أدب الرّحلة يستمرُّ مُتجدِّدًا: “الدّرر البهيّة” للباجوريّ نموذجًا
فيصل درّاج
ظفر الباحث الأردنيُّ الأستاذ عامر سلمان أبو محارب بجائزة “ابن بطوطة فرع تحقيق المخطوطات 2022 ـ 2023″،
عن تحقيق وتقديم: “الدّرر البهيّة في الرحلة الأوروبيّة، 1889م”، والصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر،
بيروت، ط1، 2023، لمؤلفها المصريّ: محمود أفندي عمر الباجوريّ. بذل السيّد المحقّق جُهدًا مزدوجًا:
لغويًّا في وجهه الأوّل، صحّح ما اعوّج، ودقّق ما بدا مُلْتبسًا، ومعرفيًّا، أدرج الرحلة في سياقها التاريخيّ،
وأضاء ما تجبُ إضاءته أيضًا في تقديم مُقتصدٍ عامِرٍ بالإشارات اللازمة، أفصح، في الحالين،
عن إسهام مُجتهد جدير بالجائزة التي حَظِي بها، وأكثر.
تتكشّف أهميّة الرحلة المشار إليها في أبعادٍ مُتعددة، فهي استكمالٌ لنسق كتابيّ عربيّ معروف تداولته
أجيال متتابعة، وتعريف برحّالة مُتميّز يضاف اسمُهُ إلى آخرين حَفِظت رحالاتهم أسماءهم، حال: ابن بطوطة،
ابن خلدون، وابن فَضْلان، وصولًا إلى أسماء أكثر حَدَاثةً، مثل المصريّ رفاعة الطهطاويّ، صاحب المؤلف
اللامع (تخليص الإبريز في تلخيص باريز، 1931)، الذي سجّل فيه التنويريُّ المصريُّ مشاهدته في باريز ـ مدينة الأنوارـ حين أوفده إليها محمد علي باشا مُشرفًا على “بعثة علميّة” في عشرينيات ما قبل القرن الماضي.
تصدر أهمية رحلة “الباجوريّ”، كما تلك التي أنجزها الطهطاويّ، من الموضوع التي نهضت عليه، المتمثّل “بعلاقة الأنا بالآخر”، بلغة مُتأخّرة، إذ في الرحلة تعلمٌ وإيقاظٌ للفضول، بقدر ما أنّ فيها مقارنة بين حضارتين تبعث على اليقظة، إن توفرّت الشروط الدائمة، أو تثير في “الروح المسافرة” كآبةً وعجزًا دائم التّجدد.
انتبه محقّق الرحلة، الأستاذ عامر، إلى فضائل المقارنة من السطور الأولى في تقديمه؛ لذا اختار من الرحلة سطورًا دالة سبقت الاستهلال، كأن نقرأ: “من ضاع له ولد يذهب إلى ذلك المكان؛ ليبحث عنه هناك، كما أن من وجد إنسانًا ضائعًا يأتي به إلى المحل المذكور” (نص الرحلة، ص: 98). ومع أنّ القول يشير إلى وقائع فعلية تدلّل على “التنظيم الاجتماعيّ”، فإنّ فيه، مجازيًا، ما يشير إلى الاقتراح والهدف المرتبط به. فلكلِّ ضائعٍ طريقٌ يستردّ به. لذلك يؤكد، لاحقًا، ويذكر مباشرة: “إن رحلات العرب إلى الغرب من أهمّ الوسائل التي عرفتهم بمظاهر الحضارة الأوروبية في القرن التاسع عشر”، أي أنها عرّفتهم، بشكل آخر، على تخلّفهم الذاتي. يتكشّف هذا، واضحًا، في مرآة نقيضه، انطلاقًا من القاعدة القائلة: على الذي لا يعلم أن يتعلّم من آخر تجاوزه معرفة.
وَصَل الأستاذ عامر في تقديمه إلى النتيجة المنطقيّة المنتظرة: “الرحلةُ علم نهضويٌّ في صورةٍ من صورها المتعددة”، فهي تبرز “ما وصلت إليه الحضارة الغربيّة من تقدم في العمران والتجارة ورسائل الرّفاهية….”، والنتيجةُ صحيحةٌ تلازمها أسئلة صعبة: هل يستطيع من فاته التعليم أن يُحسِن التعامل مع الجديد الذي تعلّمه؟ وما الذي أفاده العرب من رحلاتهم “المستمرّة” إلى الغرب؟ أعطى محقِّق الرحلة إشاراتٍ، ولم يذهب في أسئلته إلى آخرها، وهو أمرٌ يفيض على العمل الذي قام به. اكتفى بالضروري، بذلك الذي تطلّعت إليه “النهضة العربيّة” ولم تقدر على تحقيقه، وتَرَك أسئلة كثيرة معلّقة في الفضاء، كما لو كان يوحي ويبتعد عن “التلقين” والإجابات الجاهزة الكاملة. ولهذا استشهد بما كتبه مؤلّف الكتاب محمود الباجوريّ عن “حياة المرأة في أوروبا”، فهي تبلغ من العلم ما بلغه الرجال، وتقاسمهم المعارف في مجالاتها المختلفة.
ترجمت رحلة الباجوريّ مقولاتِ غيرها من الرحلاتِ العربيّة إلى الغرب، المنطويةِ على فتنة المُنتصِر، إن صحّ القول، وتناقضات المفتون الذي تضيق لُغته بالتعبير عمّا فَتَنه، ويركن إلى “اللغة البَصَريّة” قبل غيرها. فلغة المنتصر الأوروبيّ تَشْتَقُّ مفرداتها من مواضيع صَنَعها الأوروبيُّ، ولم يستعرها من غيره، على خلاف الرحّالة العربيّ، فهو يرى المواضيع ولا يفسّر الأسباب الداعية إليها.
قرأت الرحلةُ، كما ألمح أبو محارب، صورَ العلاقة بين الأنا والآخر، وقارنت بوضوح قول “التابع” بـ”الآخر المُنتصِر”، كأنْ نقرأ: “لما كانت أهالي أوروبا مولعين باستكشاف أحوال البلاد الشرقيّة، ومعرفة عوائد ومعلومات أهلها، ليستفيدوا بها علمًا إلى علمهم…” (ص: 58). والكلام فادح النَّقْص، ذلك أنّ أهل أوروبا وحّدوا بين المعرفة والسلطة، بين المعرفة النظريّة والسياسة العمليّة، كما أظهر إدوارد سعيد؛ إذ أسهم العلم الغربيُّ في توليد الاستعمار وتطوير أدواته. أحال أبو محارب، ضمنًا، إلى كتاب سعيد: “الاستشراق” مستعملًا كلمة: “التابع” التي تحيل على التبعيّة، وهي أساس الاستعمار، “فعلم الشرق” في المنظور الغربيّ مهنةٌ وسياسةٌ وإعادةُ ترتيبٍ لعلاقات الآخر.
السؤال المحتجب في كلام الرحّالة المصريّ هو التالي: إذا كان أهل الشرق مفتونين “بصنائع الغرب”، فما هي أهدافهم من التعرّف عليها، وهل يمتلكون أدوات الإفادة منها؟ الإجابة واضحة وغائبة معًا، ذلك أنّ معلومات “الرحالة” تقصّر عن التعامل الصحيح مع معلومات غيره. يظهر ذلك في المعارف التي تلقّاها أفندي عمر الباجوريّ، حين عرّف بذاته. فقد بدأ بما تعلّمه في الجامع الأزهر من نصوص دينيّة، وعرّج على “علوم البلاغة”، وذَكَر الكتب التي درسّها لغيره، وهي مزيج من الدين واللغة، وأدرج بندًا غامض القَصْد عنوانه: “شرح أنّ لله خواص في الأزمنة والأمكنة والأشخاص”، الذي يقود، في التحديد الأخير، إلى “القَدَرية”، وإيمان الإنسان بما أغدق الله من مَلَكاتٍ وإمكانيّاتٍ. لا تصدر صفة “التابع” بلغة أبو محارب عن تباين المعارف والقِوى، بل من جوهر الإنسان كما أراده الله أن يكون.
تمثّل الرحلةُ مرآةً مزدوجةً تعكس واقعين حضاريين متفاوتين، وتكشف عن فكرين متباينين ولغتين مختلفتين في الإمكانية، ذلك أنّ اللغة من الفكر، وأنّ فكرًا متقدمًا تعجز عن الإلمام به “لغة تابعة”… ولهذا تأخذ كلمة “الوابور” عند الباجوريّ معنيين لموضوعين غير متساويين، وتظلُّ في الحالين عاجزة: فهي الوابور بالحالة الأولى، وتعني القطار، وفي الحالة الثانية هي الباخرة، والأول والثاني معًا اختراع سبق إليه الغربيُّ مجتمعَ “الرحّالة”. وهنالك “البدروم”، وتعني السيرك، وهي اشتقاق “ريفيٌّ” تائه، وتمرُّ كلمة غريبة هي “بوغاز”، وتعني المضيق، وكلمات تُرِكت على حالها الأجنبيّ مثل: الجاليريه، مينيوس، إلسانسير (المصعد)…، بيد أنّ ما يجدر التنبيه إليه هو الجهدُ المعرفيُّ الدقيق، بل الواسع التدقيق، الذي بذله “الباجوريُّ” في نصه، سواء مسّ التاريخ، أو الجغرافيا، أو الحياة الاجتماعية، مع غياب للاجتهاد اللغويّ غيابًا كاملًا، تقريبًا، معترفًا بأنّ “مؤونته اللغويّة” أضيقُ من أن تتسع “للأعاجيب الأوروبيّة”، أو لتلك “الدرر البهيّة”، كما لو كان افتتانه بكلّ ما هو أوروبيّ يَصُدُّه عن “تعريبه”. ولهذا قَبِل بكلِّ ما أتت به الحضارة الأوروبية، باستثناء “تململه” من هشاشة الحياة الزوجيّة، وانتشار الخِداع المتبادل بين الأزواج والزوجات… يتراءى في أُفُق القراءة سؤالٌ مؤرِّقٌ: إذا كانت اللغة حامل القوميّة، فما هي الهُويّة القوميّة/ المعرفيّة التي عاين بها الباجوريُّ الحضارة الأوروبيّة؟ لا مجال للحديث عن “التثاقف”، الذي هو حوارٌ بين ثقافتين حاضرتين تتبادلان الاعتراف، إنّما الحديث، على الرغم من ميول الرحلة النهضويّة، أقرب إلى “التبعية الثقافيّة”، التي أملت على صاحب الرحلة الركونَ إلى صيغة التفضيل: “أفعل”، إذ الصنائع الأوروبيّة هي “الأبدع”، والربوع الأوروبيّة هي “الأجمل”، وشوارع المدن هي “الأنظف”. ولهذا كان الباحث عامر سلمان أبو محارب مصيبًا وهو يستدعي، بشكل موجز، صفة “التابع”، مستبعدًا الفعل ينهض، الذي أخذت به الراحلة الكريمة رضوى عاشور حين قالت متفائلة: “التابع ينهض”.
من المحقق أنّ “الدرر البهيّة في الرحلة الأوروبيّة” لم تكن ممكنة القراءة من دون جهد المحقّق، على المستويين اللغويّ والمعرفيّ، الذي وضع الرحلة في سياقها التاريخيّ، وتقصّي آثار مؤلفها ومعارفه وثقافته، وكتبه، وأنجز قراءة نصيّة موضوعيّة بعيدةً عن الهوى والاستسهال، نفذت إلى قَرار النّصّ ومكوّناته، وقبضت على القول الأيديولوجيّ الصادر عنه.
اتكاءً على القراءة النافذة، استنطقَ الأستاذُ عامر خطاب الرحلة الذي ينوس بين الكتابة الرّحلية/ التسجيلية والكتابة الإبداعية، وانتهى إلى رحلة/ مرجع تتبوّأ بين “الرحلات النهضويّة” مكانًا جديرًا بها على مستوى الكتابة والبناء، وتتكشّف رحلة/ مرآة تعكس تصورات الرحالة المشرقيّ المفتون بالغرب، والمأخوذ بمنجزاته من دون مساءلة.
تعامل الأستاذ عامر مع رحلة الباجوري “كنصّ توثيقيّ تسجيليّ”، معتمدًا على توثيق دقيق متعدد الوجوه يضيء الرحلة في مستوياتها البنائيّة المتعددة، ويكشف عن تناقضات “رحّالة نهضويّ” انبهر بلا أسئلة، فترجمت تناقضاته مآل نهضة عربيّة هزمت من بداياتها، فقد شكّل الغرب علاقة داخليّة في الوعي النهضويّ المشرقيّ أرسى فيه إعاقة فكريّة لا يسيطر عليها، انبهرت بالمنجز الغربيّ، ولم تسائل شروطه الاجتماعيّة والسياسيّة. كأنْ يرددَ ذلك الوعيُ المعوّقُ شعار المساواة، من دون أن يدرك أن المساواة ديمقراطيّة، وأن الديمقراطيّة ثورة اجتماعيّة، وأنّ المساواة والديمقراطيّة يستندان إلى “مجتمع المواطنة”، حيث المواطن يعرف حقوقه وواجباته، يمارسُ حقوقه في الرفض والاقتراح والتغيير، ويقومُ بواجباته إزاء مرجع سلطويٍّ أعلى يمارس بدوره واجباته كمصدر للعدالة.
والأرجح، بل الأكيد ربما، أنّ الوعي النهضويّ العربيّ المعوّق حلم طويلًا، وتوّهَم حالمًا، استقر في عجز متوالد مفرّجًا كربه بقول مريح: “كل ميسّر لما خلق له”، هذا القول الكريم الذي له سياقاتٌ مختلفة.
“الدّرر البهيّة في الرحلة الأوروبيّة” كتاب يُعلِّم ويُسائِل، يصف صادقًا، ويبالغ في الوصف “مرتاح الضمير”، ليشكل، في الحالات جميعًا، وثيقة أدبيّة تاريخيّة، أعطاها عامر سلمان أبو محارب ما تستحق من “العناية والتحقيق والدراسة والمساءلة المنهجيّة”، وأعطى، وهو يُحقّق ويُقدّم، درسًا في “النزاهة الفكريّة والمسؤولية العلميّة”.
-
عنوان الكتاب: الدّرر البهيّة في الرحلة الأوروبيّة 1889
-
المؤلف: محمود أفندي عمر الباجوريّ