الكراسات الباريسية التي لا تذبل في ميدان الأدب
ملاك أشرف
يكون الكتاب غريبا وجذابا عندما تصبح مُقدمته أشبه بالخاتمة وهو ما فعلتهُ الكاتبة العراقية لطفية الدليمي في كتابها التذكاري «كراساتي الباريسية» الذي صدرَ مؤخرا عن دار المدى، وبالحيرة نفسها بينَ المُقدمة التي تخفي خاتمتها تحتَ أسلوبها الأنيق، والخاتمة التي تُنازع فعلا لإظهار رونقها، تعنون الصفحة الأولى على النحو الآتي: بـ(لا الترحل بُغيَتُكَ ولا المكوث في السراب). تليها مجموعة من الجمل الصريحة الثرية مثل ثروة المرء وشعوره بكرامة جسده ونفسه، في أهم مكان أو بالأحرى جمل مُتدفقة مثل مَن يفكر بالموت، وهو في الأصل يفكر في الحُرية!
تستهل المُقدمة بخروجها من أجواء بغداد المُلوثة، أجواء مليئة بالدخان والفخاخ جراء الانفجارات المُتتالية والرصاص الذي ينهمر بجنونٍ آنذاك، وهي المأزومة بالربو التحسسي والمُكتنزة بالجمال. عامت بما فيهِ الكفاية في أوساط العاصمة المُريبة بعد اضمحلال زمن الفن والبهاء العذب، لَمْ تعد قادرة على مُواصلة رحلتها فيها بشكلٍ يرنو إلى الصراخ والرؤى المُخيفة، بما في ذلك مُقتطفات الذاكرة المريضة.
«غريبٌ أينما يعصف بك النوء أيها القلبُ، مُستوحشٌ وسط الحشود، لا المدن تغيثك ولا الوصول مرامك، لا الترحال بُغيَتكَ ولا المكوث في السراب. فإلى أين تمضي بكَ الرحلة الخادعة؟» تقول لطفية الدليمي والتساؤلات تُهيمن على ثيمةِ المقطع، الشجن والنداء يرتفعُ مُتهدجا بسبب حيرى الذهن والوجدان. إذ الهروب من الماضي يعني ترسيخ الماضي في أعماق الروح، وإبقاءه أطول فترة مُمكنة دون إدراك، على الرغم أن قلبها يتمنى أن يكونَ بحرا والملح تعويذتهُ من عفن الحياة البشرية الآيلة للتفسخ، أن تكون بحرا يعني أن تتحررَ وتسيل أينما شئت، مُتخليا عن قيود الطبيعة، القداسة الزائفة وتلفيقات الجماعة التي تسبح بينهم بطلاقة: «لو كنت البحر لنجوت من حروب الغرب والشرق وأثقال الأيديولوجيات الضاغطة، ولما كابدت الخيانات والوشايات في مدنكم». تعترفُ لطفية بجرأة بمَقتها لذئاب المدن الذين يرتدون ثوب الإنسان بثقةٍ وغطرسة في غاية الاشمئزاز، صارخة على تحديقاتهم ونفاقهم البغيض.
يرصدُ القارئ من خلال تسلسل سردها ظاهرة الجواز المنبوذ، فمُشكلة أن تحلقَ نحو بلدان عربية أُخرى بجوازِ سفرٍ مشبوه وجارح، تلكَ مذلة المُغادرة والهبوط في مطارات عربية بجواز كهذا مشكوك فيه، على حد تعبيرها، ولا يزال جواز السفر العراقي منبوذا لكن في الغرب أكثر مما هو عليه في الشرق اليوم؛ لذلك يبكي قلب المرء أكثر من بكاء المدينة المتروكة خلفه. فقالت لطفية مُستعملة فعل اليقظة (اكتشفتُ) وأسلوب الماضي المنفي بنبرة المُتكلم الخائبة الصاحية (كم أوهمتني غشاوة العاطفة) بسبب أنقاض الأزمنة وخداع الأنظمة، التي تسعى إلى تبديد استقرار الفرد: «اكتشفتُ أنها ليست بلادي التي كانت تنتحب، ليست بغداد التي تبكي، كم أوهمتني غشاوة العاطفة، كانَ قلبي هو الذي ينشج وحيدا ويتفطر، لكنهُ يُقاوم ليُبقي نبضه حيا».
الإبادات العرقية والدينية
عرفت الكاتبة الانتظار والأمل بتعريف جديد على أن الأول خدعة العاجز، والثاني أحبولة الهارب المُتورط، وهو تعريفٌ دقيقٌ لكلتا اللفظتين، يُناسب البقاء في بقعة جغرافية نظرياتها وسياساتها زائفة، تموه كلمة الوطن ثم تجعلها مُبتذلة، تلوكها ألسنة القتلة والازدواجيون وتركلها الحروب والمجازر والإبادات العرقية والدينية، التي تحولت إلى أساطير ونشرات ترفيهية لا تؤثر في الجمهور من فرط التكرار والعادة في ما بعد، فالسراب ليس إلا الوطن بينما الخلاص ليس إلا الوهم.
تستعيد لطفية تاريخ الألم بدءا من عام 2003 وصولا إلى الأعوام اللاحقة المُترعة بالأموات الناجين بامتياز، من الاقتتال المُستديم والفساد اللعين، تعززه ضحكات المُذنبين الكاذبين، الذين يكرسون الضحايا قربانا لمصالحهم وأولوياتهم. انتقدت الذكورة لكونها تعتبر النساء عورة، ويجب زجرهن وحبسهن في البيت لتوفير المُتعة والقيام بشؤون ساذجة لا تُناسب المرأة الحكيمة، ولا أناقتها التعبيرية، أو لمساتها البهية في المُجتمع العراقي، قد نجحت الأفعال الذكورية المُتورمة والفتاكة في إخراج النساء من المشهد اليومي والوسط الثقافي إلى حدٍ ما، لم تعد لشهادة المرأة أي قيمة ولم يعد هُناك احترام لوجودها المعرفي والعلمي، حيث مارس واحدهم السخرية والاستهزاء كُلما التقى بإحداهن، يتظاهر بعدم رؤيتها ويقلل من إنجازاتها بحجة العاطفة والنعومة، أو كما يسمونها الميوعة.
طرحت هذهِ الفكرة بطريقة شِعرية في مجموعتها القصصية «عالم النساء الوحيدات» سلفا، حين صورت نساء ينتظرن مصيرهن بضجرٍ، تحكمهن قيود فكرية ومُجتمعية وآثار نفسية بلغت غاية القسوة والإهانة، يكابدن الخيبة والخذلان بأسى ووحدة ساحقة للأرواح. إذن باللغة الشاعرية الرفيعة ذاتها المُختلفة عما هو سائد تعود في المُذكرات للدفاع عن المرأة، ما دامت تتعرض للظلم والتهميش ومُحاولات الإقصاء باستمرار، مُعتقدة أن كلماتها ستشفي جزءا من القارئات اللواتي يعيشن مُعاناة وبؤس القوانين الجائرة في كُل يومٍ، طالما هن موجودات في البيئات العربية المُتخلفة، لا سبيل لتحقيق الأحلام في ظل العقلية المُتحجرة التي لا تزال تسيطر على كُل شيءٍ حتى يومنا هذا.
مساحات الموت
عاشت المُؤلفة في مساحات الموت عندما كانت تعمل في مجلة «هلا» الثقافية إلى جانب كتابة بعض الفصول الروائية، في حين أنها مُحاطة بحشدٍ من المُتطرفين المُتعصبين، الذين يرغبون بفرض ثقافة واحدة ونظرة أُحادية على شعبٍ مُتنوع الأعراق والثقافات مثل شعب العراق، جازفت مرارا وواجهت المجهول يوميا، قبل أن تُغادرَ العراق نهائيا، متجهة إلى عمان ومُتجاهلة التساؤلات المُتبقية على طاولة النسيان وهي على أي هُوية ستقتل؟ لكونها امرأة أم لأنها كاتبة؟ أو بالأحرى لأنها من طائفة لا تعترف بها وتملك سمعة يسارية وامضة؟ تلكَ التساؤلات الدائرة في عقلها وأرقها على الدوام جعلتها تكدح في نهارات القتل وإهدار الدم، من أجل مُتطلبات العيش الرغيدة. تكلمت لطفية بصراحةٍ مُخيفة عن طرائق الموت المُروعة من قطع الرؤوس وانتهاء بالاغتيالات المُتعددة، من حيث خطورة أشكالها وتطبيقاتها.
يمكن أن يحدث شرخ في الزمن وفجوة في الأدب، لو تركت لطفية الكتابة لكنها لو لم تكن كاتبة لكانت عازفة كمان، أو عازفة بيانو حسب ميولها ونزعتها الأنثوية المُرهفة؛ نظرا لهذا تتجلى موسيقى كلماتها وإيقاع حروفها من خلال السرد المُنساب الشائق بلا حدود لُغوية مُعقدة وتزويقات مُبالغ بها، فكتبت ما يلي: «أريد أن أشتبك مع الكون بالورق والجذور أو بالنوتات المُبهجة وأغادر أرض الرعب إلى ترنيمات وأُغنيات حُب، وأعزز إنسانيتي بحلمٍ ورؤيا».
لا عجب في أنها تدس مقطوعات شِعرية هُنا وهُناك لتأسر القارئ وتستدرجه لقراءة السطور على نحوٍ حفري أكثر فأكثر، تمضي قائلة على هيئة قصيدة خائبة، تنهي المُخاطب المُنادى- وهو القلب- ألا ينصت إلى أنين الأحزان؛ مشبهة نفسها بامرأة مُرتعشة وشاحبة: «لا تنصت يا قلبي إلى نحيبي /أنا المرأة الخوافة التي دجنتها المدينة فشحبت روحها/ تذكر أنكَ قلب تلكَ الفتاة البرية/ التي لطالما غامرت بينَ الحقول والجداول..».
تؤمن بفكرة أن التغيير الحقيقي والفعال يبدأ من التعليم والأدب أولا، لكن المُثقفين وأهل الوعي يتفاجؤون في كُل مرة بالمناهج البائسة والطائفية، إلى جوار وسائل الإعلام المُتردية المتدهورة، المُمولة من قبل الدولة الجاهلة وأحزابها؛ لذا كانَ طبيعيا أن تنهار المُؤسسات العلمية والثقافية بسرعةٍ، وتتعثر الأكاديميات تباعا في سنوات ما بعد الاحتلال الأمريكي. بما أن جهود الفاعلين لم تظفر برغبتها في تأسيس تعليم سديد وحيوي وصحافة شجاعة مُستقلة، رغم نشاطاتهم وكتاباتهم المُرتبة والمُنمقة.
أعتقدُ أن انحدار المُجتمع يرجع إلى ركود أفراده واستسلامهم للمُغريات الخارجية الأجنبية المُصطنعة، ورطانة السياسة الديكتاتورية المُخدرة، ما يدفع ببعضهم إلى الابتذال والالتهاء التافه عن صفقات التدمير وسرقات المال العام.
تُشارك القُراء جزءا من روتينها اليومي ونمط احتفائها بالفجر، وإن أمست تخشى الاختطاف والموت، أو أن تكون خبرا صغيرا في نهاية موجز الأخبار كأي ضحية، تصور مشاهد معيشتها الصباحية بلُغة ساطعة والتقاطات ذكية لجوانب بغدادية مألوفة، أبرزها حدائق البيوت ورياح الليل المُغبرة كالتالي: «أحتفي بالفجر رغم كُل شيء وأفتح الأبواب المُحصنة بمشبكات حديدية، ينعشني المشهد الصباحي وشذا العشب ونهوض الحياة، أروي الزهور وأقطف الأقحوان الأصفر وزهور اللاتينيا وأغدق رذاذ الماء على أشجار النارنج وعريشة الياسمين، في مُعاندة نزقة ورُبما بالغة السذاجة للإرهابيين والفناء. ثمار النارنج المُتساقطة كشموسٍ صغيرة تدعوني لأهيئ عصيرا شهيا، ثمار ذهبية أطاحت بها عاصفة الليل على المرج، ورسمت صورة بديعة لطبيعةٍ لا تخوننا ولا تأبه بالموت، وتمنحنا عطاياها بلا منة». تأمل أن تحصل على وطن لا يغص بالموتى والظلام، لا يُطفئ الأضواء على ناسه المُنكسرين فيغمرهم الهلع، الجنون وسيل الدموع.
ظنت لطفية أنها ستقضي أسبوعا في عمان، بينما تنتهي الوقائع المُلتهبة والمُواجهات المُسلحة في حي العامرية، إلا أنها مكثت في البلد الغريب لأعوام، تحول الأسبوع إلى سنوات مديدة تُرعش الفُؤاد أي أنها لَمْ تعد إلى بغداد قط، بل لَمْ تودع بغداد أصلا ولعل هذهِ خطوة محورية في حياتها، وفرصة إنقاذ رهيبة قد نالتها دون تخطيطات عقلانية أو توقعات يقينية، تضمن عودتها في زمنٍ قريب من الرحيل المُفاجئ في أواخر سنة 2006، سنة العيش في اللحظة الحاضرة وعدم النطق بالمُستقبل.
ظل مُعظم العراقيين يهاجرون بالطريقة نفسها التي غادرت فيها لطفية إلى الدول العربية المُجاورة، رحل مُعظم سكان بغداد الأصليين، ما دفع بعض أهالي الجنوب وسكنة الهوامش إلى ملء فراغ المُهاجرين، وعليهِ اختلطت لهجات وألوان لا تُحصى كانَ لها وقعٌ مُؤثر في تأسيس بنية حديثة فوضوية، تحكم أرقى مناطق العاصمة، لتصبح أحياؤها مُتشابهة، موبوءة ومُعتلة، تسعل من شدة الأوساخ وطابعها البربري لاحقا.
ذكريات باريس
تسترجع ذكرياتها في باريس ومقهى الدوماغو الذي نقرأ عنهُ في كتب الأُدباء الفرنسيين، وهي تواجه مرارة الناحية المُظلمة من طلب اللجوء والتخبط كيلا تتنقل أكثر من اللازم بينَ باريس وعمان دونما داعٍ وبرهة من الهدوء والبقاء الأبدي. تأبى صور سارتر ودو بوفوار وهمنغواي الاختفاء من جدران ذلكَ المقهى المُشرق والذاكرة العريقة. ينتظر المُسافرون خارج العراق اتخاذ قرارهم المصيري الحاسم؛ خوفا من مخاطر ومتاعب الغربة المُباغتة، والمُتربصة بهم، وحذرا من التيه والتوجس اللانهائي في مدن فخمة لا تعبأ بأحد، ولا تتوقف للحظة من أجل عربي طارئ ومُتعب، يختلق القصص والمآسي بغية الإقامة والتمتع قليلا، هروبا من الوحشة وصفة النكرة المُقترنة بالمَهجر: «يبقى ذلكَ العدم المقرون باقتلاع مُوجع ومُحاولة مد جذور واهنة في تربةٍ صلدة» هكذا تهمس لطفية عندما تجالس روحها في أمكنة المنفى المُترفة، التي حرضت الذاكرة على الامتلاء بالغرباء.
تتماشى مع رأي الشاعر ريلكه والرومانسيين اليائسين، فهم يرفضون باريس ويصفونها بأنها عاصمة الألم، يشعر المرء فيها بالانسحاق والغربة، وما صخبها سوى صمت أخرق وما ازدحامها سوى خواء، المدن تشوه الفرد وتجعله ضئيلا وتهدد كُل ما هو إنساني فيه، تحوله إلى عبد لإرادة القوة ووسواس النفوذ، أنا أتفق واختلف مع هذهِ النظرة ولا مجال لعرض أسباب الاتفاق والاعتراض الجلية كتعاقب الساعات. يمنحُ بعض الشعراء ومنهم كاترين سايمون- المُتأثرة بروحانيات الشرق- للكاتبة باريس ثانية آمنة وحالمة يُمكن الوثوق في أزقتها وشوارعها الرئيسية، سرعان ما تم استبدال مخاوف باريس الأولى بها، تكلمت عن أسرار رامبو ومتحفه المُلهم، وعن بيته وأهمية لُغته الحداثوية المُزلزلة للمعايير الشعرية. يعد هذا الفصل الباريسي من يومياتها وثيقة بارزة يُضاف إلى الفصول التأريخية والأدبية العراقية، لا يمكننا أن نتغافل عن دور الكتاب التوثيقي في تعميق المفاهيم والرؤى الصاعقة حول البلدان وطبيعتها الديناميكية الحديثة والمُعاصرة.
من الضروري أن تكونَ السيرة الذاتية عميقة وواضحة ومُعبرة مع خلاصة فاضحة للهُوية، القول بإن شخصا ما لديه اعترافات هو بمثابة الجوهرة في عصر الزيف، التزوير والعنصرية بلا شك. لا تعترف بما ورثت بل بما اختارته، تحس بالقرف والسخط من التصنيفات والرؤوس المُزدحمة بالأدراج والخانات، إذ تعيق تلكَ التصنيفات الحُرية والتقدم، وتشجع حتما على تآكل المحبة والقيم. لَمْ تعد إلى عمان إلا بعد أن هاجمها صبيان مستهترون ومُشردون، كتبت لها الروائية إنعام كجه جي، رفيقتها التي كانت تلتقيها في المقاهي الفرنسية الجميلة، بين الحين والآخر، اعتذارا على هيئة كناية: «مع الأسف، لقد خذلناكِ جميعا». لِم الخذلان يا إنعام؟ يتساوى المنفي مع المُشرد والمنبوذ ما دام في سجل الأغراب الطارئين على هذه البلاد، مثلما ترى لطفية نتيجة استضافتها في بيت الصحافيين وتجربتها في العيش وحيدة وعلى وجه الخصوص ضمن باب النساء في المنافي.
كشف الكتاب عن خداع المساواة، العدالة واحترام الأديان وكُل ما تدعيه المُجتمعات الغربية، عن طريق مجموعة من القصص المُميزة والمُؤلمة، حدثت للطفية من قبيل المُصادفات، قصص تشي بالمُساومات، التلاعب والاحتيال بإتقان وجلاء: «سنكون واهمين لو اعتقدنا أن ذاكرة الإنسان الأول قد تلاشت عبر عملية التحضر الطويلة، لم تنجح آلاف السنوات من تعاقب الحضارات أن تهزمَ ما يسميه العلماء (الجين الأناني)». تستنتج الكاتبة ما جرى من أحداث بدائية مُتعالية على الآخر بفطنة تخدش هُويتها وتجرح إنسانيتها؛ مُعلنة عن أمراض أوروبا الاجتماعية؛ لأنها تدعي معرفة كُل شيء، لكنها في الواقع لا تعرف كُل شيء مثلما أوهمت الشعوب الضعيفة المُستعبدة دوما. تنقد الأرض حالما تحمي الذكور وتبرر لهم خطاياهم وانحرافاتهم وتهوراتهم بوصفهم مصونين ولا قلق عليهم، طالبت بتصحيح هذا المنظور ومحو التمييز ضد النساء، وكررت المُطالبة في كتاباتها كي تُعالج التشوهات المُجتمعية والفكرية والصراعات المُحتدمة بينَ الجنسين. انتهت فصول الكتاب الأخيرة بالمُغامرات القصيرة في سويسرا الثلجية، بالأخص ما حفظته من المُتع الفنية والنشوات الحثيثة من معرض الفنانين فرديناند هودلر وبول كلي، إضافة إلى نهار بيت آينشتاين وليلة المتحف المُخصص لهُ. أشعر بأن صاحبة السيرة الذاتية – أعني لطفية – تردد فعلا مثل بابلو نيرودا الآن: «أشهدُ بأنني قد عشت». علما أن ما روته يستطيع أن ينفرد تحت عنوان أدب الرحلة أو أدب المدن المخذولة، الذي لا يضاهيه في الشقاء شيء، إن المدن في النهاية تستوجب حضور مشاعر مُتناقضة محمومة في الوجدان، مشاعر مُشوشة تنخر الأبدان لا مُحال. رُبما كانَ علي أن استعيرَ عنوان (باريس عندما تتعرى) من كتاب الشاعرة إيتيل عدنان وأضعه عنوانا لهذهِ المقالة أو الدراسة؛ ذلك لأن لطفية عرّت باريس مرة أُخرى، كما عرتها إيتيل تماما في المرة الأولى، قالت إيتيل مُؤيدة كراسات الكاتبة: «انظر أي مدينة صلبة مُتماسكة هي، وأي تناغم موسيقي حاد في تكوينها، وأي قصة ملحمية في أحجارها، وأي روح متلاشية في مطرها!».
كاتبة عراقية
-
عن القدس العربي