كان ذلك في شارع التيه

خاص- ثقافات

الطيب صالح طهوري

*

 

قصة قصيرة مهداة إلى الكاتب والأديب الدكتور/السعيد بوطاجين

كانت الساعة تشير إلى السابعة حين وصل إلى المحطة.. ركب الحافلة التي كانت ستسير إلى الجنوب.. على المقعد بجانبه جلس أبوه الذي لم يره منذ أربع سنوات، قبل أن تنطلق الحافلة نظر إليه، كان شخصا آخر لا يعرفه.. فجأة تذكر السعيد بوطاجين.. تذكر أن احتفالية ستقام له في مسرح العلمة هذا اليوم.. مسرعا نزل من الحافلة، انطلقت حافلة الجنوب وركب هو حافلة الشرق، بجانبه رأى من جديد أباه الذي لم يره منذ أربع سنوات.. إلى أين يا أبي؟ سأله..

-إلى السعيد بوطاجين، أجابه..

تذكر أن أباه لا يعرف القراءة أبدا.. لا يعرف الكاتبة أيضا.. سأله متعجبا: من أين لك بمعرفته يا أبي؟ أجابه الأب هذه المرة ضاحكا: لقد التقيت برجله الميت.. هو من حدثني عنه، وهو من عرّفني به. استغرب إجابته وسأله مرة أخرى: قلت بأنك التقيت برجله الميت.. أين كان ذلك يا أبي؟..

هناك.. في قبري.. لقد زارني هناك مرارا.. وزرته في قبره مرارا.. لقد صرنا صديقين حميمين..

سعيد بوطاجين

تذكر أن أباه كان قد مات منذ أربع سنوات.. أعاد النظر إليه من جديد.. شخص آخر كان يجلس بجانبه.. في محطة العلمة نزل.. سار.. كان شارع سيره طويلا جدا، جدا.. وكان يغص بالمحلات التجارية وبالسيارات والعابرين.. كان يعتقد أنه الشارع الرئيس.. لكنه لم يكن الشارع الرئيس.. انتبه إلى ذلك حين أدرك أنه يسير في شارع بطريق مزدوجة.. كانت البنايات عالية تحجب عنه الشمس.. وكان وحده يسير..

حين علت الشمس رآها.. كانت تأتي من جهة الغرب.. متعجبا سأل نفسه: كيف تأتي الشمس من جهة الغرب؟.. تذكر أن ذلك حدث له طوال عام كامل في خدمته العسكرية جنوب تيندوف.. عام كامل والشمس تشرق من غرب الكون وتغرب في شرقه.. عام كامل وأماكن يساره تقع يمينه وأماكن يمينه تقع يساره، وجنوبه شماله وشماله جنوبه.. كانت تيندوف بالنسبة له في الجنوب، وكان اللواء العسكري الذي ينتمي إليه في الشمال.. كيف حدث له ذلك حينها؟.. كيف حدث له الآن؟.. سأل ولم يجد إجابة له.. واصل سيره باحثا عن شارع المدينة الرئيس.. لكنّه لم يعثر عليه.. كان قد رحل بعيدا، بعيدا.. توقف.. حاول استعادة نفسه ولم يفلح.. لابدّ أن أسال المارة، قال له..

الشارع الرئيس بعيد عن هنا كثيرا كثيرا، أجابه الشاب الذي كان يقف على الرصيف تائها..

سار ولم يصدقه.. كيف يكون الشارع الرئيس بعيدا كثيرا عن هنا..

سأل آخر كان قد أوقف سيارته ونزل منها: أين شارع المدينة الرئيس من فضلك؟..

أجابه الآخر بنفس الجملة التي أجابه الأوّل بها.. لابدّ أن تركب حافلة النقل الحضري لتصل إلى هناك، أضاف..

شبان تعودوا على الركوب بين الخطوة والأخرى، قال لنفسه ومشى في الاتجاه الذي أشار عليه به الآخر..

راح عرقه يتصبب وهو يسير..

غير السؤال: أين مكان المسرح؟

حدد الرجل الكهل: بعد ثلاث تقاطعات من هنا انحرفْ نحو اليسار.. هناك يقابلك المسرح..

حين انحرف نحو اليسار رأى المسرح يقابله من بعيد.. تنفس الصعداء وسار إليه سعيدا.. دخل المسرح.. كانت ساعته تشير إلى التاسعة تماما.. لم يجد أحدا هناك.. متحسرا خرج.. رأى المتقاعدين جماعات جماعات يلعبون “الخربقة”.. رأى أباه يلعب “السيق” مع شيوخ قريته.. نسيّ أنه كان قد مات.. نسيّ أن الذين كانوا يلعبون معه قد ماتوا جميعا.. بجانبهم جلس وراح يتابع لعبهم.. بعد لحظات رفع رأسه.. نظر إلى اللاعبين.. لم يكن أبوه هناك.. لم يكن شيوخ القرية الذين كانوا يلعبون “السيق” معه هناك.. وقف.. عاد إلى المسرح.. دخل القاعة.. كان عدد الحضور قليلا جدا جدا.. حيا الذين يعرفهم والذين لا يعرفهم.. صافح بعضهم وجلس.. كانت الساعة تشير إلى التاسعة والنصف.. كان وقت بدء الإحتفائية على التاسعة تماما.. ما زلنا بعيدين عن احترام الوقت، قال لأحد الجالسين بجانبه وخرج.. إلى المقهى توجه، وجد الذي حدثه محتجا عن الوقت هناك.. شرب زعترا وشرب الذي حدثه ورفيقه قهوتين وعادوا إلى المسرح.. في البهو كان أبوه وشخص آخر يرافقه يقفان.. توجه إليهما.. إنه الرجل الميت، قدم الأب رفيقه إليه معرفا به.. عرف به هو الآخر: إنّه ابني الكبير..

كان بوطاجين يقف قريبا.. ترك أباه والرجل الميت وتوجه إليه.. عانقه محييا.. كان أبوه والرجل الميت يبتسمان له.. ينظران إليه مرات.. ومرات ينظران إلى بوطاجين.. حين دخل القاعة رآهما يجلسان في منتصفها.. أمامهما جلس وراح يتابع مجريات الاحتفايئة..

***

كانت الساعة قد قاربت منتصف النهار.. كانت تمد ذراعها إلى المنتصف تماما.. سمع الرجل الميت يقول لأبيه: حان وقت الغداء، علينا بالخروج الآن.. في اللحظة نفسها رن هاتفه.. كان المتصلَ أبوه.. حمل هاتفه وخرج مسرعا.. في الخارج سمع: لم يعد هذا الرغم موجودا.. بحث عن دواء السكري في جيبه.. تذكر أنّه لم يحمله معه.. هل يعود إلى القاعة من جديد.. خمن.. لن تنتهي الاحتفائية قبل الواحدة والنصف على الأقل، همس له.. ولابدّ أن أتناول الدواء..

إلى المحطة توجه.. لم يركب حافلة النقل الحضري.. على قدميه مشى.. في المحطة ركب الحافلة.. كان الرجل الميت وأبوه يجلسان.. أمامهما جلس.. حين جاء القابض دفع ثمن ثلاث تذكرات.. أشار إلى الجالسيْن خلفه.. لم يكلمهما.. لم يكلماه.. سمع فقط صوتا من أحدهما يقول: شكرا لك، جعلها الله في حسناتك.. حين توقفت الحافلة في محطة سطيف رفع رأسه ونظر إليهما.. لم ير أباه والرجل الميت.. رأى شخصين آخرين لا يعرفهما..

جعلها الله في حسناتك، سمع أحدهما يقول الجملة من جديد.. فتح هاتفه.. كانت الساعة تشير إلى الثانية تماما.. كانت الشمس تنظر إليه من جهة الغرب مبتسمة.. كانت تنظر إليه وتبتعد.. وكان هو يبحث عن حافلة النقل الحضري التي ستأخذه إلى حي بيته.. كانت الغيوم القليلة التي تنتشر مبتعدة عن بعضها في السماء تتلاشى واحدة تلو الأخرى.. وكان أبوه والرجل الميت يسيران في اتجاه غير اتجاهه.

سطيف: 31/03/2014

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* شاعر وقاص من الجزائر

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *