تفكيك الرمز- دلالات الصورة الشعرية في ديوان “منذ البدء كان هناك الحية والعشب والخلود”

(ثقافات)

تفكيك الرمز- دلالات الصورة الشعرية في ديوان “منذ البدء كان هناك الحية والعشب والخلود”                                                               

 بقلم د. نجمة خليل حبيب

                                                 

أن تقرأ/ تقرئين نصاً للشاعر العراقي نزار الديراني[1]، يجب ان تكون متسلحاً بثقافة معرفية شاملة ليس في مجال علم النص من نظريات جمالية،  كنظرية باشلار في جماليات الصورة الشعرية، أو الجرجاني في إعجازه فقط، بل يجب أن تكون ملماً أيضاً بنظريات التأويل والتفكيك، وبالمقاربة التناصية، وبعلم الأديان والتاريخ والجغرافيا، والأهم أن تكون القارئ النموذجي الذي تستهويه في النص “صوره المركبة التي تكون أقل خطوراً على الذاكرة وأوسع نطاقاً في التخييل ..”

يتألف هذا الديوان من ثلاث مجموعات هي:

  1. “هكذا تكلم كياسا” وتحتوي 18 قصيدة

    2. السرة والعشب والخلود، 21 قصيدة

  2. قصائد في رثاء زوجتي 15 قصيدة

وفيه انتهج الشاعر قصيدة النثر الحديثة المتحررة من قيود الوزن والقافية مما أتاح له التعبير بيسر عن دقائق خلجات قلبه وعقله. وحملت قصائده في مجملها رؤية مجتمعية وطنية دينية، تحركها هموم الوطن الأصغر العراق، ومن ثم هموم الوطن الأكبر، الوطن العربي، هذا إذا استثنينا الجزء الثالث الذي خصصه لرثاء زوجته.

وإذ نبدأ فبالعنوان، عتبة النص الرئيسية، ومفتاحه الأساسي، ونقطة الإرسال الأولى بين المرسِل والمرسل إليه.  هو الذي يحدد هوية النص ويعين قَصْدِيَتِهِ ويخلق أجواءه النصية والتناصية، وقد اشتغل الديراني على تقديمه بصورة شعرية جذابة تحتمل أكثر من تأويل وفي جعله ملتبساً حائراً بين أسطورة كلكامش الوثنية والأخرى الدينية التوراتية، حتى إذا ما ولجنا جسد النص رأيناه يتوقف طويلاً عند أسطورة كلكامش كونها تتقاطع بشكل كبير مع الواقع العربي في كل مراحله وشخصياته وفلكه الزمني، باستثناء النهاية السعيدة لأوروك التي قد لا تتوافق مع هذا الواقع. ولأنها أيضاً لاقت هوى في نفس الشاعر، فأسقط العديد من أحداثها وهواجس ابطالها ومخاوفهم على تجربته الشخصية: غربته واغترابه عن ثقافة الفساد والنفاق والفوضى السائدة، ليس في المجتمع العراقي فقط، بل في كل مجتمعات الوطن العربي. ونحوياً، استخدم الكاتب جملة مركبة يتقدم خبرها (منذ البدء) على اسمها الذي هو بدوره جملة اسمية مؤلفة من كان وخبرها وما يتعلق بهما (كان هناك الحية والعشب والخلود) مما جعله (أي العنوان) “أرجح وزناً وأنفس قيمة”.

* * * * *

يحرص الشاعر على تنويع مواضيع قصائده، فمنها ما يدخل في باب الحكمة، كما في قصيدتي “السرة والعشب والخلود” و”قل لي أين أبني بيتي”، وأخرى تكتنز خطاباً فلسفياً  كما في قصيدة “البيضة”، وثالثة تشبه ( على حد تعبير شاكر سيفو) الاعترافات المخلقة برؤى تاريخانية تلك التي لا تكتفي بسرد المعلومات التي يقدمها المؤرخ، وإنما تسعى إلى تفنيد هذه المعلومات وإزالة سمة الحقائق المسلم بها عنها، فالتاريخاني يستقرئ ويفكك ما يقدمه المؤرخ ويعيد قراءة التراث بعيون أخرى[2] حيث تجتمع في كل قصيدة الرموز التاريخية والوقائع والمشاهد اليومية في أسلوب درامي مكثف من أهم سماته: الأخلاق، وتمجيد البسالة لشخصية البطل، واستخدام قوى خارقة للطبيعة، والمبالغة في الكشف عن براعة البطل. وقد مكنت تجربة الشاعر الحياتية وثقافته الواسعة وتمكنه من اللغتين العربية والسريانية من إثراء نصه بصور شعرية مركبة تختلط فيها الرموز بين الماضي والحاضر، الأسطوري والواقعي، والسماوي والدنيوي:

 

“قم يا كياسا

ألم تر رمح بيلاطس قد تهشم

واسود وجه إسخريوطا

قم … لترى

كيف صنعوا أولئك الغارقين في حانات الغرب وتحت عباءات الشرق

من الرمح المهشم رماحاً جديدة ليغرزوها من الجنب الآخر

قم …

إلى متى ستكون غارقاً في النوم، ودمك!! يجري

وهو يجرف التاريخ … والحقوق

ويمسح آثارك ومهدك و. . .

وهمرات الغرب تسير فوق أضلعك

وأنت غارق في الجدالات والشجب

من الأحق أن يجلس على كرسي المجد؟

أبناء عمر أم أبناء عليّ؟

أولاد الحسين أم المعاوية؟

أقنوم واحد أم أقنومان؟”. (الرمح المبتور، ص 23)

في هذه القصيدة التي لا تتعدى المئة كلمة، حشد الشاعر صوراً شعرية مكثفة متداخلة زمنياً عطف فيها الماضي على الحاضر، متخذاً العِبَر من أحداث مرّت على مدى خمسة قرون،  وعطفها على حاضر وطنه العراق، المبتلى بالويلات، وما أكثرها في تاريخه الحديث والمعاصر. وإذ نبدأ فبمخاطبة كياسا ( الرجل الذي صلب عن يمين المسيح) كي يقوم ويرى ليس ما فعله بيلاطس ويهوذا فقط، بل ما فعله بعض أبناء العراق بعراقهم ملمحاً إلى ما كان من أمر فئة منهم استدعاء القوات الأجنبية إلى بلدهم بدعوى تخليصهم من حاكمهم الظالم عام 1991 .. وتتكثف الصور الشعرية في القصيدة لتأخذنا إلى كل تلك الصراعات العبثية التي عاشها العراق: مآسٍ تاريخية (مأساة كربلاء: أبناء عمر أم أبناء عليّ) وأخرى عقائدية (أقنوم واحد ام أقنومان) انقسام الكنيسة في عهودها الأولى بين طبيعة المسيح: هل هي طبيعة بشرية-إلهية أم إلهية فقط؟[3]. وثالثة تدور في حلقة مفرغة حول العِلم واللغة والحدود، لينتهي باستنهاض كياسا ليرى ما آلت إليه حال العراق الذي اصبح كقميص يوسف وذلك بقوله ” استفق لترى كيف يقترع قطاع الطرق على قميص الوطن”. وقد تجلت جمالية الصورة الشعرية بقوله: (صنعوا…. من الرمح المهشم رماحاً جديدة ليغرسوها في الجنب الآخر) ملمحاً بذلك إلى شبه الإجماع العالمي في مساندة الولايات المتحدة الأمريكية على غزو العراق ومن ثم نهب آثاره وخيراته. والشاعر في عمله هذا لا يتوقف فقط عند الحدث التاريخي، بل يتعداه إلى محاكمته بنبرة غاضبة حيناً (إلى متى ستكون غارقاً في النوم، ودمك!! يجري)، متهكمة حيناً آخر (من الأحق أن يجلس على كرسي المجد؟/ أبناء عمر أم أبناء علي؟….) ومتسائلة في مواضع كثيرة

* * * * *

في قصيدة “أوخارستيا” تمتزج الأزمنة، وتختلط الشعائر الدينية، ويعلو صوت المداحين الكذبة، فلا يبقى حقيقياً إلا الجوع والأمراض والقتل والتشريد. تبدأ القصيدة والشاعر يستنهض الإله البابلي مردوخ المشهود له بالعدل والحكمة، ليستفيق ويرى ما هي عليه  حال أحفاده العراقيين بعد 5000 سنة حيث لا يزال بينهم الدجالون على شاكلة ششكلو (رئيس الكهنة في مدينة بابل القديمة). يستنهضه آملاً أن تتحول الدماء التي تجري في نهري دجلة والفرات إلى عصير عنب. ثم يشكو له الحكام الظلمة، ويسائله إن كان “ليس هناك تمازج ولا ذبيحة … ولا زواج …/ كيف لأكيتو (رأس السنة البابلية) ان يحل علينا/ وكيف للمسيح أن يبعث من جديد. ثم يدعوه لقراءة إنوما أليش (سفر التكوين في الديانة العراقية القديمة) إلى أن ينتهي محذراً إن لم يكتمل فعل التزاوج: “وإلا … ستعجز يا كلكامش أن تكون خالداً”

“السنة تشير إلى سنة 6755

قم أيها الإله مردوخ لترى في نيسان

كم على شاكلة ششكلو أياديهم ممدودة
. . .

استفق لترى من بعد 7000 سنة

وآلاف الاحتفالات … والصلوات … والشموع

وخطابات أمام هيكلك المقدس

حل علينا أكيتو كصدر عذراء

عقيماً من المطر

وأشجار البساتين وموائد الطعام خالية إلا من الأمراض

وصحفنا! خالية مإلا من أخبار القتل والتشريد

ونحن!!! بدلاً من حبوب الحنطة والشعير

ترانا نزرع أرضنا بأوصال الجثث”. (ص 25)

تؤكد هذه القصيدة أن الأسطورة التوراتية مأخوذة عن أسطورة كلكامش. وإذ نقارن بين الأسطورتين، يتبين لنا أن تفوّق قصة كلكامش لا يقتصر فقط على أسبقيتها الزمنية، بل يتعداه إلى القيمة الفنية، بمعنى أننا نقرأ في أسطورة كلكامش عملاً أدبياً يسبر أعماق النفس البشرية فيصفها في مختلف انفعالاتها قبل أن يُعْرَف علم السيكولوجيا بآلاف السنين. ففعل الخلق مثلاً  كان في الأسطورة الكلكاميشية نتيجة جهد وتعب ومشقة. كان فعلاً وتدميراً للفعل:

“ركب كلكامش وأور شنابي في السفينة .. وبمائة وعشرين دفعة استعمل كلكامش كل المرادي(المجاذيف) .. وكان أوتو-نبشتم قد ابصر السفينة من بعيد، فأخذ يخاطب نفسه .. علام دمرت سور الحجر بالسفينة . . .  ثم نزع كلكامش ثيابه ونشرها بيديه كأنها شراع”[4].

بينما اقتصر فعل الخلق التوراتي على إرادة إله غير مرئي وبإصدار أوامر فقط: “وقال الله: ليكن نورٌ، فكان نورٌ .. وقال الله: ليكن جَلَدٌ في وسط المياه .. وقال الله لِتَجْتَمِعَ المياه تحت السمّاء إلى مكانِ واحدِ، وَلْتظهراليابسة. وكان كذلك”[5]

* * * * *

ونقرأ في قصيدة “البيضة” سفر تكوين جديد، تختلف عن أسطورة الخلق التوراتية في أنها ليست مجرد سرد للتاريخ، بل هي استقراء له.  فلولاها، لما كان هنالك ديك ولما كان للقديس بطرس تلميذ المسيح الوفي أن يتنبه إلى ما اقترفه من ذنب عندما أنكر معرفته بمعلمه يسوع ثلاث مرات[6]. وتقول الرواية الإنجيلية أن إحدى جوارى رئيس الكهنة عرفت المسيح، فقالت لجارية أخرى وأحد الحضور، فذهبوا جميعاً لمواجهة بطرس، فأنكر الأمر ثلاث مرات، وفي المرة الثالثة صاح الديك، فتذكر بطرس قول معلمه فندم وأعلن توبته. ولربما كان في صيحة الديك هذه الفضل في إنقاذ المسيحية من الزوال.

“البيضة، هي التي تحمل الوجود

فلولا البيضة!!!

كيف لك أن تسمع صوت الديك، وتحضن كل يوم مار بطرس

لولا البيضة!!!

لكان المهد مجرد ألواح من الخشب” (87-89)

وإن رثا نزار الديراني فهو لا يتفجع ولا ينتحب، بل يخاطب من يرثيه/يرثيها وكأنه حي. ففي قصيدة “السعانين” (ص 29)، يخاطب والده المتوفى بلهجة خفيضة تنسجم مع ما يعتري الإنسان، من ذهول في حالات الموت- المفاجئ منه على وجه التحديد- (أبي/ لماذا تركتني وحيدا أقرأ مستقبلي في مرآة مهشمة)، وإذ يتخطى الصدمة الأولى، يتجه على طريقة المتصوفين إلى تبرير هذا الذهاب على أنه اشتياق لوجه الله، إذ أن رغبة المؤمن/ة في التوحد مع الله أمر معروف في الديانة المسيحية، يختبر فيه المؤمنون ما يمكن أن يسمى اختبارات صوفية عندما يتقبلون المسيح مخلصاً، يسكن فيهم الروح القدس، فيغيرهم ويقويهم ليعيشوا دعوة الله لهم.

“ربما لهذا السبب سلمت روحك مسرعاً

لتطير مسرعة وتتحول إلى قمر وأنجم في السماء الزرقاء الصافية

لتنير لي دربي ترشدني إلى حيث القرية

كي تمتزج ذكرياتنا وتصنع لنا حباً جديداً

ومستقبلاً زاهراً ..”

ثم يعود وبلهجة آمرة متضرعة، يطلب منه أن يستفيق من نومه الثقيل ليرى جمال الطبيعة في الربيع، الأرض تورق وأزهار النرجس تتفتح والبلد تستعد لعيد القيامة (الفصح) ومسيرة السعانين تجوب شوارع القرية. ويستحثه كي يكون مثل أليعازر (أتعتقد كان لعازر أقوى منك). وبحسن تخلص لا يستطيعه إلا من وُهِبَ ملكة لغوية متميزة يزاوج الطقس الديني بالحدث الواقعي لينفث ما في صدره من ألم أحدثته تداعيات حرب الخليج عندما تنادت كل دول العالم من غرب وشرق بما في ذلك الدول العربية في الهجوم على العراق[7]. يقول:

“إن كنت تعتقد لم يحل موسم قطف الكروم وحصد الحبوب

بإمكانك أن تفتح المخازن والدنان

ستجد كم من الجثث تملأ الأرض هنا وهناك

وكم من جرار الدم أريقت على أرصفة أسواق وبغداد والموصل وكركوك و …

لتعبر همرات ودبابات إخوتنا الأعداء

وأولئك الذين صبغت اياديهم بالدماء أيام التزاوج”. (30-31)

وفيها يتبع الشاعر منهج الواقعية الجديدة تلك التي تهتم بتصوير الأحداث والوقائع، ووصف طبائع الإنسان، وحقائق الأشياء، وتحويلها إلى فن يطابق الواقع[8].

“استفق لترى الأطفال

متوشحين بملابس بيضاء

وحاملين بأيديهم أغصان الزيتون

قم لتجد السلة المملؤة بالبيض الملون الأحمر والأصفر

والأخضر و ,. واوراق الأزهار

ألا تتذكر مسيرة السعانين وهي تجوب شوارع قريتنا وهي تجوب شوارع قريتنا”. (30)

ويحفز الطاقات المادية والروحية معاً لإبداع ما يمكنه إبداعه من جمالات وخيرات، ولرؤية أعمق ما يمكن رؤيته من كنوز الخير والجمال في الحياة والكون، كما في قوله: “قم واستفق من نومك الطويل/ أتعتقد كان لعازر أقوى منك؟”. أو قوله:

قم واسمع، كي تمتزج أصوات أنشودة “آمين وآمين”، ومزمور “أينوما أليش”

قم!!

ألا تسمع أصوات الديوك وهي تحك ظهرها بالشفق

ليوقظوا الفلاحين كي يذهبوا ويحرثوا الأرض

ألا ترى قطرات الندى وهي تحتضن بشوق عميق أشعة الشمس؟

ليوقظوا الأطفال ليذهبوا إلى الكنيسة علهم يسمعون. . .

ويرون مسرحية كياسا”[9].

وفي هذا الغرض (الرثاء) يخصص الشاعر فصلاً بعنوان “ساهرة” (128-153)، يرثي فيه زوجته، ويتقدمه صورة فوتوغرافية لهما كتب تحتها “وفاء لأكثر من 25 سنة على زواجنا وانتقال شريكة حياتي إلى الفردوس”. ثم يعقبه بخمس عشرة قصيدة، تمتزج فيها  مشاعر الأسى والحزن والتحسر، بالفكر النوراني، باستدعاء الذكريات، وما شابه.

 في القصيدة رقم 1، يعدد الشاعر فضائل زوجته وقيمتها في حياته وحياة أبنائه، فهي عنده بمثابة الظهر من البدن، ويحشد الكثير من الصور الشعرية لإبراز هذه القيمة، فهي مرة الشمعة التي تنير البيت وأخرى ضياء الشمس والقمر لإنارة الطريق، والمطر، ثم يعاود الرجوع إلى رمزية الظهر الذي هو المرأة الصالحة المُحِبة، هي الحافظة للغة الأم وعرق جبين الأب، وهي مهد الطفولة. فالظهر عنده ليس فقط عظماً، إنه الخيمة التي تجمع الأمة (الشعب). بعد ذلك، ينتقل إلى عزاء نفسه يتطهر بواسطته من لوعة الفراق فيقول:

“. . .

لذا من غير الممكن أن أحسب رحلتك فراقاً

طالما كل قطرة من دمي

ودقات قلبي …

 وضياء عيني …

تنبعان من حبك

مهما تباهى الموت بقوته

إلا أن ذكرياتك لا بد أن تنتصر على جبروته

 وتذيب جليده

وتصنع لنا قوس قزح”. (130)

وفي قصيدة الغروب يبدو كأن الحزن وليدٌ اكتمل نضجه. ففيها اختفى التفجع الذي يشفي، وحلّ مكانه حزناً دفيناً يعلو على السطح كلما لاح مشهد ما لعين الذات الكلمى. إنه الغروب، مشهد فجّر في قلب الشاعر المكلوم حزنا دفيناً ناره تكوي على مهل، تستنهض الذاكرة وتختم بالحكمة. تبدأ القصيدة بصورة شعرية خلاقة: الشمس تسدل هدوءها على ما تبقى من خيوطها الملطخة بالدم لتصنع من قلب الشاعر تابوتاً. تتعثر بعض الشيء في الوسط، ثم لا تلبث أن تستعيد جماليتها لتنطق بالحكمة:

“إن كانت المسافة بين الوجود واللاوجود شعرة واحدة

أو …

إن الزمن بين دقة القلب وغمضة العين لا تتعدى الدقيقة

وبين الرقص في حفلة الزواج وحملك في التابوت

لا تتعدى شروق وغروب ليوم واحد

ماذا تريد أيها الإنسان من كل ما تبذله من ليل وصراع؟

لا بالنهار تهدأ ولا بالليل تسكت”. (135)

تتميز قصيدة “قالوا” بلهجتها الخفيضة الحائرة يستخدم الشاعر فيها فعل الإخبار (قالوا) ليعطي للسرد زخم الحكاية التي تشد انتباه المتلقي وتحفزه على طلب المزيد. وبحنكة، يتخفى الشاعر وراء فعل الإخبار، حتى إذا تأكد له علوق سامعه في شباك حكيه، قفز إلى صيغة السؤال متظلماً من قسوة القدر الذي حرمه زوجته.

“قالوا ..

دموع العيون استطاعت أن تسحب وتزيح الدبابات…
والهمرات الأمريكية …

من الطريق

 والحب سيخمد لهب الشهوة

قالوا … حبة الحنطة بعد مماتها ستشق الأرض وتنبعث
أيا ترى! كل هذا الكم من الدموع لا تستطيع أن تدفع نيتي[10]

لتفتح باب القبر

لتبرعم زوجتي

وتخمد ناري من جديد”.(141)

والقصيدة على قصرها[11]، تحكي ميثولوجيا عراقية قديمة مفادها: أن الإلهة عشتار نزلت إلى العالم السفلي كي تخلّص زوجها ديموزي من إلهة العالم السفلي، إلا أن نيتي، حارسة الباب، أغلقت الباب في وجهها. وكما عودنا الشاعر في معظم قصائده استحضر الأسطوري القديم على الواقعي الحديث بحنكة ودراية وبضربات سريعة لماحة لا ترهق الفكرة بالتفاصيل تاركاً للناقد/ة متعة استنطاق النص وكشف دلالته.

لا تتوقف قيمة ديوان “منذ البدء كان هناك الحية والعشب والخلود” عند تعدد مواضيعها  الغنية بالمعارف وجمالية السرد، بل هي أيضاً غنية بالصور الشعرية المبدعة تلك التي قال عنها الشاعر بول فاليري: إن الشاعر الحاذق هو الذي يستطيع أن يحقق في نصه بكارة التصوير وبكارة الدلالة؛ هي وسيلة الشاعر للتجديد الشعري والتفرد، وبها يقاس نجاحه في إقامة العلاقة المتفردة التي تتجاوز المألوف بتقديم غير المعروف [12]. والديراني، كان ذلك الحاذق الذي عناه فاليري، فصوره الشعرية المبدعة الخارجة عن المألوف، تلك التي يمتثل فيها الخيالي بالواقعي، أو بالأحرى تلك التي تكون جسراً يربط الواقعي بالخيالي، لا تنحصر بنصوص محددة من الديوان، بل هي العمود الفقري لكل قصائده.  بمعنى أن الشاعر تكلّم بوحي إلهامه، وبما وعاه عقله من فكر ومعرفة، وبما خزنته ذاكرته من أحداث ومشاهدات ومعايشات:

وإذ نبدأ، فبالقصيدة الأولى، “الرمح المبتور”، المتميزة بوحدتها العضوية، التي هي عند كولورج  نتاج خيال مبدع لا يمتلكه إلا شاعر خلاق مبدع قادر على تنظيم نصه تنظيماً موحداً عضوياً. بمعنى أن كل جزء مرتبط بالآخر ارتباط الجسم بأعضائه. وموضوع القصيدة يقوم على استنهاض الشاعر ل”كياسا”- الشخص الذي صلب عن يمين المسيح- وكان شاهداً على خيانة يهوذا الإسخريوطي وعلى زيف الحاكم الروماني بيلاطس البنطي المارق الذي تظاهر بالعدل فغسل يديه متبرئاً من دم المسيح، فيما هو في الحقيقة سلمه لأعدائه ليحاكموه،  تماماً كما فعل حكام العالم بمن فيهم الأمم المتحدة والعراقي والعربي، فتآمروا على الوطن المستضعف العراق، وعهدوا به إلى الجيوش الأجنبية الغازية الذين احتلوه ونهبوا خيراته وفتتوا وحدته الوطنية. ومن صورها الشعرية المتميزة:

– “قم … لترى

كيف صنعوا أولئك الغارقين في حانات الغرب وتحت عباءات الشرق

من الرمح المهشم رماحا جديدة ليغرزوها من الجنب الآخر”.

تكمن جمالية هذه الصورة، أولاً في اختصارها مأساة وطن في جملة واحدة، وثانياً في استخدام صور بلاغية مستجدة حيث كنّى عن عطالة بيلاطس بالرمح المبتور، وعن العراق بالمسيح الذي غرسه جنود العالم برماح جديدة في خاصرته الأخرى.

– استفق علك تكسر الرمح فوق رؤوس الملائكة الهرمة

ففي وصف الملائكة بالهرم (التقدم في العمر) خروج عن المألوف وفي دعوته ل”كياسا” بكسر الرمح فوق رؤوسهم غضبة نستشعر صداها ونتقبلها برضى لأنها غضبة في سبيل قضية إنسانية كمثل غضبة المسيح على تجار الهيكل عندما دخلوه يبيعون ويشترون، وغضبة النبي محمد على اليهود عندما سألوه من خلق الله؟

– أتعتقد كان لعازر أقوى منك؟

لقد استعار الشاعر هذا الرمز الديني (ليعازر) عندما فجع بموت والده. نعم! هو ليس أول من استعاره، ولكنه قد يكون أوّل من بعثه بصورة مستجدة غير مسبوقة، إذ أنه جاء بصورة مكابرة متعالية على الندب والتفجع، رافعة الإنسان (وهو هنا الأب) إلى مستوى الأنبياء والقديسين القادرين على صنع الأعاجيب[13].

– “أيا ترى! كل هذا الكم من الدموع لا تستطيع أن تدفع نيتي[14]

لتفتح باب القبر

لتبرعم زوجتي

وتخمد ناري من جديد” (141)

يبدو الشاعر في هذه الصورة الشعرية التي قالها الشاعر في رثاء زوجته ذاهلاً، كَمَنْ في انجذاب صوفي أخذه بعيداً في التاريخ ليستحضر واحدة من أبرع صور ألم الفراق والموت، وهي تتصف بحرارة العاطفة وصدق الإحساس نستشعر معها أننا على حافة البكاء.

وللطبيعة في قصائد نزار حيز كبير. منها ما هو مألوف كثر تداوله كما في: “ألا ترى قطرات الندى وهي تحتضن بشوق عميق أشعة الشمس؟” (32). ومنها ما تكون ومضة من روح الشاعر: “الشمس تسدل هدوءها على ما تبقى من خيوطها الملطخة بالدم لتصنع من قلب الشاعر تابوتا” (134). ومنها ما هو على مسافة وسطى بين الاثنتين كما في: “وسأجعل من سحاباتي مرشدا القطيع الضال كي يعود الى البيت”، لو كنت الاله آدد لدعوت قطرات المطر كي تحتضن اشعة الشمس (91)

* * * * *

تراءت لنا تجربة نزار الديراني في ديوانه “منذ البدء كان هناك الحية والعشب والخلود” كتجربة ذات خاصية معينة، يمتزج فيها الشاعر الذاهب في اللغة إلى اقصى تفجيراتها،  بالكاتب الواقعي المتحسس لآلام شعبه. وفيها اتخذ من الأساطير القديمة رموزاً عطفها على الحاضر العراقي لإبراز رؤيته الوطنية والمجتمعية. تكلّم بوحي إلهامه، وبما وعاه عقله من فكر ومعرفة، وبما خزنته ذاكرته من أحداث ومشاهدات ومعايشات، فجاء ديوانه تعبيراً واقعياً ليس عن العراق فقط، بل عن كل ما يرزح تحته الوطن العربي وجواره من البلدان.

د. نجمة خليل حبيب

أستاذة الادب العربي في

جامعة سدني- استراليا سابقاً
13/7/2023

 

[1] نزار حنا الديراني، شاعر عراقي من مواليد 1956، خريج الجامعة المستنصرية في بغداد، يعمل في الساحة الثقافية منذ منتصف السبعينات، صدر له 13 مجموعة شعرية، و53 كتاباً بين دراسات أدبية ونقدية كما أصدر بعض الكتب عن تاريخ الشعر السرياني وترجمة من العربية إلى السريانية وبالعكس.. شغل منصب مسؤول اللجنة الثقافية في العديد من المؤسسات الثقافية، كما تولى رئاسة اتحاد الأدباء والكتاب السريان، ونائب أمين عام اتحاد الكتاب والأدباء في العراق، وعضو في اتحاد الأدباء العرب، وهو الآن يعيش في أستراليا
https://www.sbs.com.au/language/arabic/ar/podcast-episode/nizar-dirani-hanna-iraq-australia-lebanone/o0o9eff34
[2] تعدّ التاريخانية إحدى أهم فلسفات إعادة النظر والحفر في الظواهر والقضايا التاريخية؛ بهدف رصد مدى قوتها أو ضعفها، صدقها أو كذبها، واقعيتها أو أسطوريتها، وذلك بعد وضع القضية التاريخية في سياقها الثقافي وتفكيك أنساقها الظاهرة والمضمرة.
[3]
[4] طه باقر، ملحمة كلكامش،ط/1: لندن، دار الوراق، 2006 [2009] ص 168
[5] ينظر في:
https://st-takla.org/pub_oldtest/Arabic-Old-Testament-Books/01-Genesis/Sefr-Al-Takween_Chapter-01.html
[6] وتفصيل ذلك أنه أثناء العشاء السري الذي اجتمع فيه تلامذة المسيح مع معلمهم قبل صلبه وزع على كل واحد منهم مسؤولياته حتى إذا جاء دور بطرس قال له: يا بطرس انت الصخرة وعلى هذه الصخرة أبني بيعتي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها… ثم اردف قائلاً أما أنت يا بطرس فسوف تنكرني ثلاث مرات قبل صياح الديك،
[7]  لمزيد من التفاصيل ينظر في:
https://www.marefa.org/%D8%AD%D8%B1%D8%A8_%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D9%8A%D8%AC_%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9
[8] صلاح فضل، مناهج النقد المعاصر، ط/1، القاهرة: دار ميريت، 2002
[9] قصيدة كياسا، مسرحية شعرية تقدم على مسرح الكنيسة يوم عيد الفصح، مؤلفها الشاعر مار ترساي. القرن السادس الميلادي (الديوان،هامش 12، ص 32)
[10] هي حارسة الباب في العالم السفلي في الأسطورة العراقية (نزول عشتار إلى العالم السفلي)
[11] تتألف القصيدة من 45 كلمة فقط
[12] رينيه ويلك وأوستن وارين. نظرية الأدب، ترجمة محي الدين صبحي، ومراجعة حسام الخطيب، ط/3، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1985، ص 419
[13] يروي القديس يوحنا قصة إقامة لعازر من الأموات التي حدثت قبل الأسبوع الأخير من حياته على الأرض بفترة قليلة، غالبًا في يوم السبت السابق لدخوله أورشليم. إنها المعجزة الأخيرة التي سجلها القديس يوحنا، في شيءٍ من التفصيل
https://st-takla.org/pub_Bible-Interpretations/Holy-Bible-Tafsir-02-New-Testament/Father-Tadros-Yacoub-Malaty/04-Enjeel-Youhanna/Tafseer-Engeel-Yohanna__01-Chapter-11.html
[14] هي حارسة الباب في العالم السفلي في الأسطورة العراقية

شاهد أيضاً

رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان

(ثقافات) رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان  صفاء الحطاب تذهب بنا رواية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *