عاصم ربيع
استقبل النقد الفرنسي فيلم أوديار الجديد «Dheepan» بسلبية بالغة وصفه البعض بأنه «لحظة تحجر لكثير من العلامات المغلقة للسينما الفرنسية. فالفيلم «لا يصل وحده، بل مع جمهرة صور آتية من وسائط الإعلام، والسينما الفرنسية، وأفلام سابقة لجاك أوديار، ومن سيناريوات مختلفة لكاتبي سيناريو الفيلم توماس بيديغين ونوي دوبري. ففيلم «ديبان» هو مركز منظومة تصيب السينما الفرنسية بالغرغرينا.
فالصدمة التي دوّت لدى عرض الفيلم كبيرة جداً. فعلى الورق، وفي إطار الإنتاج، فالوقاحة صافعة: فيلم يحكي عن اللاجئين السياسيين مع ممثلين مجهولين في الدورين الرئيسيين. وهذا الفيلم لا يخلو من بعض البراعة في القسم الأول: كيف يخلق ثلاثة مهاجرين لا يعرفون بعضهم علاقات تدريجية بينهم؛ كيف على «نمر التامول» التعب من الحرب الأهلية أن يواجه حروباً داخلية، وسلماً محتملاً؛ لكن أوديار يدمر كل شيء (كما جاء في مقالة ستينان ديلورم) في مجلة دفاتر السينما، فالضواحي أظهرت وكأنها في حرب أهلية، مثل سريلانكا. وهذا الرجل الذي لم يعد يحب الحروب، يمضي عكس ذلك، يستدعي أحط غرائزه. يريد أن يظهر للجميع كيف يكون المحارب الحقيقي. فالمتخيل يطيح بالطاقة السياسية.
ونجد (كما يقول الناقد الفرنسي ديلورم) على المستوى الفردي موضوعاً عزيزاً على أوديار والسينما الفرنسية: لا ننجو من ماضينا، وأصولنا، وآبائنا؛ على المستوى الجماعي نجد موضوعاً عزيزاً على الإعلام الفرنسي: الضواحي يعني الحرب كليشيهان اثنان، واحد آت من الفيلم الأسود، والآخر من التلفزيون، والذي يعزز فكرة غياب الفكر السياسي عند أوديار. فهذا الأخير يصلح لصنع مسلسل من إنتاج لوك بيسون، فهذا لا يفاجئنا. لكن المسألة متعلقة بـ”كاتب فرنسي كبير”. وقد عرج الناقد على نواح أخرى: «لا نتصور مدى الفرحة في معسكر لوبان، برؤيتهم المعلومات من الكليشيهات التي كوفئت في مهرجان كان. فلنُفضّل المكان يقدم كنمطي، إحدى الضواحي التي تحولت إلى جبهتين تتصارعان: معسكري ومعسكرك!
أما البطل المصاب بنرجسية سيئة في المعسكر المقابل يرسم خطاً أبيض لخطوط تماس بينهما. تقسيم قبلي على كاريكاتورية حدود في أحد أفلام داني بوم. وبين الرجلين امرأة تقيم علاقة بهما، بين رجل هذا المعسكر ورجل المعسكر الآخر، أي علاقة موصوفة بالحب (هي لك أم لي؟). إنه طرزان وقانون الأدغال. عدا ذلك؛ ولا سكان إطلاقاً، ولا أي ساكن، باستثناء مشهد صندوق الرسائل. ولا حضور للدولة، وكأنما يقول أن الضاحية هي خارج القانون، وعلى ناسها أن يتولوا العدالة بأنفسهم».
ويتساءل الناقد: أتراهم وجدوا الحجة؟ نعم! فهذا ليس سوى فيلم «نوع». ويجيب الناقد:
1 – فيلم النوع هو ذريعة السينما الفرنسية منذ محاولتها الخروج من الاتجاه الطبيعي. لكن هذا النزف استدعى طريقة أخرى «Dramatisation» الميثولوجيا… كلمات لا تعني سوى الخضوع للسينما الأميركية.
2- نمطيات «الأنواع» ليست مجانية. لا يمكن أن نتصرف وكأننا نجهل البنى «الميثولوجية» للأفلام التي ذكرها أوديار، مثل أفلام يمينية كـ”طلاب من القش” أو «التبرير في المدينة». فكل نهاية الفيلم تعيد لعب صعود السلم لفيلم «سائق التاكسي» بشكل سخيف. فأوديار لا يمكن أن يمارس اللعبتين: وأن يربح في الطريقتين: اللعب على «الكاتب» الجدي وهو ينسخ ببغائياً أفلام النوع.
ففيلم «ديبان» لا يعمل إلاّ بالعلامات والإثارة.. ففي مدخل المدينة، أشخاص يمشون على السطوح لرسم حدودهم. رأينا الصورة ذاتها في فيلم أرجنتيني في أسبوع النقد، وهو («بولينا» لسنتياغو ميتر)، حيث تذهب مدرسة لتعلم في الأدغال: بالطبع، هناك أشخاص مترصدون بها وينتظرونها على رأس هضبة.
هذه الصورة الجاهزة (الهنود في أفلام الوسترن) هي علامة: انتبهوا، فأنتم تدخلون إلى أراض محتلة. فأوديار، وبيدغن ودوبري، لا يستطيعون أن يعجلوا وكأن هذه الإشارة من سينما 2015. فكأن الضواحي انعزلت عن باقي العالم.
نفرك عيوننا: نعم! هؤلاء الأشخاص يطلقون النار في الهواء كما أمام «Seleon» (الويسترن). نعم! هذا المعسكر المنعزل لا ينتظر سوى «الشريف» «Sherif» ليفرض القانون ويذهب الناقد بعيداً «أن يستغل المرء «المشاكل الاجتماعية» كديكور لاتباع الفيلم الأميركي، إنما هو تضليل..
فأوديار يتظاهر بأنه يغير أمكنة الأشياء من زعيم أبيض يدعى ابراهيم. عائلة سيريلانكية بدلاً من مسلمين. حرب أهلية مقابل أخرى كونها تأشيرات سطحية.
لب اللعبة عند أوديار كأنما عودة إلى قانون الغاب. فالإنسان، في العمق لا يريد سوى ذلك، ندفعه ليعود إلى الغابة.
إن فيلم «Dheepan» يبلور الهاجس الراهن لشخصيات الحراس. حارس أثاث، حارس شخصي، مناظر شعب. ففيلم «Dheepan» يذكر بآخر حارس بناية.
لعبة غوستاف كرفرن في فيلم بيار سلفادوري الأخير «في الملعب». كل الشخصيات هي حافة القطع، هذيانية ومعقدة، فالفكرة الجيدة تكمن في ربط الأشياء والكائنات في نسيج واحد…
ويخلص الناقد إلى القول في هذه المرحلة الرهيبة التي نعيش، فإن إملاء «قانون السوق» حيث اللاعبون بلا مختبرات. فقانون السوق يغرقنا في قانون الغاب. والسينما الفرنسية كأنما أحبت اليوم ذلك…
————
المستقبل