مشتل الأصابع الملوِّنة

(ثقافات)

مشتل الأصابع الملوِّنة

محمد كريش

(فنان تشكيلي من المغرب)

(الفنانة التوحدية العالمية: Yayoi Kusama)

تبقى كلمة “التوحد”، اصطلاحا، تصنيفا “إكلينيكيا” يشمل أطيافا واسعة من مرض التوحد، حيث تندرج ضمنها أنواع كثيرة وأشكال مختلفة، تتعلق بالأمراض والإعاقات السيكولوجية والذهنية، والاعتلالات الإدراكية الحسية، التي تعطل التواصلية والأداء الطبيعي، لهذه الفئة من الأشخاص المصابين، في أوساطها الاجتماعية… وهذه الاعتلالات، بشكل عام، هي الصفات والخصائص التي تميز التوحديين عن غيرهم “النوروتيبيك”… من بين هؤلاء؛ أصحاب متلازمة أسبيغجير  (Syndrome d’Asperger) والتي  ليست بمرض عقلي من أصل نفسي، بقدر ما هي اضطراب في النمو العصبي التطوري، من أصل جيني/ وراثي… هؤلاء “الأسبيغجيريون”؛ هم توحديون، لكن، دونما إعاقة ذهنية أو تأخر لغوي، بل منهم من يتميزون بقدرات كلامية “طبيعية” على مستوى تعبيريتها وتواصليتها، فضلا عن تمتعهم بمؤهلات ومهارات إبداعية جمالية ذات جودة عالية، وقدرات متفردة من حيث الابتكار والخلق…

الفنون، على اختلاف أجناسها وممارساتها المتنوعة، والتي تتمايز في طبيعتها وأدواتها وأنساقها المعرفية، والجمالية الإبداعية والأسلوبية… (من موسيقى، وغناء، ورقص، وتمثيل (المسرح)، ورسم… إلخ) تعتبر بامتياز، المنفذ الأمثل، والمادة الأجدر للتعبير الذاتي، والتواصل الأفقي الاجتماعي (أفراد وجماعات)، هي أداة لها المكنة ( من حيث الفاعلية والنفوذ والسبر والتأثير…) في اختراق تلك الحدود القصوى، التي يعجز عندها الكلام واللغة عن تحقيق مهمة التبليغ والإيصال والإفصاح، أي حينما تصير الذات والكينونة، منحصرتين ومنقطعتين عن امتداداتهما، ضمن بعدهما الوجودي الجمعي ( البيئي المادي، والسيكولوجي والعاطفي والتواصلي…) وعليه، تبرز هنا الأهمية القصوى التي تكتسيها الفنون (باعتبارها شكلا مخصوصا من أشكال التواصل، ووسيلة للإعراب عن المكنونات وتسجيل الأحاسيس والأفكار) أي كونها لغة متفردة، ليست كاللغات التواضعية (المنطوقة والمكتوبة)، فهي لغة بمعجم ينبني أصلا من مفردات تتعلق بالحقول الأساسية التالية: الصوتي والحسي الحركي والبصري… (مفردات نغمية، وحركية، وأيقونية، ولونية، “وقد تنطبع الأيقونة بالصيغة الشكلية المختزلة، أي برمزية مشفرة، كما يمكن أن يكون توظيفها عن وعي تام، بدلالتها وسلطتها الترميزية، أو عن غير ذلك… إلخ”) فتغدو لغة الفن، السبيل الأقدر، والمؤهل أكثر، للنفاذ إلى المنطقة المتحررة من كل تلك القيود، اللسانية والمعرفية، تلك المنطقة المشرعة على تواصلية مطلقة، على سماء الخلاص الصرف، حيث كل الأدوات اللغوية قد انصهرت جميعها في تلك “اللغة الجوهر”، المتجذرة في صميم النزعة السلوكية للخلق البشري، والتي تتفجر تلقائيا من “الكون الفرداني” صوب الآخر الصنو، ونحو الغيري من الكائنات والأشياء حولنا، وليست سوى تلك الحاجة الفطرية للترابط مع النظائر… وهاهنا، وارتباطا بالنشاط الفني، تتبدى بجلاء حقيقة كون الرسم، (“الفنون التشكيلية” بالمعنى الأدق) لغة بصرية مثلى، لبلورة جسور فنية جمالية تواصلية، ثنائية الاتجاه، أولا، جسر واصل من وإلى هؤلاء التوحديين ذاتهم، ثانيا، جسر يصلهم بالآخر المتلقي، ثم منه إليهم… إن ممارسة التشكيل لدى الشخص التوحدي، تذيب لديه الكثير من المعوقات، وتبدد عدة حواجز جسدية وذهنية، وبالتالي، تؤهله لتجاوزها بسلاسة، ودونما كبير مشقة، ثم كذلك، إنها تقيم بينه وبين ذاته ومحيطه، تواصلا معينا (ماديا وسيكولوجيا ووجدانيا…) كما تعمل على استدامة هذا التواصل وتكريسه وتنميته…

يبلور التشكيل متنه البصري التعبيري بتوظيف عناصر أساسية تشخيصية أو مجردة، كالشكل واللون والخامات، ويهندس منها تراكيبه وحبكاته البصرية، كما يفعّل، في ذات الوقت، تقنيات فنية وتشكيلية معينة، وممارسات وأداءات ومهارات حرفية، إبداعية جمالية…

الألوان، هي المادة الغامرة التي تسربل حياتنا، وتستوطن ذاكرتنا وأحلامنا، إنها تشكل أساس ذاك التغاير والتمايز البصري للأعيان، المؤثثة لبيئتنا الطبيعية، ثم، ومن خلال ذلك، تخلق قوانين دينامية بيئية، وروابط بصرية، وجدانية وعاطفية وسلوكية، فضلا عن تلك العلاقات الميتافيزيقية، بين الوجود وأشيائه وكائناته… الألوان تكتنز سلطة استثنائية، من حيث تعبيريتها وتأثيريتها النافذة، وذلك، بفضل ثراء وتنوع مساحات ذاك التناسق والتجانس في مقاماتها اللونية اللامتناهية، وغزارة إيحاءاتها ورمزيتها… الألوان تستثير فينا تلك المشاعر والأحاسيس الدفينة، المختلفة والمتضاربة في أعماق “لا وعينا”، مشاعر تغمرنا وتكتسحنا، بشدة، كلما تملينا مظاهر توهج بديعها الإستطيقي، وتدبرنا بديعها المعنوي والدلالي والثقافي… إنه ذاك الجمال الذي يسترعي اهتمام التوحديين، فينجذبون إليه بكليتهم لاعتباره منفذا حقيقيا إلى عالمهم التوحدي، ووجدانية ذواتهم المنعزلة…

الرسم يستدعي توفر قدر ما من الاستعداد والحس الفني والجمالي القبلي، في حين، يبقى استنبات جذور هذا الاستعداد، منوطا، أساسا، بالمحيط الأسري، ثم موازاة، بالبيئة التربوية والتعليمية والفنية، وبالمتابعة النفسية… فذلك، يساعد مباشرة، الطفل التوحدي، على الرغبة والاستمتاع بممارسة الرسم، وفي الوقت نفسه، يتمرس على التفكير عن طريق اللعب، والتسلي بالألوان، كما التعبير عن ذاته من خلال اختبار الإبداع، والابتكار بالشكل واللون والخامات… ولا شك في أن الأثر الإيجابي لذلك، يتجلى بوضوح، على مساره في الحياة، إذ من المعلوم أنه بفضل تنمية تلك القدرات، في مرحلة الطفولة الغضة، تكون، لاحقا، النتائج النسبية، أفضل بكثير، وممتازة على امتداد مراحل ما بعد الطفولة، أي المراهقة وما بعدها.

يميل، عادة، التوحديون إلى العزلة، ويعجزون عن تفسير عواطفهم والتحدث عنها، لكن، أحيانا تكون لديهم موهبة وإبداع فني قد يعجز عنه الإنسان العادي… وكما أشرنا لذلك آنفا، يعتبر الرسم لغة تعبيرية يمكن الارتكاز عليها لاستبطان واستنباط ما يفكر به الطفل التوحدي، وما يختلجه من مشاعر وعواطف ومعاناة صامتة مكبوتة،لمكتومةه من_____________

تسيها النفسي ته____ وتطلعات مكتومة، وذلك في ضوء التحليل النفسي السلوكي للرسومات، باعتبارها مفاتيح معرفية، سيميائية ودلالية، محمولة على تيماتها التشكيلية…وهكذا، يتوضح أن للرسم جانباً علاجياً مهماً جدا، إذ تبين، بالتجربة، أنه عن طريق ممارسة التوحدي للرسم والتلوين، يمكننا المساهمة، بشكل كبير، في تعديل سلوكياته الآنية والمستقبلية، ومساعدته على التخلص من الكثير من معوقاته النفسية والإدراكية والتواصلية، أو على الأقل، الحد من وطأتها عليه، وبالتالي، تأهيله، نوعا ما، لتجاوز تحديات واقعه المعيش…  وفي ذات السياق، نورد هنا، تجربة الدكتور “كريستيان أكرابار”، أخصائي في الأعصاب والطب النفسي، الذي ابتكر، قبل 60 سنة، العلاج بالألوان (الكروموطيرابي/ Chromothérapie )، وهي وسيلة للمساعدة في إشفاء بعض الاضطرابات الجسدية والعاطفية، من خلال استخدام الألوان. وهذا الأسلوب العلاجي، له تأثير مباشر على العقل والجسم، وهو مزيج من علم النفس والفن، والفيزياء والطب… الألوان لم تكن، أبدا غائبة عن برامج الاستشفاء والتطبيب القديم، إذ خلال العصور والأزمنة البعيدة، تم بالفعل، استخدام الألوان، بالإضافة إلى العلاجات الطبية الأخرى، وعلى سبيل المثال، لقد حضرت الألوان قديما في طب “أبقراط”، ثم عند “ابن سينا” ​​في القرن التاسع، كما تم استخدامها على نطاق واسع، في الثقافات الغربية والشرقية البعيدة: كالتيبتية والصينية والهندية، ولاحقا العربية… وقد ساد استغلال الألوان بتوظيفها بكثافة في الهندسة المعمارية ذات النوافذ والمشربيات، والقبب الزجاجية الملونة والثريات، والتي تحيل الضوء لإلهام رائق للقاطنين والزوار، وتساهم في راحتهم وسكينتهم… وقد كان “باراسيلسو” في القرن الخامس عشر، و”إسحاق نيوتن” في القرن السابع عشر، و”غوته” في القرن التاسع عشر، مقتنعين جدا بمزايا الألوان، وتأثيراتها الإيجابية في الجانب النفسي، والعاطفي والجمالي للإنسان…

إن مزايا التشكيل، وتأثيره ووقعه الإيجابي على الطفل التوحدي، لا حدود لها، ومنها، على سبيل المثال، وباختصار:

– من خلال أعمال/لوحات المصاب بالتوحد، يمكن للطبيب الأخصائي النفسي، أن يرسم شبكة بيانية مُجلية للحالة المرضية، كما الوقوف عند تلك الجوانب التي طالما يستعصي تقصيها بالسبل التحليلية العلاجية التقليدية. كذلك، يمكن تحديد ملامح توصيفية لشخيصة المريض، على مستوى الانفعالات السلوكية السلبية، والاضطرابات النفسية التي تنتابه إزاء بعض الألوان (كما أثبتها العلاج النفسي  المعرفي) خلافا لألوان أخرى، تعجبه ويستحسنها، وبالتالي، يؤهلنا ذلك لتوفير محيط بيئي صحي، مريح وملائم للاستشفاء ( مثلا، الدقة في انتقاء الطلاءات والستائر، والألبسة واللُّعب، بألوان معينة دون غيرها)… وفي السياق ذاته، فمعروف منذ القدم، أن لكل لون وقعه الخاص، إيجابا وسلبا، على وجدان الناظر وسيكولوجيته، كما أن للون امتدادا ميتافيزيقيا غائرا في الذات، والكينونة البشرية، تبعا للموروث الثقافي والمعرفي والديني والجغرافي… إذ لا بأس، بالمناسبة، من إدراج بعض الملامح السيميائية، والرمزية والتعبيرية الدلالية، لبعض الألوان، الأكثر تداولا في الحياة الخاصة والعامة، فرادى وجماعات… فمثلا، اللون الأصفر يرمز للنور والفرح والصداقة، والدفء العاطفي، لكنه في سياقات أخرى معينة، قد يعبر عن القلق، والغش والمخاتلة، والجبن مع الخيانة، والكبرياء… أما اللون الأحمر، فيرمز لفيض الحياة والقوة، والطاقة والعاطفة الجياشة، والرغبة الجامحة والشهوانية، والحب، لكنه، وفي حالات كثيرة، يصير رمزا للغضب المفرط  والعنف، والخطر والدم، والمنع والعدوانية… في حين،  اللون الأزرق، يرمز كثيرا إلى الذكاء، والثقة في النفس، والأحلام والحرية والانطلاق، والهدوء والنقاء، والحكمة، كما يعبر عن البرد، غير أن الأزرق في درجاته الداكنة، يغدو مؤشرا على الحزن والاكتئاب والشك، والعتمة الضاغطة… أما اللون الأخضر، فيرمز، بامتياز، إلى الطبيعة والنضارة، ونبض الحياة، والتناغم والخصوبة، والاستقرار الروحي، غير أنه في الوقت ذاته، يمكن أن يدلل على الغيرة والفشل، والمعاناة والفراغ العاطفي… أما بالنسبة للأبيض، فيعبر عن البراءة والطهرانية، والحكمة والجلاء الصوفي، والسلام والأمان، ولكنه، يعتبر، أحيانا، مؤشرا على الصمت والفراغ، والغياب والحزن… أما الأسود، فيعبر عن الأناقة والفخامة، والصمود والصدود، والصرامة واللغز، غير أنه في سياقات خاصة، يوحي بالخوف والحزن، والموت والحداد، واليأس والكبت، والعزلة والظلام والكمون… أما الرمادي، فيعتبر الحيز البيني، القائم بين منزلتي الأبيض والأسود، ويرمز عادة إلى الغموض والحيرة، والشك والتيهان، إنه اللون المهاجر، إذ لا ملجأ له ولا انتماء ولا اسقرار… إنه لون الغربة والغرابة…

لقد أسلفنا الذكر، عن كون الألوان تتنوع وتتعدد بلا نهاية، مسربِلة الوجود، وبالتالي، تكيف حياتنا ونفسيتنا، وسلوكياتنا، وأذواقنا بشكل جلي، وليس ذلك، سوى لأننا نقيم معها، في صميمنا الخالص، ارتباطات أزلية، وجدانية وعاطفية، كوننا جزءا لا يتجزأ من الطبيعة، كما أن الطبيعة شرط لسيرورة وديمومة حياتنا… التشكيل يشتغل بالأشكال والألوان. في التشخيص؛ الشكل/الرسم هو المهيمن، ووعاء للون، بينما، هو عكس ذلك في التجريد… لكن، مهما تكن عليه صيغة المنجز ( أي نوعية المتن البصري التشكيلي) فالأشكال والألوان هي معجم الدلالات ومرجعها، وبالتالي، القراءة السيميائية والمعنوية تنطلق منها وتعود. فالأخصائي في التوحد، يتكئ أساسا عليها، في غور وسبر ما اندفن في غياهب نفسية المريض، وعبرها يستبطن ما عجز الكلام عن البوح به، وبالتالي، هي وسيلته المثلى في رسم شبكاته التحليلية البيانه، لشخصية المريض، والتي تشكل دعامة استشفائية موازية…

– بشكل خاص، الرسم في الورشات الجماعية، يؤهل التوحدي لربط علاقات اجتماعية، تواصلية مع زملائه وبناء صداقات معينة…

– التشكيل، يسمح لنا بوضع شبكة العلاقات الأسرية والاجتماعية المرتبطة بالوسط الحياتي الذي يعيش فيه التوحدي، أولا، على مستوى أُولئك الأشخاص الاستثنائيين، الذين يشكلون السند والركيزة في حياته، ويهبونه استقراره النفسي، ثم ثانيا، على مستوى أُولئك الأشخاص الذين يحجم عن الارتباط بهم أو التعامل معهم.

– الرسم نشاط ذهني وجسدي/حركي وعاطفي، ناجع وفعال في استفراغ الطاقة السلبية الناتجة عن الضغط النفسي عند التوحدي، كما ينمي لديه الثقة في النفس، وتقدير الذات وإعلانها.

– الرسم  يمثل مناسبة للتعرف على الألوان الطيفية، واكتشاف إمكانياتها ووظائفها الإبداعية، والجمالية والتشخيصية، مما ينمي الحس الجمالي، والذوق الفني لدى التوحدي، وذلك عبر اختبارها في التعبير عن خواطره وأفكاره، وطموحاته وهواجسه… وبالتالي، الرسم يمنح إحساسا غامرا يفيض بسعادة خالصة، إنه ذاك الانبهار اللذيذ، المواكب دوما لعملية إبداع وابتكار عوالم ملونة، يؤثثها التوحدي بشخوصه وكائناته المحببة، وحدائق حميمة مجللة بالجمال، والتي تنبثق من بين أصابعه على البياض، إنها نشوة الخلق، الروحية والوجدانية.

– التشكيل، يغدي عند المريض البعد التخييلي، ويوسع آفاقه الابتكارية والإبداعية، مما يمنحه منفذا معتبرا لتبديد انطوائيته وتقوقعه الذاتي، كما يقلص من وطأة الخوف والتوجس لديه، ويساعده (كما أسلفنا الذكر)، على استفراغ  الغضب والقلق، وتلك العدوانية الناجمة عن إحساسه بالعزلة والإقصاء…

– إن التتبع والمعاينة التحليلية المستديمة للمنجزات الإبداعية للتوحدي، يمكنان من قياس مدى فعالية الدعم النفسي وتكييفه، ونجاعة العمليات العلاجية وتطورها.

بالنسبة لـلأخصائية في إعاقات النطق عند الأطفال (أورطوفوني)  ”  Priscilla Werba ”  إن الهوايات الإبداعية تمنح الأطفال فخرا كبيرا عبر تصميمهم وإبداعهم شيئا ما بأنفسهم، ونقله إلى المنزل، لإظهاره لآبائهم وأسرهم. فهي طريقة لإذهالهم، والإعلان عن وجودهم،  كذوات جديرة بالتقدير والاحترام…

كثير من التوحديين، وبالخصوص “الأسبيغجيريون” تحولوا إلى هامات ومراجع في مجالات فنية وفكرية وعلمية شتى، ومن ضمنها الفنون التشكيلية، من بينهم، على سبيل المثال لا الحصر، الفنان الرسام المعاصر، شتيفن ولتشاير (Stephen Wiltshire ) والذي يتمتع بقدرات خارقة على مستوى التذكر، حيث باستطاعته أن يرسم مدينته “لندن”، بشكل مفصل ودقيق، انطلاقا من ذاكرته فحسب… وفي ضوء الأبحاث والمقاربات التحليلية الحديثة، المرتبطة بدراسة سيكولوجية التوحد، خلصت النتائج إلى أشياء مذهلة، حيث تبين أن كثيرا من المفكرين العباقرة، والرسامين والعازفين والفلاسفة… لم يكونوا سوى توحديين، ومن بين هؤلاء، عالم الرياضيات العبقري الروسي “ڴريڴوري پيريلمان”، الفيلسوف “نيتشه”، الموسيقي “موتزارت”، الرسام والنحات “ميخائيل أنجلو”.[1]… العالمة الباحثة “ماري كوري”، الرسام ” فينسنت فان خوخ “، الكاتب “مارك توين”، الفنان “أندي وارول”، الموسيقي العبقري “بيتهوڨن”، الممثل “وودي ألان”، المخرج والمنتج السينمائي العبقري ” ستيفن ألان سبيلبرغ “، المؤسس لشركة مايكروسوفت وإمبراطور الكمبيوتر ” بيل جيتس”، العالم الفيزيائي صاحب نظرية النسبية “ألبرت أينشتاين “.[2]… الممثل والمنتج الشهير ” أنتوني هوبكنز “، وغيرهم كثير… وبالتالي، تبقى الظرفية التربوية، الأسرية والاجتماعية، إضافة إلى البيئة المعرفية والثقافية، أساسيتين في بلورة وإبراز تلك المواهب والمؤهلات الخارقة، الكامنة في جؤجؤ هؤلاء المصابين بالتوحد… أما خلاصة القول، فالتوحد لا يشكل، أبدا، عائقا أمام الإنجاز العبقري البشري، بل يكفينا، أن يكمن اللؤلؤ في بواطن القواقع…

الأعمال الفنية التي نشاهدها في هذا المعرض، أعمال تتنوع عوالمها وألوانها وتقنياتها، بتنوع مبدعيها الأطفال، تبعا لنوعية إصابتهم ومدى حدتها، كما لمستوى بيئتهم الأسرية والثقافية، فضلا عن مشربهم المعرفي وذوقهم الجمالي، ومدى خيالهم… وهي منجزات تتفاوت وتتمايز في عمق بوحها أو تكتمها، كما في رمزيتها وتفردها… فليس هناك من شك، في أنها تشكل، في الحقيقة، مرايا صقيلة تعكس بجلاء ما وهبه التشكيل لهؤلاء التوحديين، من آفاق مشرعة على الإفصاح، والإعلان عن ذواتهم ومعاناتهم، وآمالهم وأفكارهم… علينا ألا ننسى، أنه قبل أن تتشكل معالم هذه اللوحات، وتنبثق عوالمها الصاخبة، أشجارا وأزهارا ملونة، كائنات مرحة، وزرقة في السماء، وقبل أن تتسربل بأنوارها الخفية، وفيض مشاعرها؛ كانت بياضا صامتا، وفراغا صرفا، لكنه بياض واعد، جعل منه الفن لحظة مشبعة بالمتعة واللذاذة، والانطلاق والسفر المبهج، والاكتشاف المدهش، لحظة تكتنز سعادة مطلقة، منحها الفن لهذا الرسام التوحدي الصغير، حينما عكف الطفل بحميمية، وبكليته الوجدانية والحركية، مستغرقا في استلهاماته وتركيب عالمه السري، منتشيا بإبرازه إلى الوجود، مَعْبَرا بصريا يسلكه الآخر، لملامسة تلك الجوانب المتنائية المضطربة، الغائرة في تلك الذات المنعزلة والمنكسرة، إذ طالما يعجز الطفل المصاب عن التعبير عنها بوضوح، وإشراكها مع محيطه، وبالتالي، التخفيف، بشكل ما، من وطأتها عليه…

هذا المعرض الجماعي، له من الأهمية التأهيلية والاستشفائية ما لا يقاس، وهو محطة ومناسبة مثلى، لتواصل وانفتاح الأطفال المشاركين، بعضهم على بعض، ثم، من جهة أخرى، يشكل تواصلا تفاعليا مباشرا مع الزوار و”الغرباء”… والمعرض، كذلك، يمثل دعما كبيرا وعاملا فعالا في تحفيز الحس الفني عند هؤلاء المشاركين، وكفيل بشحذ طاقتهم وتكريس فعل الإبداع لديهم، واستدامة ممارستهم له، إضافة إلى أن المعرض يساهم في تأهيلهم للانفتاح على الآخر، وفي استنبات تلك الرغبة التشاركية التي يفتقدونها في الغالب… وهكذا، يعد هذا اللقاء الفني مناسبة لرد الاعتبار للمنجز التشكيلي التوحدي والتعريف به، وإشاعته كظاهرة فنية جديرة بالتشجيع والتحفيز، وذلك رغبة في إدماجه ضمن الحقل التشكيلي المغربي، كقيمة جمالية مضافة، وكمكون فني قائم بذاته، له مقوماته الذاتية، الجمالية والتشكيلية، وخصوصياته المعرفية والاجتماعية…

************************

تنويه: هذه النص ورد ضمن “كاتلوغ” معرض جماعي نظم بمدينة فاس (المغرب)  شاركت فيه مجموعة من الأطفال التوحديين.

[1]  –  https://www.science-et-vie.com/archives/le-genie-de-la-folie-creatrice-36248

[2]  –  https://www.sasapost.com/autism-geniuses-art-literature-science-awards/

شاهد أيضاً

رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان

(ثقافات) رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان  صفاء الحطاب تذهب بنا رواية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *