يحيى القيسي: التصوف في رواياتي ليس حلية فنية بل حالة وجدانية تمتح من تجربتي العرفانية

(ثقافات)

حوار مع يحيى القيسي

التصوف في رواياتي ليس حلية فنية بل حالة وجدانية تمتح من تجربتي العرفانية

حاوره: يزيد عبدالعزيز

 

في هذا الحوار يلتقي كاتب شاب مع كاتب له منجزه، ويدور الحوار على مقصد تلاقي الأجيال، وبالتالي الذهاب قدما بمستقبل الأدب الأردني. إن الحوار – أي حوار – أحد الطرق المثلى لاكتشاف الطاقات الجديدة، من خلال تتبع بعض المناطق عند من لهم منجزات في عالم الأدب.

يزيد عبدالعزيز سوالقة كاتب شاب يشغل موقع رئيس ومؤسس جمعية قناديل للثقافة والفنون، وملتقى كلمات الثقافي، له العديد من النصوص المسرحية من بينها: أنا الأردن، والنص المسرحي” أسد القلعة”، وهو أحد كتاب صحيفة الرأي الأردنية في إحدى مراحلها. صدر له كتاب نصوص أدبية بعنوان “سقط لهواً” عن دار فضاءات للنشر والتوزيع.

أما يحيى القيسي  فهو روائي وباحث أردني مقيم في بريطانيا، مواليد قرية حرثا شمال الأردن عام 1963 . درس اللغة الإنجليزية في مرحلة البكالوريس في جامعة فيلادلفيا ثم تابع دراساته العليا في الترجمة في الجامعة الأردنية، وقد عمل في وزارة الثقافة الأردنية  خلال الفترة من 1996-2006  مدير تحرير لعدد من المجلات مثل “الفنون” و”صوت الجيل” ، ومديراً للدراسات والنشر، ومديراً للتبادل الثقافي إضافة إلى عضويته في العديد من اللجان مثل التخطيط والنشر وغيرها.

عمل في الصحافة التونسية والخليجية والأردنية مراسلاً ومحرراً منذ العام 1990 وحتى العام 2009 كما قام بالكتابة والإعداد لنحو 25 فيلماً توثيقياً للتلفزيون الأردني بعنوان (سيرة مبدع)، كما عمل في هيئة الفجيرة للثقافة والإعلام مديراً للشؤون الثقافية، ونائباً للمدير العام 2013-2016  وأشرف على العديد من المؤتمرات الإعلامية المتخصّصة والمهرجانات الفنية والملتقيات والمعارض.

انشغل بالقراءات في التصوّف والماورئيّات والفكر الديني إضافة إلى تطوير تجربته الروحية على مدار الخمسة عشر عاماً الماضية، وتفرغ تماماً لقراءة متعمقة لكتب الشيخ محيي الدين بن العربي خلال الفترة من 2016 – 2018 وما يزال مستمراً في دراسة هذه التجربة الصوفية العميقة ومراجعتها بكل تجرّد، وهو يعمل منذ اكتوبر 2018 مديراً للدراسات والنشر في مؤسسة بريطانية غير حكومية تعنى بالفكر والتنمية البشرية والتنوير.

أنجز مئات الحوارات مع عدد من أبرز الأدباء والكتاب العرب، وقد كتبت عن رواياته الكثير من المقالات النقدية والدراسات لعدد من المتخصصين في الأردن والمغرب وسوريا وتونس وغيرها، وهو مؤسس ورئيس تحرير موقع “ثقافات” منذ العام 2012

www.thaqafat.com

أصدر في مجال الرواية:

–        حيوات سحيقة: دار خطوط وظلال – عمان -2020

–        بعد الحياة بخطوة – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت 2017

–        الفردوس المحرّم – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت 2015

–        أبناء السماء – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت 2010

–        باب الحيرة – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت 2006

وفي مجال القصة القصيرة:

–        رغبات مشروخة – دار النسر للنشر والتوزيع – عمان – 1996

–        الولوج في الزمن الماء – دار طبريا للنشر والتوزيع – إربد – 1990

وفي المجال الثقافي:

–        ابن عربي الحائر بين الفتوحات والمنقولات: مؤسسة أونيكس للنشر – بريطانيا 2019، المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2020

–        حمّى الكتابة – حوارات في الفكر والإبداع – منشورات الدائرة الثقافية لأمانة عمان 2004

–        المسرح في العالم – تحرير ومراجعة – مترجم – هيئة الفجيرة للثقافة والإعلام 2012

–       دليل الأردن الثقافي – تأليف وإعداد – مركز الرأي للدراسات 2002

 

السؤال البديهي الأول، كيف كانت بداياتك في الكتابة وهل كان هنالك أثر دفعك للكتابة، شخص، رؤيا، مكان، مشهد؟

الابداع في الكتابة موهبة ربّانية، قد تبدأ تمظهراتها في دروس اللغة العربية وكتابة مواضيع الإنشاء، ولا تلبث أن تحفر طريقها على الورق مع تقدم العمر، وأذكر في هذا الأمر أنني كنت متميزاً في ذلك أيام المدرسة، وكتبت مرّة نصّاً ساخراً ضد آذن المدرسة وصوته المشروخ، وقرأتها على زملائي في الصف، ولاحقا بعد إكمال الثانوية العامة، كتبت قصة طويلة، أو مشروع رواية متأثراً بالمسلسلات الإذاعية، حيث لم يكن لدينا تلفزيون حينها، وكان الراديو هو المصدر الأساسي للمعرفة إضافة بالطبع إلى الكتب المتوفرة في مكتبة المدرسة.

في المراحل المبكرة أيضاً من المران على الكتابة بشكله الأولي انشغلت بكتابة قصائد ذات حس ديني، ومقالات ساخرة بعنوان” يوميات عبدالصبور المقهور” والتي تنتقد الظروف الاجتماعية والسياسية، لكن الكتابة الحقيقية عندي بدأت مع نشري لقصصي القصيرة نهاية الثمانينيات في الملاحق الثقافية المعروفة لصحف الرأي، والدستور وصوت الشعب، وفي مجلات صوت الجيل وأفكار وغيرها.

 

بدأت قاصاً ثم انتقلت إلى الرواية فهل ترى أن القصة القصيرة مجرد تمرين على كتابة الرواية؟

يمكن ملاحظة أنني نشرت مجموعتين قصصيتين قبل صدور روايتي الأولى عام 2006، وأنني عرفت بكتابة القصة القصيرة أول عهدي في الكتابة الإبداعية، وقد قلت مرة إن القصة القصيرة هي التي هجرتني، ولم أهجرها، وأن الرواية تتسع بشكل أكبر لما يعتمل في أعماقي من معارف وعرفان وهواجس وسرديات أرغب بصبها على الورق، فالقصة القصيرة تظل محدودة من ناحية الشخصيات، والتقنيات، واللغة، وبالتالي قد يجد الكاتب نفسه بحاجة إلى وعاء إبداعي إو صيغة سردية أكثر اتساعاً للبركان الذي في أعماقه، وهنا تأتي الرواية، ولكن في كل الأحوال فإن الرواية ليست قصة طويلة أبداً، بل جنس أدبي مختلف له تقنياته السردية ورؤيته المغايرة للقصة القصيرة، صحيح أن بعض الكتاب يمكن أن يرى القصة تمرين مسبق على كتابة الرواية، وهذا ما أخبرني به الأديب الراحل مؤنس الرزاز ذات حوار معه، لكني لا أرى الأمر بهذا المنظور.

في مرحلة ما قد يكون المبدع شاعراً وأصدر عدة دواوين ثم يتجه إلى الرواية، أو يكون مسرحياً، وهكذا، فالنضج المعرفي للأديب، ورغبته الأكيدة في كتابة الرواية، مسألة مغايرة تماماً لفكرة أن الأجناس الأخرى أقل قيمة إبداعياً، وأنها مجرد “استكتشات” للوحة كبرى.

عندما يقوم الروائي بكتابة رواية، هل يقوم بإعاده تشكيل المشهد تبعًا لنظرته ومعتقداته، أم أنه يحاول استخدام نظّارة غيره، أي أنه يسأل ما بداخله هو ليجيب هو أم يسأل ما بداخل القارئ ليعالج الامر بشكل يرضي ويجذب القارئ للعمل الروائي؟

لا أظن أن الأمر يجري كما وصفت في الاحتمالين، فالروائي لا يفكر بالقارىء وما يصلح له، ولا ينساق أيضاً إلى ليّ عنق الشخصيات أو تشكيل المشهد بناء على نظرته الذاتية للأمر وقناعاته. الأصل أن يكتب بناء على منطقية الأحداث، وانسجام الشخصيات معها، من غير المعقول أن ترغب شخصية بالذهاب إلى حانة لاحتساء الخمر مثلاً، ويجبرها الروائي على الذهاب لشرب الشاي لأنّ الخمر بالنسبة إليه رجس من عمل الشيطان. ينبغي أن يمارس الكاتب الديموقراطية ليس خارج النص في الحياة فحسب بل في عمله الإبداعي، ومن المعروف أن كتابة الرواية أمر بالغ التعقيد، وثمة عوامل كثيرة تدخل في الحسبان، لكن من الضروري أن لا يخضع المبدع الحقيقي إلى ابتزاز القراء، أو مراضاة النقاد، أو حتى تفصيل الرواية وما فيها من أحداث وشخصيات وعوالم متشعبة لكي تتسع لمقاسه الفكري ونظرته الخاصة للوجود.

 

هنالك سؤال غالبا ما يتبادر لي، وأنت لك باع طويل في الكتابه وتجربه عريضه، وعاصرت الكثير من الأحداث السياسية والأدبية وغير ذلك، وهو بكل اختزال لماذا نكتب؟

الكتابة فعل إبداعي كما أشرت من قبل، وموهبة فطرية ينبغي أن تجد لها مسربها الخاص بها، وهي برأيي أيضا فعل “خلق” لأن “الله هو أحسن الخالقين”، ولا يوجد ما يمنع أن يتجلى اسم الله “الخالق” على بعض الناس، بنسبة أو بأخرى ليبدعوا من الحروف كلمات وجملاً وكتباً، لهذا من الضروري الانتباه إلى عدم العبث في مسألة الكتابة، وأخذها على محمل الجد، فالحروف أرواح لها طاقاتها الخاصة بها، ومن غير المعقول، تحويلها إلى مخلوقات مشوهة. بالنسبة لي الكتابة إضافة إلى كل ما ذكرت يجب أن تضيف شيئاً من الجمال والنور لهذا العالم لا أن تساهم في المزيد من الظلام، ولأنها يجب أن تخرج من الأعماق، وتمتلأ بالمعارف، فعلى الكاتب أن يحرص على أن يقدم شيئا جديدا ومغايرا للسائد، لا أن ينغمس فقط في نقل الواقع بما فيه من أحداث سياسية واجتماعية وغيرها كما هو، على أن سؤال الكتابة في النهاية مرهون بالكاتب نفسه، وكما يقال: “كل يغني على ليلاه”.

أول خيط للمعرفه هو طرح السؤال والإصرار على إيجاد الإجابة، ومن هنا نذهب لفلسفة الاسئلة، هل تجد أن الفلسفة هي الشكل الحقيقي والأكثر مناسبة للرواية، أم أن إثارة الجدل والتشويق للكشف والإمتاع هو الشكل الأقرب للعمل الناجح؟

لا توجد خلطة واحدة لكتابة الرواية، ولا أن تكون مكوناتها واحدة أيضاً كالفلسفة مثلاً، فكل رواية حياة متكاملة وفريدة بما فيها من شخصيات وأحداث وتقنيات، وقد تضم في داخلها كلما أشرت إليه من تشويق وإثارة للجدل وإمتاع، وقد تفشل في أمر وتنجح في أمر واحد، فالرواية الناجحة برأيي يجب أن تتضافر فيها كل المكونات بدرجة عالية لإقناع القارىء بها، وجعله يتحمس لقراءتها، بما فيها من معارف، وسرد بهيج، وعمق، ولغة، وتنوع في التقنيات، والقدرة على ابتكار أجواء خاصة وليست مجترة أو منقولة ممن سبقه من الكتاب.

على الكاتب أن يهضم القراءات المكثفة الكثيرة له في الفلسفة والعلوم والأدب والفن، إضافة إلى خبراته الحياتية الخاصة، ورحلاته، ونقاشاته، وكل ما يساهم في تشكيل وعيه، وبعد كل هذا الهضم الناعم، يقدم للقارىء عصارة فكره في عمل مبتكر، وأن ينجح في قبول القراء أو العزوف عن كتابته فتلك مسألة أخرى.

 

في بحثي عن يحيى القيسي أجد أنه في بعض ما كتب قد اقترب من المحظور، وارتدى جرأة من سبقنا من أجدادنا قبل زمن طويل، هل من السهل قرع أبواب مغلقة، وكيف لنا أن نكتب في هذا الطريق دون الخوف من الاعتذار لاحقا؟

محاولة اختراق “التابو الثلاثي” أي السياسة والجنس والدين ليس بالأمر الجديد، كما أن بعض الشعوب تتسامح مع بعض هذه المحظورات أو كلها كما يجري في بعض البلدان الغربية مثلاً، وبعضها الآخر قد يحاكم الكاتب لمجرد الاقتراب من تخوم هذه الموضوعات المثيرة للجدل. في بداية التسعينيات عشت في تونس، وشاهدت بأم عيني كيف أن تابو الجنس لم يكن يعني شيئاً لا بل إن كتب الأجداد الإيروتيكية مثل “الروض العاطر في نزهة الخاطر” للنفزاوي كانت تباع على الأرصفة وسط العاصمة، كما أن تابو الدين كان قابلاً للاختراق، بينما كان تابو السياسة مثلاً مسألة غير مقبولة وتقود صاحبها إلى الاعتقال، الآن الوضع بعد نحو ثلاثين سنة تقريباً في تونس نفسها يبدو مختلفاً، فالمحظورات في السياسة أو الدين أو الجنس مسألة حساسة وقد تودي بصاحبها إلى غياهب السجون.

بالنسبة إلى كتاباتي لم أستفز فيها أحداً أو أخترق المحظورات بصورة فاقعة بل بطريقة ناعمة ودون أن تثير سخط سدنة الأخلاق وحراس الفضيلة وأجهزة الأمن، ولا أرى أن على الكاتب بالضرورة أن يكتب بهدف كسر هذه التابوهات أو استفزاز طمأنينة المجتمعات بل بما تملي عليه الكتابة نفسها من سلاسة وعمق ورؤية دون إفراط ولا تفريط، على أنني في كل ما كتبته من روايات لا أرى أنها تضم شيئا يمكن أن أعتذر عنه الآن أو في المستقبل.

يتأثر الكاتب بما يقرأ ويجد ذاته في الكثير من المرات في بوح من سبقوه، في رواية “باب الحيرة” مثلا نجد عبارات لمتصوفة كبار من مثل الحلاج، ما مدى تفاعلك مع الصوفية واهتمامك بها، حيث يظهر ذلك في رواياتك.

تجربتي الروائية تمتح من التصوف الكثير، إذ تجمع ما بين خبراتي العرفانية والمعرفية معاً، وهي تجربة شخصية امتدت على سنوات طويلة، سواء من خلال القراءات المكثفة لأعمال كبار المتصوفة، أو التأمل الذاتي، والخلوة الوجودية، ومقابلة بعض مشايخ المتصوفة، كما أنني انشغلت أيضاً بالماورائيات، أو الظواهر الميتافيزيقية، وإمكانية ربطها بالعلوم الحديثة، سواء فيزياء الكم، أو غيرها، وهذه العلوم ليست مقتصرة على دين معين، بل منتشرة قديما وحديثا للبر والفاجر، والمؤمن وغير المؤمن، وفي النتيجة فإن ما كتبته من روايات هي في المقام الأول أعمال سردية إبداعية، وليست بحوثاً صرفة، فقد خصصت كتابي البحثي الأول عن ابن عربي المتصوف الشهير وحيرته بين المنقولات والكشوفات، كما أن الحلاج شهيد الحب الإلهي كما يصفه بعضهم حضر بقوة في روايتي الأخيرة “حيوات سحيقة”.

التصوف إذن لم يكن حلية فنية، بل حالة وجدانية، تمظهرت في لغتها وأجوائها في معظم رواياتي، وللأسف قرأت للكثير من الأدباء العرب ممن يحسبون على التصوف أعمالاً أخذت قشرة اللغة أو بعض المصطلحات والأجواء من الصوفية، وبقيت في عمقها خارج ذلك تماماً، وقد تناولت ذلك يوماً في مقال لي بعنوان “التصوف الخادع عند الأدباء العرب”.

 

وجدت يحيى القيسي في الصحافة والتلفزيون وكتابة الافلام والمقالات وإجراء الحوارات، هل وظفت عملك الصحفي والتلفزي في أعمالك لاحقاً، وكيف تمظهر هذا التوظيف؟

لم تكن تجربتي الابداعية مقتصرة على كتابة الرواية أو القصة القصيرة فحسب، بل تعددت المسارب، ومن ذلك العمل الطويل في الصحافة الثقافية كتابة وتحريراً، وكذلك إعداد الأفلام التوثيقية مثل “سيرة مبدع” خلال الفترة 2002-2004 ، كما أنني كتبت في النقد السينمائي لمجلة عمّان الثقافية لفترة من الوقت، وانشغلت أيضاً في تأسيس موقع “ثقافات” ورئاسة تحريره، وما أزال منذ العام 2012، وهي تجربة في المواقع الالكترونية الثقافية جديرة بالانتباه، وقد ساهمت كل هذه الأعمال في جعل كتابتي الإبداعية مصقولة، ففي الصحافة يتعلم المرء الاختزال، وفن الحذف، وعدم الثرثرة، واختيار العناوين المثيرة لشهية القراء، والتعرف بعمق على الحالة الثقافية بتنوعها من ناحية الأدب والتشكيل والسينما والمسرح والإدارة للمهرجانات والملتقيات وغير ذلك.

أما السينما من ناحية انشغالي بالكتابة عن الأفلام ومشاهدة الأعمال العالمية والعربية المهمة، فقد ساهمت في أن أكتب نصوصي أحياناً و”في رأس قلمي عدسة كاميرا” على رأي الروائي الكولمبي ماركيز، إذ لدي وعي أثناء الكتابة في المشهدية البصرية التي تأخذ جمالياتها من عدسة الكاميرا، وأحيانا من الفن التشكيلي أو حتى الصورة الفوتغرافية، من أجل أن تتضافر كل هذه الخبرات لتشكل معاً السرد الشهي الطازج القابل لإدهاش المتلقي أو “لذة السرد” في تسمية أخرى.

إلى أي حد يمكننا القول أن الأدب الأردني في حالة جيدة خصوصًا في هذه المرحلة، وكيف تقرأ المشهد في الأردن، بما يخص الرواية تحديدًا.؟

انغمست في المشهد الأدبي الأردني فترة طويلة، وساهمت من خلال عملي في الصحافة الثقافية في الترويج له ولكتابه، وخصوصا في “القدس العربي” اللندنية 1999-2009 ، وبرأيي أن المشهد الأدبي قصة ورواية يتماز بتنوعه، وعمق بعض ما فيه من تجارب، لكن الجغرافيا السياسية بتقلباتها، وضيق أفق بعض المسؤولين عن الثقافة سواء في جانبها الحكومي أو الشعبي، وأمراض المثقفين مثل الشللية، والجهوية وما إلى ذلك، ساهمت في عدم وجود رافعة لصناعة نجوم في الوسط الثقافي، أو دعم المبدعين، أو تسويق أعمالهم داخليا وخارجياً. المبدع في الأردن نبت صحراوي، عليه أن يحفر في الصخر ليشق طريقه، لأنه لن يجد من يقدم له الدعم، أو يساهم في التعريف به، والاهتمام بمنجزه داخلياً، وما لم يأخذ الكاتب جوائز على أعماله، ويسبب الحرج للثقافة الرسمية، أو يقترب من الموت، فلن يلقى الاهتمام عادة، والأمثلة كثيرة لا مجال لذكرها، هذا ما يتعلق بالكتاب المبدعين الحقيقيين الأحياء، أما الذين رحلوا فلا بواكي لهم..!

 

أخيرًا ما هي رسائلك لكاتب شاب؟ وهل هنالك عمل في الأفق، ونحن نعلم أن الإجابة عن ما إذا كان هنالك عمل جديد ليس بهذه البساطة، وأن عدم التفرغ حالك حال الكتاب العرب والاردنيين ربما له دور كبير في البقاء في دائرة القراءة  أكثر من الكتابة.

اكتشفت مؤخراً أنّ الجيل الجديد لم يطلع على تجربتي القصصية، فأحببت أن أنشر مختارات مما نشرت من قصص قصيرة خلال فترة التسعينيات، سواء مما صدر في المجموعتين القصصيتين “الولوج في الزمن الماء”، و “رغبات مشروخة” أو مما لم ينشر، وبالتالي فإن المختارات التي من المتوقع أن تصدر خلال هذا العام 2023 عن وزارة الثقافة غالباً ستشكل فرصة لاستعادة مشاركتي في هذا الفن السردي الخاص، كما أنني أنشغل في الكتب البحثية لمراجعة الفكر الديني، وأتابع ما بدأته بخصوص ابن عربي، أما الكتابة الروائية، فلا أظن أن الوقت أو الظروف المحيطة تسمح لي بذلك، ناهيك عن شعوري بالاحباط من قلة القرّاء، وعزوف النقاد، فما أنجزته في الرواية يحتاج إلى تأمل دقيق وقراءة مكثفة، وهذا لم يحصل كما ينبغي له إلى الآن، وبالتالي لا فائدة من انجاز عمل جديد، ولم يهضم القراء الأعمال السابقة بعد.

بالطبع فإن الروائي الأردني تحديداً، والعربي عموماً لا يملك ترف الوقت من أجل التفرغ للكتابة الابداعية، فالكاتب كائن مادي يأكل ويشرب ويدفع الفواتير، ويحتاج إلى دخل شهري من أجل حليب أطفاله وعلاج نفسه وتفاصيل مرهقة لها أول وليس لها آخر، وهو ليس كائناً أثيرياً يحلق في الهواء، ويعيش مثل الشجر على التمثيل الضوئي وانتاج الكلوروفيل.

بالنسبة للجيل الجديد من الكتاب الشباب فإن النصيحة الذهبية التي يمكن أن أقدمها لهم هي القراءة الكثيرة والانتاج الأدبي القليل، وعدم الركون إلى الشهرة، ولا تقتصر القراءة على عيون الكتب في الأدب العربي والعالمي بل أيضا في حقول الفلسفة والفكر والعلوم، إضافة إلى عدم الاستسهال للنشر قبل الأوان، كما أن المجاملات الجوفاء ومستنقع الفيس بوك والمدائح المجانية لا يفيد أبداً.

 

  • عن مجلة صوت الجيل 2023 ( وزارة الثقافة الأردنية)

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *