عبدالسلام بنعبد العالي
يندهش كل من ما زال يقوى على الكتابة اليوم من سرعة التنقل و«القفز» التي تلحق ما ينشره. فما يطبع الكتابة المعاصرة هو أن صاحبها لم يعد بإمكانه أن يتحكّم في انتقالها، أو يضبط الحوامل التي تظهر عليها، وربما حتى الوظائف التي تؤديها. فما إن ينشر مقالته على صفحة مجلة أو عمود جريدة أو موقع من المواقع الإلكترونية، حتى يفاجأ بأن ما كتبه منشور في أكثر من مكان وبأكثر من شكل، ويجد نفسه في منابر لم يكن له عهد بها، وبين أسماء لم يكن يخطر بباله أنه سيكتب إلى جنبها. خلاصة الأمر أن الكاتب اليوم عاجز عن أن يتحكم بالضبط في المنبر، أوعلى الأصح، المنابر التي ينشر فيها، إذ بمجرد أن يظهر نصّه في أحدها حتى يدخل في مسلسل الاستنساخ اللامتناهي، ويُرمى به في الشبكة، ويُلقي به على الملأ، على قارعة الطريق التي هي اليوم «طريق سيّار»، إلى حدّ أن بإمكاننا القول إنه لا يمكن للكاتب اليوم أن يزعم أنه يكتب في منبر بعينه، ويختار المنابر التي ينشر فيها.
لن نتمثل خطورة هذا الأمر ما لم نستذكر العلاقة التي ترسّخت لدينا مع المنابر التي كنّا حتى وقت قريب نتخذها حوامل لكتاباتنا. فقبل أن يظهر النّشر الإلكتروني كانت لنا، لا أقول معايير ثابتة، وإنما أعراف متّبعة تسمح بالتّمييز بين ما يصلح للنّشر على صفحات المجلات، وما يصلح للجرائد. وحتى إن كان النّشر في الجريدة، فهناك ما يُنشر في الصفحة الأولى، وما يظهر على الأخيرة، بل هناك ما لا يمكن أن يظهر إلا في ملحق أسبوعي.
أضف إلى ذلك أن حوامل الكتابة كانت دوماً ملوّنة مسيسة مؤدلجة. كانت تنقسم مثلنا أحزابا وشيعا، فيها اليميني وفيها اليساري، فيها التقليدي وفيها الحديث، فيها المتحجّر وفيها الطلائعي…
الخلاصة أنّ ما كنّا نكتبه كان يُحدِّد، ويَتحدد بـ «أين» نكتبه، وأنّ منبر الكتابة كان يحدّد قيمتها، بله شكلها وحتى مضمونها وانضواءها والوظيفة المتوخاة منها. في هذا الإطار تميّزت مجلات عن مثيلاتها، وكتّاب عن زملائهم. فكتّاب مجلة الرسالة ودراسات عربية والكرمل أو مجلة شعر أو أقلام أو الثقافة الجديدة ليسوا هم كتّاب مجلة الهلال أو المنار أو دعوة الحق…. الأمر نفسه يمكن أن ينطبق على الانتاجات الأجنبية، ففي فرنسا، على سبيل المثال، هناك كُتّاب مجلة الأزمنة الحديثة، ومجلة نقد.. وهم يختلفون تمام الاختلاف عن كتّاب مجلة إيسبري وكتّاب المجلة الفرنسية الجديدة، بل حتى عن كتّاب النقد الجديد، والإنسان والمجتمع…
بل إن دور النشر ذاتها كانت تتوزع وقتها جهات غير متكافئة. فمن كان ينشر في «دار الطليعة» عندنا في العالم العربي ليس كمن ينشر في «دار المعارف»، أو «دار العلم للملايين»، وبالمثل، من ينشر عند «المنشورات الجامعية الفرنسية» أو «فران»، ليس كمن ينشر عند «ماسبيرو» أو «المنشورات الاجتماعية». لقد كان اسم دار النشر على الغلاف يكاد يدخل ضمن المحدّدات الفكرية للكتَاب، ويعيّن توجّهه فيحدّد قرّاءه.
حتى وقت قريب إذاً، كان اختيار منبر الكتابة جزءا من انضواء الكاتب والناشر معا، ولم تكن منابر النّشر وحوامل الكتابة مسألة عَرََضية على الإطلاق، وإنما كانت تدخل في وسم الكتابة وتحديد شكلها بل حتى معانيها ووظائفها. ولم يكن هذا الأمر ليخفى على قدمائنا الذين لم يحدّدوا الكتابة بالمنبر والمقام فحسب، وإنما أيضا بالمادة التي تكتب عليها، والحامل الذي يحملها. فالنصّ يختلف قيمة وأهمية حسبما إذا نُقش على الحجر أو حُفر على الخشب أو رُسم على الجلد. تأكيدا لذلك لنكتف بالإشارة إلى ما كتبه الجاحظ من أن النصّ لا يلقى الاستجابة نفسها إذا كان مرسوما على قطعة جلد أو على دفاتر القطني: «فليس لدفاتر القطني أثمان في السوق، وإن كان فيها كل حديث طريف، ولطف مليح، وعلم نفيس. ولو عرضت عليهم عدلها في عدد الورق جلودا ثم كان فيها كل شعر بارد وكل حديث غث، لكانت أثمن ولكانوا عليها أسرع». فكأن النص يستمد قيمته من الجلد الذي حُمل عليه. ولا عجب في ذلك فالجلود «أحمل للحك والتّغيير، وأبقى على تعاور العارية وعلى تقليب الأيدي، ولرديدها ثمن، ولطرسها مرجوع». ما يفيد أن قدماءنا كانوا على أتمّ وعي بأن «أرواح» النصوص تُستمد من «أجسامها»، وأن للكتابة جسدا تعيش به وعليه.
ما غدا مؤكداً اليوم هو أن «أرواح» الكتابة هذه أصبحت تعرف «تناسخا» لا ينقطع، فباستطاعتها أن تتنقل على الدوام، ليس فقط من هذا الجسد نحو ذاك، من الورقي نحو الإلكتروني، ومن الصحف السيارة نحو المصنفات القارة، بل في مقدورها أن تقفز من اليمين إلى اليسار، ومن التقليدي إلى الحديث، ومن المتحجّر نحو الطلائعي. فما إن تكتب حتى تتلقفها الشبكة العنكبوتية التي تشكل خيوطُها الحامل النهائي لكل ما يكتب. من هنا تغدو المنابر التقليدية مجرد «منافذ» تلج الكتابة عبرها «الشبكة» كي تتمكن من الإطلالة على قرائها من جميع النوافذ أنّى كانت، وكيفما كان وضعها ولونها واتّجاهها.
_____
*الاتحاد