إضاءات لِعتم هذا الزمان…

(ثقافات)   

 إضاءات لِعتم هذا الزمان

     إفلين الأطرش   

لا أعتقد أن أيا ممن حضرن اجتماع الهيئة العامة لإقرار مُسوَّدة النظام الداخلي للاتحاد النسائي في الأردن، تستطيع محوه من وجدانها وذاكرتها. كان ذلك الاحتشاد النِسويّ الكبير بتراصّ أجساده، وبوقوفه أكثر من جلوسه، حتى ضاق المكان فوصل الشارع العام. والمكان هو مقرّ رابطة الكتاب الأردنيين، شارع إبراهيم طوقان في جبل اللويبدة. ولزوجي “عدي مدانات” ذاك الدور الأهم في انشاء هذا الكيان أواخر العام 1973، حيث سيكون رافدا ثقافيّا للتجمعات الوطنيّة الفاعلة كالنقابات المِهْنَيّة والعمّالية واتحادات الطلبة. فالهمُّ الوطنيّ واحد، والمسؤولية الوطنية تفرض نفسها على كلّ تجمّع وكيان. ووحدة البوصلة باتّضاحها هي الخيط الناظم. فتحمّلت هيأتها الإدارية الأولى مسؤولية احتضان هذا الاتحاد العام 1974 ريثما يتمكّن من الاعتماد على مقدّراته الذاتية وإيجاد مقرّ خاص به .( دام ذلك عام كامل برئاسة الأستاذة المحامية إميلي بشارات).

   كان الحماس والفرح بالإنجاز هما السائدان على وجوه نساء أعرفُ منهنّ من أعرف، وأسماء أعرفها ولا أطبّقها على شخوصها، والكثير ممن لا أعرف. فها هي منظمّة نسائية تنشأ، في مناسبة إعلان العام الذي يلي عاما عالميا للمرأة، لتنضمّ في نضالها الى من يدعمها وطنيّا. فالرؤية واضحة، والهدف ساطع والمنهجيّة في العمل متوافق عليها، إذ الاعتماد على الذات والعمل التطوعيّ الصرف سيقودان المسيرة. يبدأ العمل الجاد والحثيث في إيجاد قاعدة جماهيريّة نسائيّة مسلّحة بمعرفة حقوقها وواجباتها، بشراكتها وبدورها تجاه نفسها ومحيطها ووطنها. صار لا بدّ من الانتشار حتى وصل من أقصى الشمال الى أقصى الجنوب بمدنه وقراه ومخيّماته.

 كان إنكار الذات، وانتفاء المصلحة الخاصّة أو الشخصية، والتنافس على الالتزام بالأهداف المعلنة هو المُميِّز. نساء ينتقلن من المقرّ الرئيس في عمان الى المراكز أو الفروع المنتشرة والمتعددّة، على نفقتهن الخاصّة، وأحيانا تتبرّع من لديها سيارة خاصة لنقل المجموعة. فالسواد الأعظم من ذوات الدخل المحدود. لا يُخجِلنا طلب تبرّع لمجلة “الرائدة” التي نًصدر، ممّن يَقدر أو تَقدر عليه. نفرض التبرّع على أنفسنا قبل غيرنا لجمع أجرة المقرّ، ونلجأ الى أنشطة كغداء تقشّفي أو عشاء مماثل تتبرّع به عضوات الاتحاد لتأمين بعض تلك الأجرة. لا تؤخّرنا عن الاجتماعات أو الأنشطة المتنوّعة أو الزيارات للمراكز أو الفروع أيّة ظروف؛ كمرض أو حمل أو رعاية أطفال أو ظروف جويّة أو صعوبة مواصلات.

     وهي سنوات الأحكام العُرفيّة؛ فلا الاعتقالات والأحكام بالسجن، ولا الاستدعاءات والتحقيقات، ولا الفصل من العمل أو منعه، ولا مصادرة جوازات السفر لمنعه أجدت نفعاً مع كلّ ذلك الزخم الوطنيّ الجامع، لتبدأ مرحلة الانقضاض على تلك المؤسّسات الجامعة بإنشاء كيانات بديلة، و/أو قرارات الحَلّ أو الإيقاف عن ممارسة الأنشطة، و/أو اللجوء الى التخريب من الداخل بالاختراق أو خلق حالة من الفُرقة والتشظي.

  تُستدعى الهيئة الإدارية للاتحاد النسائي في الأردن بكامل أعضائها لوزارة الداخليّة التي نتبعها بحسب طلب التأسيس والترخيص، ليطلب الينا وزيرها التحوّل الى جمعيّة تتبع وزارة التنمية الاجتماعية التي بدأت الإعلان عن انشاء كيان بديل، هو الاتحاد النسائي الأردني العام، ليضم كل الجمعيّات النسائية. يستمع الى وحدة ردّنا دون اتفاق مسبق : ” فنحن لسنا جمعية نسائية خيرية، أو جمعيّة مَعنيّة بجزئيّة من قضية المرأة الوطنيّة الشاملة. ولن نحلّ اتحادنا، ولن نتحول. فاختلاف الأهداف واضح، ولماذا لا يكون هناك اتحادان أحدهما حكومي والثاني، أي نحن، نبقى الاتحاد الجماهيري”، أو الشعبي كما أسماه. ومع كلّ تفهّم أبداه في البداية، الا أنه ارتطم بصلابة موقفنا وإصرارنا، ليحمل أوراقه ولسان حاله يقول “اللهم اشهد أني قد بلّغت”. ويطلب الينا إعادة التفكير، فلقد كان القرار بالحلّ مُتَّخذا. ونحن نحمل وجعنا وإصرارنا على المواجهة. فكانت تلك الدعوى القضائية أمام محكمة العدل العليا من هيئة محامين، برئاسة النقيب ” إبراهيم بكر” والأستاذين ” هشام التل وفارس النابلسي”.  فأنصفتنا تلك المحكمة بإلغاء قرار الحل.

   لم يكن هذا السبب الرئيس في إضعاف نشاطنا المُعلَن، بل هو بدء اختلاف الرؤية والمنهجية في العمل رافق انقسامات في صفوف حركة وطنية كانت موحّدة. ففي العام 1980 أي قبل قرار الحلّ بعامين، نشارك في ملتقى المنظمات غير الحكومية في العاصمة الدنماركية “كوبنهاجن”، الذي يُعقد بموازاة مؤتمر المرأة العالمي بتمثيله الحكومي. ثلاثة من الأردن “دعد معاذ” كرئيسة للاتحاد النسائي في الأردن، و”رسمية الوزني” كعضوة هيئة إدارية للجمعية النسائية لمكافحة الامية، وأنا كعضوة لرابطة المرأة العربية. والاخيرتان منظمتان فاعلتان في اتحاد النساء الديمقراطي العالمي، ونسعى لضمّ اتحادنا اليه، بعد انضمامنا الى الاتحاد النسائي العربي العام.

    لم تكن احدانا تنطق باسم من تُمثّل وحسب في اللقاءات أو المداخلات أو تعمل منفردة، بل ننطق بهموم نساء الأردن و كافة النساء العربيات. فقضية المرأة واحدة كجزء من الهمّ الوطني، فالوطن لنا ونحن له. لنتعرّف ثلاثتنا على معنى الارتهان الماديّ الذي يفرض نفسه على أيّ فعل، حين أخذ اتحاد النساء التشيليات إذنا بتسيير مسيرة من مقرّ الملتقى( مباني جامعة كوبنهاجن) الى مقر المنظمات الحكومية ( دار بلدية تلك العاصمة). وهنّ صاحبات قضيّة عادلة، ونحن بحاجة إلى كلّ من يتفهّم قضيتنا المركزية ويساندنا، فلماذا لا نساندهن؟

    تقاطع الوفود العربية مساندتهن بحجج غير نضالية بل صادمة، ليتبين لاحقا أنهن يحرصن على حضور كلمة لرئيسة لجنة النساء السوفيتيات ( فالينتينا تيريشكوفا) التي ستلقيها في الملتقى. ولا نعتقد أنها تحتاج إلى دعم أومؤازرة، فهي ذات مقدرة على لجم من تسوّل له نفسه التصدي لها بالأكاذيب أو التزوير أو التشويه. فيذكرن المساعدات المقدمة لهن ولمن يمثّلن. يعزّز ذلك من قناعاتنا بعدم الارتهان لأيّة مساعدة ومن أي طرف كان، مع انه يعرض على الاتحاد مساعدات من جهات كثيرة، لكننا كنا بذاك الوعي والايمان النابع من قناعة تامة بصواب الرؤية، والالتزام الشديد بالاعتماد على الذات، مهما بلغت الصعوبات.

    بعد عودة الاتحاد لممارسة نشاطه العلني، بعد ما سُمي بالتحوّل الديموقراطي في 89، واجراء انتخاب هيئة إدارية جديدة، وما رافق ذلك من انعكاس لحالة الانقسامات، نستدعى للمحافظة بناء على شكوى قُدمت ضدنا بمخالفة النظام الداخلي وإغلاق المقرّ الرئيس أمام وجوه من قدّمن تلك الشكوى، فقد اتّضح أن لكل اجندته الخاصة، وبهذا انتفت الحالة الجمعيّة. لم تحضر كافة أعضاء الهيئة الإدارية فلمن تغيبن أسبابهن التي نجهلها. بعد نهاية (التحقيق) أذكرها بين مزدوجين، يُطلب إلينا وبشكل مفاجئ لنا أن نكتب ردّنا على الادعاءات ليصادق عليها فيما بعد. لم نقل له: “البيّنة على من ادّعى” كدفع قانوني يُجيز المماطلة، فنحن لا نخالف نظاما داخليّا، ولا أمانة سرّ، أو أمانة صندوق أو سجلّ عضوية. لتنتهي هكذا. آتي على ذكرها لما تحمله من معان كثيرة

    كان للاتحاد ريادته وفعاليّته في كلّ التحرّكات الرافدة لأي هبّة أو ردّة فعل مساوية لفعل، فهو في كل شيء وفي أي مكان. ففي حرب الخليج الأولى 1990، وقد عدنا الى ممارسة العمل العلني من مقرّ نادي المرأة الرياضي في جبل اللويبدة، قبل استئجار مقرّ خاصّ بنا في جبل الحسين، نجمع الكتب والقرطاسية المستعملة لإعادة توزيعها، ونعقد دورات دفاع مدني للنساء حتى أُعطينا قاعة المديرية لعقد دوراتنا حين اتضح عملنا لهم. نجمع المواد الغذائية من كل بيت ومتجر، ومواد التنظيف وأدواته، لصرح وطني هو مجمع النقابات المِهْنيَّة، حيث احتشد العائدون من الخليج وبخاصة من هم من اليمن في وضع مدمٍ للقلب والضمير، إضافة الى الجمع النقدي. تماما كما كان دورنا في الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان في العام 1982 وصولا الى بيروت، وكل تلك المذابح البشعة المقترفة التي يجب ألاّ تُنسى أو تُمحى من ذاكرة أحد، كبيرا كان أو صغيرا .لا بل علينا ادامة عيشها .

   تحضُرني الآن صورة رئيس الرابطة متصديّا لمن نعت غرفة مقفلة في مقرّها بـ “غرفة البنات”، مصحّحا ومطالبا بحفظ اسم الاتحاد النسائي في الأردن والمحافظة عليه، فأقول له: “يا شاعرنا عبد الرحيم عمر”، وأقول للجميع:

“نحفظ اسمنا وتاريخنا ونحافظ عليهما. وبكلّ الفخر نتذكر تجربة بكلّ ما فيها من جمالات وانكسارات، من نجاحات واخفاقات، فقد أعطت أكثر مما أخذت، فهي حياة معيشة. لكن حين تختلف الرؤية كليّا مما سيفرض تغيير قناعات ونهج، تخلق الصعوبات. فقد كان سعينا في تلك التجربة ينشد التغيير لا التغيّر، فيكون إما الإذعان أو الانسحاب. فيختار الانسان ما يتوافق مع فكره وقناعاته وتوجهه ونهجه. والثاني، أي الانسحاب، في العام 1992 آخر انتخابات شهدناها، كان للكثيرات ممن احتشدن في أول اجتماع عام للاتحاد النسائي في الأردن. فلهن المحبة والتحية والفخار، من رحلت عنّا أو ابتعدت، ومن لا تزال تحيا وتحافظ على نفسها، ولم يجرفها تيار التغيّر”.

* كاتبة ومترجمة من الأردن

شاهد أيضاً

ليست مرثيّة لإميل حبيبي

(ثقافات) ليست مرثيّة لإميل حبيبي: الإنسان في جوهره مرزوق الحلبي عندما اتخذ الحزب الشيوعي قرارًا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *