كلاريس ليسبكتور… انطباعات مثيرة عن المغرب والجزائر

كلاريس ليسبكتور… انطباعات مثيرة عن المغرب والجزائر

باسم المرعبي

 

في عام 1942م، وهي في الثانية والعشرين من عمرها، كتبت كلاريس ليسبكتور إلى صديقها الكاتب والمترجم البرازيلي لوسيو كاردوسو، أنها تريد أن تكون أكثر من امرأة. كانت تعرف أنّ ثمّة مياهًا جديدة في داخلها، لكن من الصعب الاهتداء إلى ينابيعها. بعد عام من ذلك، صدرت روايتها الأولى «قريبًا من القلب البري»، التي استُقبلت كإضافة ثورية إلى الأدب البرازيلي، لأسلوبها التجريبي في السرد وتأثرها القوي بفلسفة سبينوزا. وغالبًا ما وصفت لغتها بأنها شعرية أكثر مما هي نثرية، وبأنها برتغالية ثانية في البرتغالية. كما أنها ونقلًا من كتاب سيرتها، للأميركي بنيامين موسر، تُعدّ ليسبكتور الكاتبة اليهودية الأهم منذ كافكا، وفقًا لما كتبته هَنّا نوردينهوك في الكلمة الختامية لمختارات من رسائل كلاريس ليسبكتور الصادرة من دار ترانان السويدية، بترجمة عن البرتغالية للكاتبة والمترجمة فيرا فون أيسن، الذي منه اختيرت هذه الرسالة.

وُلدت كلاريس ليسبكتور، تحت اسم «شايا» في بودوليا -أوكرانيا الحالية- لعائلة يهودية هاجرت إلى البرازيل، والكاتبة لم تكمل بعدُ سنتها الأولى، حيث نشأت هناك. في الوطن الجديد غُيِّرَ اسمها إلى «كلاريس»؛ لأنه أكثر برتغالية في وقعه. وبحكم عمل زوجها الدبلوماسي عاشت وتنقلت، على مدار سنوات، في بلدان عدة (إيطاليا، سويسرا، البرتغال، الجزائر، المغرب، الولايات المتحدة، وسوى ذلك). إلى جانب أعمالها الروائية والقصصية العديدة وكتابتها للمسرح ونشاطها في الصحافة، عُرفت ليسبكتور بكتابة الرسائل، طوال الوقت. وفي تعليل ذلك تقول نوردينهوك: «توجد الرسائل بفعل الحاجة إلى الآخر، بفعل أنك لست ذاتًا واحدة، بل ذوات عدة.. إن الحاجة إلى الآخر هو ما يحدد للرسالة اتجاهها». يمكن عدّ الرسالة المختارة هنا، وثيقة، بأكثر من معنى، فعلاوة على ما هو شخصي، وما يُفصح عن طريقة تفكير الكاتبة ودخيلتها، ثمة أيضًا الاجتماعي والسياسي والثقافي، وبخاصة ما يتعلق ذكره ببعض المشاهدات النادرة التي ترويها، ضمن ترحالها، عن إيطاليا، البرتغال وبلدين عربيين هما المغرب والجزائر.

المترجم

إلى إلسا ليسبكتور وتانيا كوفمان

(الأختان الكبرى والصغرى للكاتبة)

الجزائرـ 19 أغسطس 1944م

عزيزتَيّ

في الحقيقة أنا لا أعرف كيف أكتب رسالة عن السفر، بل، حقًّا، لا أعرف حتى كيف أسافر. إنه أمر مضحك. كنا نتوقف للحظات قصيرة في المواضع التي نجتازها، أدرك كم هو سيئ ما أرى، حيث أجد أن الطبيعة كلها متشابهة، قليلًا أو كثيرًا. الأشياء كلها، تقريبًا متطابقة. في «ريو» يمكنني التعرف بسهولة إلى امرأة عربية متلفعة بالحجاب. على أية حال، أتمنى ألّا يطالبني أحد بموقف معين، فهذا سيتعبني. أنا في الجزائر من بعد ظهر الثلاثاء. في الرابع عشر (أي قبل خمسة أيام) كنت على متن مركب متجه إلى كازابلانكا. والرحلة، كالمعتاد، سارت على نحو جيد. سافرت بصفتي موفدة دبلوماسية، وكنت أحمل حقيبة ثقيلة، من دون أن أتركها للحظة واحدة. غير أن الأمور أصبحت أسهل في اليوم التالي، قبل الرحلة إلى الجزائر.

كازابلانكا جميلة لكنها مختلفة تمامًا عمّا شاهدناه في فِلْم «كازابلانكا». أكثرية نساء الطبقة الشعبية يظهرن من دون حجاب. ومن المضحك أن نرى النساء بقلنسوة، وأحيانًا بملابس قصيرة، وفي «كارمن ميرندا ستيل» تُرى الأحذية ذات الكعب. قليلة هي العلامات التي تدلّ على شرقية هذه المدينة، وهي مليئة بالجنود الأميركيين، الفرنسيين والبريطانيين. ثمة مكان جدير بالرؤية (المدينة القديمة)، لكن لم أتمكن من زيارته، فلم يكن يوم زيارة، كما لم يكن مسموحًا الذهاب إلى هناك؛ لما ينطوي عليه من خطورة، بما أن العرب يسرقون لأجل حياة سعيدة. في الجزائر أشعر أني أفضل بكثير. أنا ضيفة على السفارة البرازيلية، أنام في الغرفة نفسها التي ينام فيها موزارت (دبلوماسي وشقيق زوج الكاتبة) الذي كان يستخدم أريكة مغربية. موزارت في حال جيدة جدًّا -هذا موجّه إلى السيدة زوزا ودكتور موزارت- (أصهار الكاتبة)، الذي بدا سعيدًا جدًّا. أعتقد أني رأيت تغيرًا في أسلوبه؛ إذ غدا أكثر اجتماعية وتواصلًا.

سأسافر يوم 24 الذي يصادف الخميس إلى نابولي مع موزارت ودكتور فاسكو (الودود) ووجهته روما، لكن الطريق هو نفسه. الصحبة لطيفة للغاية وهي تخلّص من بعض القلق الملازم لبلوغ الأمكنة الجديدة، فتح الحقائب والانتظار بسكينة. ماوري (ماوري غورغيل فالينته، زوج الكاتبة) كان هنا لخمسة أيام وترك رسالة لي. كتب أنه يفتقدني كثيرًا. كلٌّ يقول عنه: يبدو مشوشًا، لا ينتبه لشيء، وهو أمر جيد لي. عندما آتي إلى نابولي سيكون هناك سكن آمن جاهز، إضافة إلى خدمة غسيل الملابس وخدمة الطعام. الجميع يقول: إن في إيطاليا يمكن الحصول على أفضل الخدم في العالم. موزارت الذي كان في نابولي قبل بضعة أشهر، يقول ليست سيئة جدًّا، وقد بقي في المدينة لأشهر عدة. الآن يُقال: إن الأميركيين حَسّنوا الوضعَ أكثر. لن ينقصنا شيء، هذا ما أنا واثقة منه، وبخاصة عندما يتعلق الأمر بالطعام، لن يبخل علينا الأميركيون بالمساعدة، قطعًا. خلال شهر كامل من هذه الرحلة، لم أفعل أي شيء، حتى إني لم أقرأ شيئًا.

أنا كلاريس غورغيل فالينته بالتمام والكمال. أنا في مزاج طيب. آكل كل شيء، أشرب مع وجبات الطعام ولا شيء، لا شيء شعوري. هذا ما كنت عليه قبل أن أعرف تلك الحساسية المرهقة. ذهبنا إلى السينما. شاهدت «تحت نجوم جديدة» وهذا الفِلْم لم يكن يتصف بمزايا الابتكار الفني أو الإبداع، أو حتى الحكاية الجميلة. هو مليء بالأفكار والنصائح البسيطة. في كازابلانكا ذهبت إلى السينما مع مجموعة من السفارة الأميركية وشاهدنا «سيدات واشنطن». طبعًا لم تكن هناك ترجمة إلى البرتغالية، غير أني فهمت كل شيء أو تقريبًا كل شيء، إنها مسألة تمرين. حصلت من الدكتور فاسكو على كتابين يخصّان والده. تريستاو دا كونيا (مستكشف برتغالي). كلٌّ يعرف حكاية مارسيا (ابنة أخت الكاتبة)، أستشهد بكم طوال الوقت.. ذات يوم قالت تانيا عن فاكهة (كذا): إنها صافية. والآن نحن نتحدث، هنا، عن كل شيء بصفاء أو لا.

يقال: إن السيجارة 17 (ماركة برازيلية) صافية بشكل لا تشوبه شائبة. طالما أنكما بخير، أنا بخير. إنها أنانية مني أن أطلب منكما إيثاري. (نسيت القول: إنّ لدي شهية كبيرة، ويلازمني الجوع…) ماذا يمكن أن أقول بعدُ؟ لدي انطباع بأني لم أترك البرازيل قط، فقد لاحظت، من دون جهد، كما لو أني باقية هناك بكامل خصوصياتي. في لشبونة دعانا ريبيرو كوتو (كاتب ودبلوماسي برازيلي)، إلى عشاء، وكان من بين المدعوين خواو غاسبر وهو ناقد برتغالي كبير. تحدثنا كثيرًا، وقد أحبّني جدًّا وأراد الحصول على الكتاب (لا يمكنكما تخيل أي نجاح حققت ذلك المساء. الجميع أثنى عَلَيَّ، الجميع كان مسرورًا). أريد منكما أن تلبيا لي الطلب التالي: أن تحضرا أربع نسخ من «الليل» وتودعانها في البريد الدبلوماسي إلى لشبونة. إذا كان ذلك عن طريق «زوزا» فستفعله، كما أعتقد، عن طيب خاطر ومن دون أي جهد بما أن علاقاتها تمُرّ عبر إيتاماراتي (وزارة الشؤون الخارجية البرازيلية)، وعملياتها.

الكتب الأربعة ستكون لكل من: ريبيرو كوتو، خواو غاسبر سيمويس، ناتريكا فريير، (وصفتها الكاتبة بالشاعرة الممتازة)، وماريا آرشر (كاتبة روائية). في لشبونة كنت قلقةً نوعًا ما، أعدّ الدقائق، الساعات، والأيام. لكن كل شيء انتهى، هذا هو اعتقادي الأخير. التقيت هنا العديد من الناس الودودين، كنت أرى نفسي وسطهم في حالة إشراق، هي أجمل ما يمكن أن أجد. وثمة كثر، أيضًا، متعالون بشكل لا يصدق، متعجرفون وأفظاظ، لكن دون التسبب بضرر. أنا أتسلى بسماع أحاديثهم عن النبالة والأرستقراطية. لم أسمع قط لغوًا ثقيلًا إلى هذا الحد وبلا طائل، كالذي سمعته في سفري في هذا الشهر. أُناس مترعون ثقة يحيون حياة فارغة تسودها المباهج الاجتماعية والصغائر، كما لو كانت لعنة. من الواضح أنه يتوجب معرفة الحقيقة فيما وراء كل هذا، إلّا أن مهمة كهذه تبدو صعبة، مع شعوري بمقدار الأسى حيال هذه الكائنات. لكن في وسط ذلك كله، هناك أشخاص مثيرون للاهتمام حقًّا، مثل دكتور فاسكو وريبيرو كوتو.

أعتقد أنه سيكون لدي كل ما أحتاجه في نابولي، حتى أحمر الشفاه بما أنّ روما قريبة. في روما سيكون هناك موزارت، وثمة أشياء أخرى كثيرة. معانقة كبيرة إلى وليام، قُبلة حنونة على وجه ماركوسكا، الصغير. قولي لها: أنا لست إيطالية، كما ذكرتْ ذات مرة، وصحّحي جغرافية سيليا (مربّية)، فروسيا لا تقع بالقرب من إيطاليا، ومارسيا والحال هذه، ستنشأ على معلومات خاطئة.

ملحوظة: أنا متأكدة تقريبًا من أنني لن أتمكن من الكتابة خلال مدة وجودي في نابولي.

أشعر بخير وماوري معي.    كلاريس

  • عن مجلة الفيصل

شاهد أيضاً

لا شيءَ يُشبه فكرَتَه

 (ثقافات)  نصّان  مرزوق الحلبي   1. لا شيءَ يُشبه فكرَتَه   لا شيءَ يُشبه فكرتَه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *