وقفة مع أولى القصص*

(ثقافات)

وقفة مع أولى القصص*

عدي مدانات

  في العام 1962 وكنت وقتها طالبا في السنة الدراسية الثالثة في جامعة دمشق، ولي من العمر ثلاثة وعشرون عاما، بلغني نبأ اعتقال ومقتل المدرّس، والقيادي في الحزب الشيوعي الأردني ” عبد الفتاح تولستان”. لقد أُخضِع هذا المناضل لتعذيب متواصل على مدى يومين أودى بحياته. كان المطلوب منه استنكار الحزب والإدلاء بمعلومات عن رفاقه، لكنّه رفض بإصرار ولم يبالِ بالعذاب. هالني وقوع هذه الجريمة النكراء، ولكنْ ما أثارني أكثر هو قوّة بأسه وقدرته على الصمود حتى آخر رمق. أذكر أنني قضيت أياماً وأنا أفكّر في سرِّ مقدرته على تحمُّل التعذيب بأصنافه المتعدّدة من استخدام الكهرباء إلى الحرق بلفائف التبغ، دون أن تلين قناته.

  لم أكن قد مارست من قبل كتابة القصّة، باستثناء محاولات ساذجة، متفاوتة في قوّة التعبير أثناء دراستي الثانوية وسنوات الدراسة السابقة. كان الجمود العقائدي قد وضع للقصّة القصيرة إطاراً محدّداً، يتصارع فيه البطل مع جلاّديه والمستَغَل مع المستغِل، فينتصر البطل في النهاية. رغبت في كتابة قصّة تدور أحداثها في فلك ذلك الصراع بين المحقّق الفاشي والبطل المناضل، وكان الإطار جاهزا. كان صمود عبد الفتاح تولستان الأسطوري مناسبة لكتابة قصة على هذا الغرار، ولكنني لم أفعل، لم أذهب مباشرة مع الحدث ووضعه في الإطار المرسوم مسبقاً، فلم أجد فيه راحتي ولم أجد فيه ما يحقّق فكرتي، فقد كانت صور أخرى تلحُّ على مخيّلتي، صور المدرسة وتلاميذه وزملائه، وكنت أحفظ مثل تلك التفاصيل في ذاكرتي، وأستعيدها في مخيّلتي. أخذت أفكّر في وقع الجريمة على زملائه وتلاميذه. وجدت نفسي طالباً في المدرسة أو أستاذاً لا فرق في هذه الحال.  تتالت على مخيلتي مشاهد من أجواء المدارس، مشهد المدرسة ــ أيّ مدرسة بطبيعة الحال ــ باحاتها، صنوف اللهو وشقاوات التلاميذ، غرف الدراسة، المدرّسون والتلاميذ والعلاقة الشائكة بينهم، المدرّس المحبوب، التلاميذ في علاقتهم بالمدرّس المحبوب، زملاء المدرّس، وقع جريمة مقتله على الجميع، المدرّس البديل، انشغال التلاميذ بأمر اعتقاله وأسطورة ثباته وصلابته.

  وجدتني أرى الوجوم يخيّم على وجوه التلاميذ الذين فاجأهم النبأ، وأرى المدرّس البديل وهو يتقدّم نحو غرفة الصف، لكنه لم يكن مهيّأ لإعطاء الدرس. كان واجماً هو الآخر. نهضت قصة قصيرة في الحال من مجموعة المشاهد   وتكاملت عناصرها. انتقيت الصور الضرورية وحسب من مجموعة  كبيرة من الصور. رأيت صفّ الدراسة، رأيت الوجوم على وجوه التلاميذ في ساعة الدرس. رأيت المدرّس البديل وهو يدلف إلى صفّ الدراسة، هو الآخر واجم. ثمة حالة جديدة نشأت وجمعت ما بين المدرّس والتلاميذ، هي حالة مقتل أستاذ محبوب جرّاء تمسّكه بمعتقده حتى آخر رمق. الأستاذ لا يُلقي التحية المعتادة، لا يطلب من التلاميذ الوقوف، والتلاميذ لا يفعلون، فقد كانت غمامة كبيرة تخيّم على الجميع. رأيت المدرّس يتجه نحو النافذة المكسوّة بالبخار، فقد كان الطقس شتائياً (نهاية  شباط). يضع المدرّس إصبعه على الزجاج ثمّ يرسم  خطوطاً ويخرج منه سؤال : كيف احتمل كلّ ذلك العذاب؟ التلاميذ يدركون مَن المقصود، فقد كان لديهم السؤال نفسه. ينبري طالب، فيجيب، فيتبعه آخر وتتوالى الإجابات إلى أن ينتهي وقت الحصة دون أن ينتبه احد، لا التلاميذ ولا المدرّس ، للجرس الذي أعلن انتهاء وقت الحصة، ولم يسرع أيّ منهم إلى مغادرة الصف. أخذت في ما بعد مجموعة الأحداث ومجموعة الصور واحدةً واحدةً، ومجموعة النقلات والتحوّلات من حالة إلى أخرى، وصغتُ قصة تؤدي الوظيفة المطلوبة، لكن على نحو مغاير لأسلوب القصّ السائد. لقد فعل المدرّس البديل وفعل التلاميذ فعلهم في جلب اهتمامي إلى بؤرة القص. لقد خرجت عن الإطار، بيد أنني نجحت.

  نشرت القصة بعنوان “المدرّس”** في صحيفة ” الرأي العام” السورية، بممانعة من المحرر الثقافي الذي لم يجد فيها الإطار القصصي المعروف، وبموافقة حماسية من الشاعر” شوقي بغدادي” الذي أذعن المحرر الثقافي لحماسته. أثارت القصة مع أخريات على مثل رشاقتها نشرت في ذات الصحيفة والطليعة وغيرهما، إن جاز لي مدح ما كتبت، اهتماماً وجدلاً بعد نشرها، فقد تركت ورائي الشكل السائد آنذاك، فحلّت عليّ نقمة من وجدوا في قصصي خروجاً عن الشكل السائد المتزمّت ورضا  من وجدوا فيها واقعية جديدة تُعنى في الجانب الإنساني من الحدث، غير أنها تُحدث الأثر نفسه وربما ما هو أكثر منه. كان في مقدمة هؤلاء ” تيسير سبول” الذي فرض وجوده على الساحة الأدبية، ومجموعة كتاب القصة ومنهم الروائي الراحل” هاني الراهب”. أما أنا فقد عرفت طريقي إلى القصة القصيرة بمزيد من الحرية وإن توقفت عن الكتابة بعد ذلك سنوات طويلة لأسباب تتعلّق بظروف حياتي وارتباطاتي الحزبية.

 تلك القصة برهنت لي أنه من الممكن والمفيد استخدام العناصر المتوفرة في الزمان والمكان المعينين لخلق قصة، فالعناصر المتاحة تعطي القصة صدقيتها، غير أن استخدام العناصر وحده لا يصنع قصة جيدة، فالقصة تتطلب الكشف المنير لحالة نموذجية، تتطلب الكمال والشفافية وبلوغ الروح. فلو أن كاتبا استخدم عناصر الواقع، لكنه بقي في حدود العادي والغث بمعزل عن جوهرة الروح الثمينة، لما وُضعت كتابته في مصاف القصص الخلاّقة.

                          *******************

 * من كتاب ” فن القصة وجهة نظر وتجربة “الصادر في عمان العام 2010 .

 **هذه القصة وكل ما نشر في سوريا احترقت مع أعداد من جريدتي الحزبين الشيوعيين الأردني والسوري، في محاولة الأهل إبعاد ما يمكن حدوثه، أثناء مداهمة المنزل للاعتقال الذي تمّ بالفعل.  أعيدت كتابتها ونشرها بعنوان ” الغائب”،  ضمن المجموعة القصصية الثانية “صباح الخير أيتها الجارة” العام 1991 .

                              “الغائب”

   لم يكن عريف الصف محظوظاً في يوم مناوبته، لم يشعر بأدنى زهو، ولم يمنحه الطلاب فرصة لذلك، فحين وقف في مقدّمة الصف أدرك عدم جدوى وِقفته، وأسِف لمصادفة مناوبته في هذا اليوم. جلس الطلاب في أماكنهم صامتين، انشغل بعضُهم في أشكال هندسية وتلهّى بعضٌ بكتبهم، فيما جنح خيال آخرين نحو عالم مجهول وقاس، لم يتوهّموا يوماً الاقتراب منه. اتّكأ على المنضدة المخصصة للمدرّس، ثمّ نكس رأسه وغاب في تأمّل هادئ.

   كانت تلك الحصة الصباحية الأولى، وأكثر الشغب يكون فيها؛ فلكلّ طالب حكاية جديدة يقصّها أو محاورة يجريها. إلاّ أن شيئاً من ذلك لم يحصل اليوم، انتابهم همٌّ واحد، فخلدوا الى السكون وتفكّروا فيه.

   لم يلحظ العريف  دخول المدرس إلاّ حين حفَّ به، فقد انسلّ خفيفاً إلى غرفة الدراسة واتجه صوب النافذة. لم يلتفت إلى العريف أو بقية التلاميذ ولم يُلقِ التحية كما يفعل دائماً. وقف قبالة النافذة الوحيدة المطلّة على الساحة الخارجية. اضطرب العريف لدخوله المفاجئ وانتصب واقفاً. وقف جميع الطلاب مثلما يفعل، وانتظروا الإذن بالجلوس.

   تساقط مطر غزير في الخارج، وكان هذا منذ أيام. غطّى زجاج النافذة غبش كثيف، أخفى رؤية الشجر المبلّل. دنا المدرّس من الزجاج أكثر، ورسم خطوطاً. نظر الطلاب بعضهم إلى بعض مستغربين ، متهيّبين. التفت العريف وراقب حركة المدرّس، شخص بقيّة الطلاب بأبصارهم نحوه أيضاً.

   ازداد الوضع حيرة ورهبة، جثم ثقل غريب على نفوسهم. أرخى المدرّس يده ووضعها في جيبه وقوّس ظهره. بدا مأخوذاً بفكرة ما.

 صدر صوت عن أحد الطلاب، فتنبّه العريف، وأشار إليه أن يهدأ وأن ينتظر قليلاً، فامتثل الطالب، وعضّ على شفتيه ندماً. شعر بأهمية دوره في هذه اللحظة الفريدة كثيرة الغرابة في عمر المدرسة، أشار إلى الطلاب أن يجلسوا بهدوء فأطاعوه.

   ابتعد المدرّس عن النافذة مقدار خطوتين. استدار نصف استدارة وواجه الطلاب. ثمّة أسى ملحوظ في عينيه. خطا نحو الباب ثمّ عاد إلى النافذة. انتقل العريف إلى مقعده وجلس. نظر الطلاب بعضهم إلى بعض ثمّ إلى العريف.

 أشار إليهم أن يهدؤوا، ثمّ وقف وقال:

ــ البقية في حياتك أستاذ.

 أعاد الجميع جملته، وانفرج همّهم قليلاً.

 ــ حياتكم الباقية. قال جملته دون أن يلتفت إليهم.

  ــ لقد خسرنا واحداً منّا، أليس كذلك؟

   لم يُجب أحد من الطلاب، لم يجد أيّ منهم الجواب المناسب. حدّقوا فيه واجمين. ابتعد عن النافذة وجلس على حافة المنضدة ولكنّه يمّم بصره نحوها.

  رفع أحد الطلاب إصبعه مستأذناً الحديث. نظر إليه البقية متسائلين، أبصره المدرّس فأذن له:

  ــ كان عزيزاً علينا جميعاً أستاذ.

  قال المدرّس وكأنما يتابع حواراً مع نفسه:

  ــ أستغرب كيف صمد كل هذا الوقت!

   سعل أحد الطلاب، فشمله غضب الجميع. رفع طالب في مؤخرة الصف إصبعه إلا أن المدرّس لم  يلْحظه. قال طالب في الصفوف الأولى :

 ــ مات بطلاً.

  نهض المدرّس وخطا نحو النافذة. اتصل بما قال الطالب:

 ــ الموت لا يعني شيئاً بحدّ ذاته. مصيرنا جميعاً الموت. ولكن احتمال العذاب هو الأهم. كيف يحتمل الجسد الإنساني كلّ هذا العذاب ، فلا يسقط ويخرّ راكعاً طالباً الرأفة؟

 قال طالب:

ــ ربما بسبب إيمانه أستاذ.

ــ إن الذي يسقط ليس رجلاً.

      ــ أستاذنا كان رجلاً.

  ــ لم يكن لديه خيار آخر.

  ــ أيجب أن يكون خيارنا الموت؟

  لم يعلّق أحد. تغلغل السؤال في أذهان الجميع.

  ــ ألم يتألم كثيراً؟

  ــ أعتقد أنّه توجّع.

  ــ هل صرخ من الألم؟

 ــ أستاذنا لا يصرخ.

  ــ لماذا ؟

ــ حتى لا يسرّهم بصراخه.

  ـ لأنه يقبل بمصيره أستاذ.

 ــ وهل يُعقل ذلك ؟ وهل للبشر مثل هذه المقدرة على الاحتمال؟

  ــ جميع الرسل كانوا هكذا أستاذ.

  ــ هذا ما كان يميّزه عنّا. هذا ما جعلنا نشعر بهيبته وسطوة قوله.

  ــ هل كنتم تحاورونه أستاذ؟

  ــ كنّا جميعاً نفعل. نصمت أمامه ونخشى في دخيلتنا أن نقبل بما يقول.

 ــ هل كان يدعو إلى الثورة أستاذ؟

 ــ لم يفعل ذلك قط. كان يكشف لنا حقائق لم نكن نعرفها. أدركت الآن سرّ ما كان يفعل ويقول.

 ــ هل كنتما صديقين أستاذ؟

  ــ نعم.

ــ وتلتقيان كثيراً؟

 ــ في المدرسة فقط. كنت لسبب ما أخشاه. أخشى أن أصبح مثله.

 ــ لا . كان إنساناً بسيطاً وعذباً إلى أبعد حد.

  ــ كان يعاملنا بطيبة.

  ــ كان يشعرنا أننا رجال.

  ــ أعطانا الثقة بأنفسنا.

 ــ ألم يحدّثكم في السياسة؟

   لم يجب أحد. نظر بعضهم إلى بعض. وقف طالب وقال:

ــ كان يشرح لنا أحياناً أشياء لم نفهمها.

ــ وهل فهمها من عذّبه؟

ــ أظنُّ أنه لا يفهم شيئاً. إنه آلة صمّاء.

ــ إنه إنسان مريض.

ــ ولهذا يستعذب القسوة.

ــ ألا يشعر بالإثم وهو يطفئ لفافة في جسد إنسان ! ألا يشعر بحقارة ما يفعل؟

ــ يكون ضميره مُفسداً، أستاذ.

 ــ الإنسان بلا ضمير أبشع من حيوان مفترس.

  عاد المدرّس إلى المنضدة، أمسك بكتاب الدرس. فتحه، قلّب صفحاته ثمّ أغلقه.

    سأله طالب:

ــ هل تظن أنه كان يحبّنا أستاذ؟ هل شكا من شقاواتنا؟

    قال طالب:

ــ  من أجل مَن مات إذن؟

    قال المدرّس:

 ــ من أجلنا جميعا.

    قال طالب :

 ــ أبي يقول : يولد بعض الناس ومعهم رسالة.

ــ الإنسان يسعد بسعادة الآخرين.

ــ إن من يقبل الظلم والجوع لغيره، يقبله لنفسه.

ــ السكوت عن الظلم جريمة.

     اتجه المدرّس نحو لوح الكتابة، أمسك الطبشور ورسم خطّين طوليين وعارضهما بخطوط قصيرة.

 ــ ماذا تكون النتيجة؟

     وقف طالب  واقترب منه:

ــ أتسمح أستاذ.

     أخلى له المكان. أمسك الطالب الطبشور وأضاف ثلاثة خطوط طوليّة، وأطال الخطوط المتعارضة ثمّ عاد إلى مكانه. قرع الجرس مؤذناً بانتهاء الحصة. لم ينهض أيّ طالب ولم يغادر المدرّس. دخل مدرّس آخر، راعه وجوم الصف. فوجئ بزميله والطلاب الذين  لم ينهضوا. اعتذر لزميله وأشار إلى ساعته. انتبه وحمل كتابه وخرج. نظر المدرّس الجديد إلى لوح الكتابة، أمسك بالممسّحة ومحا الرسم.

* عدي مدانات 1938-2016

شاهد أيضاً

لا شيءَ يُشبه فكرَتَه

 (ثقافات)  نصّان  مرزوق الحلبي   1. لا شيءَ يُشبه فكرَتَه   لا شيءَ يُشبه فكرتَه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *