*د.فيصل غرايبه
( ثقافات )
حسنا فعلت وزارة الثقافة الأردنية عندما أعادت ترجمة النسخة العربية لكتاب ميكافيلي الشهير” الأمير”، مما يتناسب مع أجواء الاصلاح الذي بدأ يزدهر في عالمنا العربي في موسم الربيع العربي،تلك الآجواء التي أظهرت طبيعة طبائع الشعوب، ومنها الشعب العربي في مختلف أقطاره، فعندما يقول ميكيافيلي “أن طبائع الشعوب متقلبة، بحيث يكون من السهل إقناعها بأمر ما، ولكن من الصعوبة بمكان حملها على الالتزام بقناعتها لأمد طويل”، نرى أن ذلك تجلى في تصرفات الحراك الشعبي ومواقفه من القرارات والاجراءات الرسمية في أقطار الربيع العربي.كما أن القادة الجدد الذين مكنهم ذاك الحراك من اعتلاء سدة الحكم، في الأقطار التي رحل فيها حكامها نتيجة لهذا الحراك الشعبي، ينطبق عليهم توصيف ميكيافيلي:” أن المواطنين العاديين الذين يرتقون بفضل الحظ إلى مرتبة الإمارة،لا يواجهون في طرقهم صعوبات كبيرة لأنهم يقفزون فوق الظروف؛ لكن ما إن يصلوا إلى سدة الحكم، حتى تداهمهم المخاطر، وتحدق بهم التحديات، فيلقون عناء شديدا للحفاظ على إماراتهم”.تلك الحالة التي ينسحب عليها كذلك قوله:”لا يمكن لنا أن نطلق الفضيلة على أفعال من قبيل اغتيال المواطنين وخيانة الأصدقاء، ونكث العهود” .ويتأكد فيها تصوره في:”أن الرغبة في التملك نزعة طبيعية وعامة لدى كل الناس. فالذين ينجحون في تحقيقها يلقون الثناء وليس اللوم؛ أما من يقدمون على إحراز مكاسب إضافية بأي ثمن، ودون أن تكون لهم القدرة على ذلك، فإنهم يرتكبون خطأ فادحا يستحقون عليه الشجب والتثريب”.
تعامل أولي الأمر مع النخبة:
وإذا ما انتقلنا مع ميكافيلي ليطالب الحكام، كما طالب الشباب العربي حكامه القدامى والجدد في دول أزمة الربيع:”بمعاملة النبلاء بطريقتين: فإما أن يحكمهم بشكل يجعل مصيرهم مرتبطا بمصيره، أوعكس ذلك، أما الذين يرتبطون بالأمير- ويقصد الحاكم ومن بيده الأمر- دون أطماع شخصية فيستحقون العناية والتشريف، وأما الذين يبتعدون عنه فيجب أن ينظر إليهم من خلال فرضيتين: إما أنهم اختاروا ذلك الموقف عن جبن وضعف طبيعي في الشخصية، وهؤلاء يمكنه استعمالهم، ولا سيما من يحسن منهم إسداء النصح ما داموا سيشرفونه أيام الرخاء ولن يضروه بسوء أيام الشدة والاضطراب. وأما الذين يتخذون مسافتهم عنه بناء على طمع وتخطيط مسبق، فهذا دليل على أنهم يفكرون في مصلحتهم الخاصة قبل مصلحة الأمير/ الحاكم، وعلى الحاكم أن يحذر من هذا الصنف من النبلاء، ويعتبرهم أعداء حقيقيين؛ لأنهم يكونون على أتم استعداد، في حالات الاضطراب، للأضرار به والمساهمة في دماره”، وهذا ما كشفت عنه ارهاصات الأحداث المتوالية وتداعياتها فيما بعد في تلك الأقطار.
صداقة أولي الأمر للشعب:
ويواصل ميكيافيلي – كما العقلاء من ذوي الخبرة الرصينة في عالمنا العربي اليوم- نصائحه لا بل مطلبه ممن يصل إلى سدة الحكم بتأييد شعبي “أن يعمل من أجل الحفاظ على صداقة الشعب، وهو أمر يسير لأن الشعب،عادة، لا يريد شيئا أكثر من تجنب آفة الطغيان. وأما الذي يصبح حاكما بمساعدة الطبقة العليا، ضد إرادة الشعب، فيجب عليه أن يسعى إلى كسب عطف الشعب أولا”. أما كيف يتحقق له ذلك بسهولة؟ يجيب على هذا السؤال فورا: “إذا سهر على حمايته”؛ ويعلل هذا المفكر السياسي البليغ ذلك ببيان: “أن الناس إذا رأوا الخير ممن لا يتوقعون منه إلا الشر، تعلقوا به وأحبوه أكثر من أي حاكم آخر اختاروه بأنفسهم” موضحا الفكرة التي تنطوي على نصيحة للحكام الجدد في عالمنا العربي اليوم على أساس أن بإمكان من بيده الأمر “أن يكسب ود الشعب بطرق شتى تختلف باختلاف الظروف، ولا تحكمها قاعدة مطلقة” ويحرر هؤلاء القادة من القواعد الأصولية الثابتة، ليبلور الأمر بضرورة “أن يحظى بصداقة الشعب” ونساله وان لم يحصل هذا؟ فيجيب:”وإلا فانه لن يجد علاجا للصعوبات التي ستواجهه لاحقا” .
يعطي ميكيافيلي بذلك وصفة تصلح للقادة والحكام الجدد في عالمنا العربي، حين يقول: “الذي يتجنب كراهية الشعب، يضع نفسه في مأمن من الهجمات الخارجية،وإذا ما جازف أحد بمهاجمته، فانه سيمنى بهزيمة محققة”واذا ما سألنا عن سر هذه الوصفة، نراه يبين:”لأن مجريات أمور الحياة تتغير بوتيرة سريعة، يتعذر معها على صاحب الأمر أن يخوض حصار مدينة لمدة سنة كاملة بجيش متوقف عن الحركة” ورب معترض يقول بان الشعب عندما يرى ممتلكاته تتعرض للإتلاف خارج المدينة، ينتابه القلق على مصالحه، ويضيق ذرعا بالحصار، فيتنكر لالتزاماته تجاه حاكمه.فيبشر ميكافيلي القائد الحاكم المقتدر والشجاع بأنه “سيتغلب دائما على مثل هذه الصعوبات، تارة بإعطاء شعبه الأمل في انفراج وشيك للوضع القائم، وتارة أخرى بإثارة مخاوفه من شراسة العدو وقسوته، إلى جانب اتخاذه لتدابير دقيقة ضد كل الذين يبدو منهم أي تطاول”.
التعامل بين اولي الأمر والمواطنين خلال الأزمات:
يذكر ميكيافيلي بأن “من طبيعة البشر أن يرتبطوا بأعمال الخير التي تبدو منهم أو تلك التي يتلقونها من الغير على حد سواء”، وفي ذلك تسهيل على القائد/الحاكم عندما يقصد المحافظة على جسارة مواطنيه وإصرارهم وقدرتهم على التحمل – خلال مدة الحصار- (أو قل خلال الأزمات وأيام الشدة عموما حسب تعبيرات ومواقف العالم المعاصر)، طالما عمل هو على توفير ما يكفي من الموارد ووسائل الدفاع اللازمة، وكأنه يؤطر مقومات القائد/ الحاكم الذي ينال تأييد وتآزر شعبه. اذ يوضح ذلك بايراد حقيقة حول القائد الذي لا يرى الشرور في مهدها، فهو لا يتمثل فعليا هذه الحكمة النادرة التي لا تتوفر إلا للقليل من الناس. ويورد على ذلك مثالا مرتبطا بالإمبراطورية الرومانية، فإذا بحثنا مثلا عن السبب الأول لانهيارها، فإننا سنجده يكمن في استخدامها واعتمادها على القوات القوطية، فمنذ ذلك الحين بدأ الوهن يدب في جسم قوات الإمبراطورية، التي أصبحت تفقد كل الامتيازات، لتمنح للجنود القوطية الأجنبية، ليخلص الى نتيجة مفادها:أن الدولة-أية دولة- من لا تعيش آمنة بدون جيش وطني؛ لأنها تظل رهينة لعجلة الحظ، غير محصنة بالقوة والوفاء اللازمين لصد الأعداء. ومن هناك جاءت الحكمة القائلة:(لا شيء أضعف ولا أكثر هشاشة من سمعة دولة قوية لا تستند الى قواتها الخاصة).لذلك يفترض ميكيافيلي في القائد/الحاكم أن يعتني بهذه القواعد وعدم الخلود للدعة في أوقات السلم، وأن يستغل فترات الهدنة، ليجعل منها ذخيرة يستثمرها أيام الشدة، حتى إذا ما انقلبت عله صروف الدهر، وجدته على أتم استعداد لمواجهتها.
المفاضلة بين الهيبة والمحبة:
ينتقل ميكيافيلي في كتابه الشهير “الأمير” بعد ذلك، الى العلاقة بين الحاكم ومواطنيه، من خلال سؤال كبير فحواه: “هل من الأفضل للمرء أن يكون محبوبا أكثر منه مهابا أو العكس؟” مجيبا نفسه على ذلك:”أن الإنسان يود لو يكون محبوبا ومهابا في الوقت نفسه، لكن مع استحالة الجمع بين هاتين الفضيلتين، فان الأكثر أمنا بالنسبة إلى الأمير/ الحاكم هو أن يكون مهابا على أن يكون محبوبا، لا سيما إذا تعذر عليه الجمع بين الصفتين. ويضيف الى ذلك أن من الممكن أن يطلق المرء حكما عاما على البشر، باعتبارهم مجبولين على نكران الجميل والتقلب والتظاهر والخديعة؛ أو أنهم جبناء أمام الخطر تواقون إلى الربح،يطيعون حاكمهم ما دام يحسن إليهم. لذا فان على صاحب الأمر العاقل أن يعتمد على الأشياء التي يتحكم فيها بنفسه فقط، وليس على الأمور التي تكون خارج سيطرته؛ شريطة أن يتجنب آفة الكراهية.
وكأن ميكيافيلي يجمل هذا الواقع بوجود صراع ذي طريقتين الأولى تعتمد على القوانين، والثانية تعتمد على القوة، فالطريقة الأولى من شيمة الإنسان، بينما الثانية من طبيعة الحيوان، وما دامت الطريقة الأولى لا تفي دائما بالغرض، فانه من الملائم اللجوء إلى الوسيلة الثانية. لذا على القائد/ الحاكم أن يتظاهر أمام من يراه أو يستمع إليه، بكل مظاهر الرحمة والوفاء والنزاهة والإنسانية والتدين، فإذا أظهر هذا القائد أنه يسعى إلى الانتصار والحفاظ على الدولة، فان كل الوسائل التي يستعملها ستحظى باحترام الجميع وتقديرهم؛ لأن عامة الناس لا تعنى بطبيعتها إلا بظواهر الأمور وخواتيمها، وما من شيء يكسب القائد/ الحاكم المحبة والتقدير من شعبه أكثر من انجاز أعمال عظيمة، وإبراز كفاءات هائلة.ومن هذه الكفاءات أن يتجنب بكل ما في وسعه الوقوع تحت رحمة الغير. يشفع ميكافيلي ذلك بالقول “ان الذي لا تربطك به صداقة يريد أن يراك محايدا، بينما يتطلع صديقك إلى أن تحمل السلاح إلى جانبه”.
مسالك الدولة بين الآمان والمخاطر:
ومن جهة أخرى يوجب هذا المفكر الاجتماعي السياسي على القادة الحكام، لا بل على كل الدول “أن لا تتوهم بأنها ستسلك طريقا آمنا، وإنما عليها أن تعتبر كل خيار أو سبيل محفوفا بالمخاطر؛ لأنه من طبيعة الأمور أن تجد الدول نفسها، كلما تخلصت من خطر تواجه أخطارا جديدة لم تكن في الحسبان، وهذا شأن الدول العربية الآن. فتبرز من ثنايا هذا الوضع الدعوة الى أن يدرس المسؤول بإمعان، نوعية كل المخاطر التي تعترض سبيله، فيختار أقلها ضررا على مجتمعه.
أما عن اختيار الحاكم لوزرائه، فيعتبره ميكيافيلي أنه ليس بالأمر الهين، فهؤلاء إما أن يكونوا مناسبين أوغير مناسبين، وأن أول انطباع عن ذكاء ذاك القائد يأتي من قيمة الرجال المحيطين به،فإذا كانوا أكفاء ومخلصين توسم الناس فيه الحكمة، لكونه استطاع اختبار كفاءتهم والاحتفاظ بولائهم وإخلاصهم، وأما إذا كانوا عكس ذلك، فانه يصير عرضة للنقد، لأن أول خطأ ارتكبه تجسد في سوء اختياره لوزرائه ومعاونيه.
مواصفات الأشخاص الذين تسند اليهم المسؤولية:
ويورد ميكيافيلي تصوره لما يجب أن تكون عليه العلاقة بين الحاكم والمسؤول الذي يوكله بتفيذ المهام، وخاصة في الدرجات العليا من المسؤولية، مثل أن يمنحه حظا من المسؤولية، وذلك لإشعاره أنه لا مكانة له من دون كرم من فوضه بتلك المسؤولية، “حتى لا تحمله مظاهر التشريف إلى طموح أكبر، ويدفعه الثراء إلى طلب المزيد من الثروة”، مثلما أن عليه أن يمنحه مسؤوليات كثيرة، تجعله أخشى ما يكون على ضياعها. فمتى كانت العلاقة بين المفوضين بالمسؤولية كالوزراء والقادة الحكام على هذه الشاكلة، كانت ثقتهم بعضهم ببعض متبادلة ومتينة، وأما إذا كانت عكس ذلك، فان عاقبة الأمور بالنسبة لهما معا تكون سيئة.ويختم رأيه بالقول: على صاحب الأمر أن يسعى دائما إلى طلب النصح وفق إرادته لا برغبة غيره،بل إن عليه أن يكبح جماح كل من تسول له نفسه إسداء النصح له ما لم يطلب منه ذلك،وفي الوقت نفسه عليه أن يكون كثير السؤال وجيد الإصغاء للحقائق في نفس الوقت، كما أن عليه أن يبدي غضبه لكل من يحجب عنه الحقيقة بدافع الاحترام أو لأي اعتبار آخر .
السعادة والعمل والقدر:
ويظل يحوم في فضاء كتاب “الأمير” ما يكتنف حياة الانسان،فالناس يظلون متشبثين بطرقهم المعهودة، والسعداء هم الذين تتوافق طرق عملهم مع مشيئة القدر؛ وأشقياء هم الذين تتعارض أساليبهم مع إرادتهم، ويظل الحظ دائم التقلب، ويطل صاحب هذا الكتاب يعبر عن قناعته بأن الاندفاع أفضل وأنجع من الاحتراز والتردد، لأن ربة الحظ امرأة تخضع لمن يقسو عليها، ولا تذعن إلا لمن يحكم قبضته عليها، وكامرأة فهي تحب الشباب من الرجال لكونهم أقل تحفظا وأكثر شراسة، ولأنهم من فرط شجاعتهم يعرفون كيف يتحكمون في عجلة الحظ. أما اذا عدنا الى مستوى الفهم والادراك فان بالإمكان تقسيم العقول لدى البشر إلى ثلاث طبقات: عقل يدرك الأشياء بنفسه، وعقل يدرك ما يفهمه غيره، وعقل ثالث لا يعي الأمور لا بنفسه ولا بغيره. فالعقل الأول “ممتاز”، والثاني “جيد” وأما الثالث ف “لا جدوى منه”.
الأطروحات العربية المعاصرة في الاصلاح:
أما الأطروحات العربية المعاصرة في الاصلاح الشامل فتختلف الهويات التي تتناولها، بين أصولية ويسارية وقومية، الا أنه تجمعها خصائص مشتركة تتمثل بـتلك الثقة التامة بآليات تاريخية، يقتنع أصحابها بانتصارها في النهاية،مقابل رفضهم التام للواقع القائم، وهم ينظرون إليه نظرة جزئية نابعة من التبعية، كتبعية القيم عند الأصوليين، وتبعية الاقتصاد عند الماركسيين، وتبعية التجزئة عند القوميين،بينما تتوفر فيها صفة مشتركة فيما بينها، هي صفة غياب ملحوظ لتصورات واقعية تنقل الحالة العربية من وضعها الراهن غير المرضي عنها إلى المستقبل المنشود، والذي يطمح كل منها إليه في حياة المجتمع. تجمل تلك الأطروحات تحديات الحياة العربية بتحديين كبيرين هما: الأمن القومي والتنمية، موحية بعدم التفاؤل من الوصول إلى المستقبل المنشود في ظل ظروف تقوم على اختلالات أيديولوجية وظيفية أحدثتها خصائص النظام العربي برمته، هذا النظام الذي يكرس القطرية والتبعية، ويتفاوت بين دوله اقتصاديا وسياسيا وحضاريا.
كما يوجه معظم ما طرحه الفكر العربي المعاصر اللوم إلى طبيعتين في الحياة العربية، هما طبيعة الثقافة وطبيعة التربية،, وتكادان يكبلان الأجيال لتعجز عن المضي نحو المستقبل، إذ تقوما على الانشداد إلى الماضي، بشكل يجعل النخبة العربية في حالة قلق، وهي تبحث عن تساؤلها الملح والمتكرر ما هو الموقف المطلوب من العرب.. وطنا وأمة ؟ فهل نسير مع خط تنشه الداعي إلى تحرير التاريخ (أي الماضي) من العقل والرجوع إلى الأسطورة أو الرمز.. وتحرير العقل من التاريخ(أي من الأصول والقبليات والبناءات الفكرية الشمولية)؟ أو على عكس ذلك هل مازلنا في حاجة إلى إتباع الفكر الهيجيلي الذي أعطى للتاريخ عقلا يحكمه ويقوده إلى التقدم .
التقدم العلمي والانجاز التنموي:
يرى “علي أومليل” أن العرب يدركون أن وراء القوة العسكرية الغربية تقدما علميا وثقافيا وتطورا إنتاجيا وتنظيميا، وتقيدا بالدستور ومساواة وضمانا للحريات، بحيث أصبح المحدثون يفكرون في إطار ثنائية التقدم/التأخر، وأن الإصلاح قد أخذ وجهة المستقبل بدل الثبات على الماضي،أما “مسعود ضاهر” فيرسم معالم فجوة في النظرة المحدثة للإصلاح،تقع بين حلم التغيير وبين الواقع المأساوي للعرب في عصر العولمة،وردم هذه الفجوة لا يتم إلا ببرامج عقلانية طويلة الأمد متنورة القيادة. بذلك نؤسس المجتمع المدني المنشود الذي يدعو إليه “برهان غليون” والذي تسوده ثقافة حية تخضع لعوامل تاريخية واجتماعية واقتصادية وسياسية، تزيل التوتر بين حدي كل ثنائية كالوعي/الواقع، الذات/الموضوع، الحضرية/المستقبل، الحلم/الإمكان.ويربط “محمد جابر الأنصاري” ذلك في انفتاح الفكر العربي على أولويات الثقافة الأوروبية واستيعابها، ليتمكن من تقبل اتجاهاتها.
التغيير في إطار حلم أيديولوجي:
غير أن الإصلاح كما يرى “الجابري” قضية تسعى إلى التغيير في إطار حلم أيديولوجي. ولكن المشروع الإصلاحي يقع دوما في حيرة بسبب ما أسماه “الطاهر لبيب” النزعة الوسطية التي نشأت من حالة اللجوء إليها كخيار لحل الثنائيات، مثل:الأصالة/التجديد،الحداثة/التقليد، القديم/الجديد. ويضيف “على أومليل” إلى ذلك تحول الثقافة القومية إلى ثقافة معولمة على شكل منتج ثقافي بقالب إعلامي وحتى ترفيهي، حول الثقافة إلى قضية إستراتيجية قسمت المجتمع إلى فئة قادرة على مواكبة الاقتصاد ومسايرة حركة الإنتاج الجديد وكثرة لا يسعفها تكوينها التقليدي في أن تندمج في النسيج الاقتصادي والحراك الإنتاجي.
يستطرد”أومليل” لينتقد التعليم الذي لا يحدد النخبة حجما ومواصفات، إنما يحدد التفاوت الاجتماعي والتوارث الطبقي للسلطة والثروة،وهذا ما يفسر ضعف القاعدة الاجتماعية للحداثة في المجتمع.ويمضي “جلال أمين” مع هذا التوجه في تشخيص العلة الإصلاحية العربية فيقول أن الانتقال إلى المربع الايجابي لا يمكن تحقيقه إلا باستعادة الدولة القومية لقوتها .غير أن “عبد الله العروي” يعلل ذلك بسبب آخر يتمثل بعدم انتفاع المجتمع العربي بمثقفيه، اذ لا يتحرر المثقف فعلا، فكيف يمكن له أن يعين مجتمعه بالتالي على التحرر. ولكن للأسف فان العديد من المفكرين العرب المعاصرين قد قام بعملية إسقاط للمستقبل المأمول على التاريخ العربي, فأحدثوا تزييفا للوعي بإسقاطهم لأحلام المستقبل على حقائق الماضي. أفلا تشكل هذه الحقيقة دعوة إلى نشوء ثقافة حية توجد حلولا ايجابية لإزالة التوتر بين حدي كل ثنائية؟ كالوعي مقابل الواقع, والذات مقابل الموضوع, والحاضر مقابل المستقبل, والحلم مقابل الإمكان؟
خاتمة:
ان الاجابة الفعلية على مثل هذا التساؤل بمكانها أن نؤسس لمجتمع مدني، تتحول فيه الثقافة إلى استثمار لإنتاج القيمة الأساسية التي تتأسس التنمية عليها، ألا وهي الإنسان، هذا في الوقت الذي دخل فيه المجتمع العربي مرحلة أفول حضاري عند التقائه بالمجتمع الغربي الحديث, لم يقتصر على الجانب التنموي، بل تأكد وجوده في الجانب الثقافي,على شكل اقتباس فكري وتقليدي وسلوكي.هذا بالاضافة إلى حالة الانفصال الدائم للمثقف عن محيطه, سواء كان من ذوي الفكر التقليدي السلفي، أو من ذوي الفكر الانتقائي.هذه الحالة التي اعتبر “الجابري” فيها المائة سنة الماضية من الحياة العربية،بمثابة عصر تدوين رسمنا خلاله في وعينا، صورة للماضي والمستقبل ل”نحن”و”الأخر”،ونحن منفعلين لا فاعلين, يقودنا عقل غير واع بذاته, عقل تائه يبحث عن تمتين علاقته بـ [عقل الماضي], بدل أن يربط نفسه بـ[عقل العصر]، ويكون هو نفسه إحدى تجليات العصر,وما تزال الحالة مستمرة الى ما بعد حلول موسم الربيع العربي،لا بل وللآسف أنها تترسخ.
________
*باحث اردني في قضايا الاصلاح والتنمية