويهات جدلية ويصفع أصدقاءه وأعداءه على حدٍ سواء.

 – *جيفري ميرز أكاديمي وناقد أدبي وسينمائي وكاتب سيرة أمريكي يهودي (صهيوني النزعة)، كتب سيرة العديد من الأدباء المشاهير مثل د. ه. لورنس، ت. أس. إليوت، روبرت فروست، جورج أرول، و ت. إي. لورنس (المعروف بلورنس العرب)، وآخرين، كما أنه  درَّس الأدب الإنكليزية الحديث في كثير من الجامعات الأمريكية والأوروبية والآسيوية. ومراجعته منشورة على الموقع التالي:

  88 (2): xlv-xlviii.  Meyers, Jeffrey. “Under Western Eyes.” Sewanee Review (Spring 1980),-

 ** – أكاديمي ومترجم سوري مقيم في هولندا.

١ – لورنس، هنري، المغامر والمستشرق، تر. بشير السباعي (القاهرة: المشروع القومي للترجمة، العدد ٥٣٢، ط.١، ٢٠٠٣.
٢ – انظر
  – توماس إدوارد لورنس، أعمدة الحكمة السبعة، تر. محمد النجار (عمان-الأردن: المكتبة الأهلية للنشر والتوزيع، ١٩٩٨).
– T. E. Lawrence, Seven Pillars of Wisdom: A triumph (New York: Doubleday, Garden City,
   1926: 1938).
3 -The Letters of T. E. Lawrence, edited by David Garnett (London: Jonathan Cape, 1938),
     p.74 (The translation of the quotation is mine).
٤- لورنس، هنري، المغامر والمستشرق، ص ٥٧.
٥ – كان لويل جاكسون توماس كاتباً أمريكياً ومذيعاً ورحالة واشتهر بسبب عمله الدعائي الواسع لشخصية لورنس العرب في أمريكا بعد أن زار الأخير في الجزيرة العربية وأخذ له الكثير من الصور في عدة وضعيات استخدمها من خلال الشاشة العريضة وضمنها لاحقاً في كتابه التالي:
– Lowell Thomas, With Lawrence in Arabia (New York & London: The Century CO., 1924.
٦-’ملف إدوارد سعيد: إدوارد سعيد ونقاده الماركسيون ‘بواسطة ثائر ديب، العربي، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ص ١، والمقال منشور على العنوان التالي:
https://alarabi.nccal.gov.kw/Home/Article/83
٧ – هنا لن أتناول نقاد سعيد العرب الذين وقفوا موقفاً سلبياً من عمله إذ أن موقفهم يستحق مقالاً خاصاً به وذلك لاختلاف طبيعة الأسباب الكامنة وراء ذلك الموقف.

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *