منى ظاهر
يضطلع مقال الشّاعر محمود درويش “محاولة لوضع حركتنا الشّعريّة في مكانها الصّحيح: أنقذونا من هذا الحبّ القاسي” الصادر بمجلة “الجديد”، عدد 6، 1969، بضرورة نقديّة وتاريخيّة وجماليّة أساسيّة، بالنّظر إليه كبيان شخصي تصحيحي وتوضيحي، يشبه نقطة نظام في ركام الفوضى الّتي ضجّ بها المشهد الشّعريّ والنّقديّ الموازي له في أواخر الستينات وأوائل السبعينات.
أطلق محمود درويش هذا المقال كصيحة عالية في سماء لحظة تاريخية وسياسية وثقافية، بعد سنتين من هزيمة حزيران 1967 ونشره في مجلّة الجديد الحيفاويّة عام 1969، وكان آنذاك رئيس تحريرها. بقراءة فاحصة للمقال، يمكن الوقوف على خلفيّات ونقاط رئيسة لهذا البيان، أولها إنّ المنطلق الأساس الذي جعل محمود درويش يعلن صرخته هذه، هو هاجس وضع الحركة الشعريّة الفلسطينيّة في إسرائيل ضمن مكانها الطّبيعي اللائق بها من السيرورة الشعرية العربية، دونما احتكام إلى حماس التّعاطف القومي مع القضيّة الفلسطينية، والارتهان إلى السياسي والأيديولوجيّ في قراءة ظاهرة هذا الشعر الذي كان مهمّشا من العالم العربي قبل النّكسة. أما ثانيها فقد لفت درويش الانتباه إلى المغالطات النقديّة التي حاولت، عن حسن نيّة، إضفاء معانيَ مغالية ومفرطة على هذا الشعر الذي وُصِف بأقلام ناقدة عربيّة بأنّه ذو فنيّة عالية.
تغطية المغالطات
لقد جعلت تلك المغالطات الشعراء في مكان أوسع منهم، بل حاولت وضعهم على امتداد مساحة الشعر العربي المعاصر، بحيث يغطونها كلها على حدّ قول درويش، الذي يرى أنّ هذه المحاولة تشكّل خطرا “يتعدّى حدود المبالغة الفنيّة، والتنكر غير المسؤول للواقع، إلى الاعتداء على حركة تاريخ”. بالتالي فإنّ بعض المتابعات الصحافيّة والمقالات المتخصّصة النقديّة في العالم العربيّ التي واكبت ظاهرة هذا الأدب، قد زاغت بأحكامها وتوصيفاتها ومقارباتها وتقويمها عن الصّواب والموضوعيّة، وتعدّى اهتمامها الاحتفاليّ بهذا الشعر حدود الحبّ الواجب والمطلوب إلى التقديس والتمجيد، وهذا ما يرفضه محمود درويش، إذ يقول:” ولا يغفر لهذا الموقف كونه ناشئا عن نيّة طيّبة وحماس حقيقي، وعطف عميق على ظروف الحركة الشعريّة في بلادنا، ولعلّ جذور الخطأ الذي أوصل إلى مثل هذا التطرّف في معاملة شعرنا، هي إسقاط انتماء هذا الشعر إلى حركة الشعر العربيّ العامّة في ماضيها وحاضرها، وتسليم أصحاب المبالغة والتطرّف بالاعتقاد أنّ هذا الشعر بمثابة صاعقة انفجرت فجأة”، بما يعني أنّ هذا الحبّ المبالغ فيه هو ما أخرج هذا الأدب من واقعه التاريخي والأدبي، وانحرف به إلى ما يشبه كليشيهات مؤسسة على الإسقاطات غير العلميّة البعيدة عن النقد الموضوعيّ، والتي ترتكب خطأ التجنّي على روح الشعر نفسه وقيمته الجماليّة وأدبيّته.
شعر غير معزول
النقطة الثالثة تتمثل في تأكيد درويش على أنّ الشعر الفلسطينيّ في “إسرائيل” غير منقطع عن حركة الشعر في العالم العربيّ، وإن كان غير مواكب لها مواكبة يوميّة، لكنّ هذا الشعر “ليس ندّا أو بديلا للشعر العربيّ المعاصر”، بينما هو في الواقع، وإنصافا له، هامش صغير ورافد جديد من هوامش وروافد الشعر العربيّ، أي أنه جزء ومحطة ولحظة من سيرورة القصيدة العربيّة، هذا ما يشير إليه درويش.
وبالإمعان في تجربة هذا الشعر من الناحية الفنيّة والأسلوب، يمكن الوقوف على جوانب تأثر جيل هؤلاء الشعراء بظواهر النصّ الشعري الحديث السائد آنذاك، حيث يقول درويش: “لقد تربينا على أيدي الشعراء العرب القدامى والمعاصرين، وحاولنا اللحاق بأسلوب الشعر الحديث، بعدما تعرّفنا على روّاد هذا الشعر في العراق ومصر ولبنان وسوريا. ونحن لا يمكن إلا أن نعتبر أنفسنا تلامذة لأولئك الشعراء”.
ورابعا، فهو رفض درويش الصارخ لأسطرة هذه الحركة الشعرية بالنظر إليها كفعل خارق، لأنها أصلا ولادة طبيعيّة لشرطها التاريخي والسياسيّ، إذ يقول:”إنّ الزاوية السياسيّة في هذا المجال تفتقر إلى ضرورة التأكيد على أنّ هذا الشعر الثوري لا يعبّر عن ثوريّة أصحابه معزولين عن حركة جماهيريّة يعبّرون عن صراعها. أي أنّ هؤلاء الشعراء ليسوا مجموعة من أشجار النخيل النابتة في صحراء قاحلة. إنّ كونهم شعراء يملكون أصواتا مسموعة لا ينبغي أن يخلق الانطباع بوحدانيتهم وبانقطاع انتمائهم إلى جماهير تملك ماضيا وحاضرا ثوريين. إنهم أبناء هذه الجماهير وهي التي ربتهم وأعطتهم الجذور”.
والسقوط في فخّ نقد هذا الشعر الثوريّ المقاوم بمعيار العطف السياسي والحماس الأيديولوجي، هو ما يضع عليه مقال “أنقذونا من هذا الحبّ القاسي” الإصبع ويفصح عن خطورته، بشكل لا يرتضي إلاّ الإخلاص لنبض الشعر وإبداعيّته وقيمته الجماليّة، بعيدا عن كلّ ما من شأنه تضبيب الرؤية وإشاعة الخلط والتكريس للخطأ.
وبناء على ذلك فمن اللازم صرف نظر هذا النقد اللاموضوعيّ عن تلك المنطلقات التي تفضي بالقراءة إلى نتائج عكسيّة، فبدل أن تساهم هكذا متابعات ودراسات في تطوّره وتعميق رؤيته واستكشاف أفقه الجديد من ناحية فنيّة ولغويّة، هي على النقيض من ذلك تساهم في الإجهاز عليه والتضييق على حركيته ومجال تناميه، والحيلولة دون تحوّلاته ومتغيّراته. أما خامسا فهو الكفّ عن إجراء عمليّة المفاضلة بين الشعر الفلسطينيّ المكتوب في “إسرائيل” وبين مجموع الشعر العربيّ المعاصر، هذه المفاضلة جاءت عن ضيق أفق حسب درويش الذي يستهجن أن يتمّ تقييم الشعر بضرورة أن يمرّ عبر غربال القضيّة الفلسطينيّة منذ نشأتها وحتّى حزيران، كمقياس واحد وأوحد لجودة العمل الأدبيّ العربيّ المعاصر وقيمته ومصداقيّته.
صراع الفلسطيني
أما المسألة السادسة فتتمثل في العمل على عدم ارتهان تقييم الشعر العربيّ المعاصر وفق ارتباط موضوعاته مباشرة بالقضيّة الفلسطينيّة كمحور أساسيّ، لأنّه يؤدّي بالضرورة إلى اعتبار “كلّ التطوّرات السياسيّة والاجتماعيّة في العالم العربيّ منذ ما يزيد على عشرين سنة، غير جديرة بتعامل الأديب معها، أو نعتبرها ضربا من ضروب الكماليّات”، بالتالي سيكون ذلك تنكّرا لمسيرة التاريخ العربيّ.
وسابعا إمكانيّة إجراء هذه المقارنة أو هذا التفضيل بالاستناد إلى عنصر الصدق، وحصرا في الشعر العربيّ الفلسطينيّ الذي يُكتَب في “إسرائيل” وليس خارجها، لأنّ ما يشفع له هو الاقتراب الوفيّ لصورة صراع الإنسان الفلسطينيّ. هذا دون إيلاء الصّدق كلّ الثقل والاعتبار في تقييم العمل الشعريّ، لأنّه شرط من شروط الأدب الإنسانيّ، وليس الخلفيّة الوحيدة لنجاح وتحقّق النصّ فنيّا وجماليّا. كما وإنّ هذا الصدق الفنيّ “لا يمكن أن يكون، وحده، معيارا للنّقد الأدبيّ”.
وأخيرا، المبالغة في تقدير هذا الشعر قد أدّت إلى “أن يقوم بعض شعرائنا الناشئين بعمليّة تصميم قصائدهم وفقا لمقاييس غريبة عن الصدق، وكأنهم يستوحون قصائدهم من تصوّرهم لكيفيّة استقبال تلك الإذاعة لها!”، أي أنّ هذا الحبّ المقدّس من النقاد في العالم العربيّ، قد جعل الشعراء الفلسطينيين الشّباب في “إسرائيل” يكتبون قصائدهم وفق مقاييس بعيدة عن الصدق، تتماشى مع المطلوب والرّائج لتتمّ إذاعتها عبر الأثير.
رؤية محدودة
في المحصّلة فقد جاء مقال محمود درويش “أنقذونا من هذا الحبّ القاسي” لينتقد نوعيّة الاهتمام والمراقبة التي كرّست في قراءتها ونقدها لهذا الأدب والشعر الفلسطينيّ، مجموعة من المغالطات وجب (وجبت) إضاءتها والتّنبيه إليها، وقد وقف درويش على مواقف أصحاب هذه الرؤية النّقديّة، وحاول إنارة إشكالاتها وقضاياها وشبكة علاقاتها.
ويمكن اعتبار مقال درويش ردّا على هذا الموقف النقديّ العربيّ الضيّق، الذي استفحل وتنامى دونما تمحيص وفحص وتدقيق. وكان وراء شيوعه اعتبار ظاهرة الشعر الفلسطينيّ في إسرائيل تعويضا معنويّا ورمزيّا عن هزيمة 1967.
إنّ مقال درويش أو بيانه بالأحرى كموقف مركّز ومكثّف، فيه أكثر من إشارة ورسالة لعلاقة الشّعر بالقضيّة الفلسطينية، أو لنقل بالسياسة، وعلاقة الشّاعر بواقعه وشرطه التّاريخيّ، وعلاقة الشّاعر بالذّات والجماعة وبالخاصّ والعام. وهي شبكة علائقيّة ظلّت تلازم الشّاعر محمود درويش وتؤرّقه من حيث طبيعتها الإشكاليّة، ولم تقتصر على تلك اللحظة التاريخيّة بالذات، نشر مقاله هذا. وهذه اللاموضوعيّة وقلّة الدراسات ستؤدّي إلى أن يقوم محمود درويش، في مناسبات عدّة، بالرجوع إلى موقفه والتّأكيد عليه بتعميقه أكثر وتطويره ضمن مقالات لاحقة، وعيا منه بأنّ ضبابيّة المسألة ستظلّ تلاحقه كشاعر إنسانيّ، لذلك فقد أشار في نهاية بيانه إلى أنّه “تبقى جوانب أخرى معاكسة للمبالغة في التقدير، وأمور أخرى تتعلّق ببعض التفاصيل قد نتناولها في مرّة قادمة”. أي أنّ هناك بعض تفاصيل سيتناولها لاحقا، وبهذا التذييل المفتوح ختم مقاله.
لقد مضى على صرخة “أنقذونا من هذا الحبّ القاسي” أكثر من أربعة عقود، وظلّت النظرة إلى أدب المقاومة أو شعر الفلسطينيين في “إسرائيل” والشاعر الفلسطينيّ تراوح مكانها في فَهْم ضيّق وغير منفتح، فَهْم برؤية محدودة قائم على منطلقات أيديولوجيّة وسياسيّة تعيق تطوّر النصّ الشعريّ، وتعيق انفتاح الشاعر نفسه على أفقه الإنسانيّ والكونيّ، عبر سبر أغوار ذاته وحالاته الغائرة في الوجدان الجمعيّ.
لذلك يمكن اعتبار “أنقذونا من هذا الحبّ القاسي” أرضيّة مفتوحة لم تقتصر ضرورتها الزمنيّة والثقافيّة على لحظة أواخر الستينات وبداية السبعينات، بل هي لصيقة وملازمة لطبيعة العلاقة الشائكة والإشكاليّة بين الشعر والقضيّة، بين الشاعر وذاته وواقعه معا، بين العامّ والخاصّ، تلك المعادلة الصعبة التي حاول محمود درويش أن يتوفّق عن اجتهاد وذكاء وحنكة في تحقيق توازنها.
والسؤال، اخيرا، ترى هل يمكن البناء على هذه الصرخة التي أطلقها درويش، لقراءة المشهد الشعري اليوم في فلسطين المحتلة بأجزائها المتعددة؟ وهل ماتزال أسباب هذه الصرخة قائمة؟ هذا السؤال أضعه برسم النقاد الفلسطينيين والعرب.
______
*( العرب)