لوحة جريحة

 (ثقافات)

لوحة جريحة

قصة قصيرة

بقلم. محمد فتحي المقداد

ثمانِ طَعناتٍ بِعَدد سِنِي زواجهما، بسكِّين كبيرة، اِمْتَشقها “فوزات” من المطبخ؛ سدَّدها بإحكامٍ لوجهها، ورأسها وصدرها المكشوف في اللَّوحة، التي رسمها أثناء فترة الخُطوبة، التي وما زالت تحتلُّ صدارة الصَّالة في بيتهم الكبير.

لم يتوانَ “فوزات” برفع وتيرة صوته الغاضبة، عندما تهوي يده لتسديد ضربةٍ جديدةٍ، يعتدلُ ظهره، ويأخذُ نفَسًا هائجًا عميقًا. جسمه يهتزّ بحركة ثمَّ يُخرجه من أعماقه لينفثه بقوَّة للأعلى، وكأنّ صرخته غطَّت على التصفيق، وكلمات الترحيب بنقيب الفنّانين راعي الحفل في اليوم السَّابق، أثناء افتتاح المعرض الأوّل لصديقه الأثير الفنانّ “سعيد“:

“إنّه هو.. لا أحد.. لماذا تخونيني مع هذا السّاقط يا ساقطة..؟”.

وبعد أن قصّ  راعي الحفل الشريط الحريريّ وسط وميض فلاشات كاميرات الصحافيّين والمُهتمّين. خُطواته القليلة توقّفت به أمام لوحة بورتريه لوجه امرأة حسناء. وقوفُه طالَ أمام بريق عينيْها، ومنزلق صدرها العريض النّافر، المُغطى بجزء منه بخصلات شعرها الأشقر الفاتح المُسترسل على سجيّته.

لم ينطق بكلمة ردًّا على كلام وشَرْح الرّسام “سعيد” بتفاصيل التفاصيل، ولم يلتفت له، أو أبدى أدنى اهتمام:

-“أتعبني البحث عن طبيعة الوجه المُعبّر عن فكرة تدور بذهني منذ زمان، حتّى كاد اليأس يتسلّل إلى نفسي، وأُعلِن عجزي، وأنطوي على حُزني الحارق، لولا اللّحظة الأخيرة التي أنقذت الموقف. الصّدفة وحدها أنقذتني”.

وراعي الحفل لم يرفّ له جفن، وما تحوّلت عيناه لأيّة نقطة. أحاديث ممّن يتحلّقون حوله، وهمساتهم اللّطيفة لم تستطع شدّ انتباهه، وتحويل عينيه المغروستين في اللّوحة.

فوزات” تبرَّم ضيقًا لجموده وصمته المُطبق، وهو يتشارك النظر لِلّوحة مع المجموعة الأكثر عددًا المُتحلّقة من خلف راعي الحفل.

بينما يُتابع كلام “سعيد“، وشرحه لبعص تفصيلات اشتغاله على اللّوحة:

-“وقَع اِختياري على خلفيّة فاتحة، واِستخدمتُ الألوان الباردة، بطبعي لا أميلُ لاستخدام الألوان الحارّة، وتعبتُ مع مصدر الإضاءة لإبراز معالم الوجه بدقّة، وجاء المسقط العام بدقائق تقسيماته مع كلّ لمسة، لإخراج الشّكل الأخير”.

امتلأ صدر “فوزات” ضيقًا وحنقًا على راعي الحفل، لَازَمته الحالة حتّى المساء امتدادًا إلى موعد نومه بعد منتصف اللّيل. عند عودته إلى البيت في الثالثة بعد الظّهر، وما زاد الطّين بلّة وُقوفه صامتًا أمام لوحته التي رسمها قبل زواجه، لم يأبه لترحيب زوجته بنبرات غانجة مع عبق روائح طعام الغداء الشهيَّة:

-” حبيبي فوزاتي.. سامحني. لم أفتح لكَ الباب.. اِنْشغالي ببعض الترتيبات للغداء.. كما تعرف..!”.

يومٌ مختلفٌ تمامًا عن روتين “فوزات” الهادئ بطبيعة تكوينه المختلفة عن مُحيطه الاجتماعيّ كفنّانٍ تشكيليٍّ حالم رومانسيّ. غارق أثناء يقظته بتأمّلاته العميقة.

 قبل نومه بعد الواحدة ليلًا، كتب على ورقة بيضاء خالية من الأسطر والهامش عبارة:

-“مَنْ الذي فضَّ العباءة السَّوداء؛ ليستفيقَ الخنجر المسموم النّائم تحتها؟”.

سلطانُ النّوم استولى عليه ليُصدر أوامره باسترخاء كافّة أعضائه، ويده مازالت قابضة على الورقة تعتصرها بعصبيّة واضحة.

رأرأة عينيْه بحركات مفاجئة على غير اعتياد  بعد إطفاء الإنارة،  وَقْعُ صوتٍ أجشٍّ اِقتحم سريره بفظاظة، كأنّه مطرقة عظيمة تطرقُ الجدار بجانب رأسه، اهتزّ جسمه بعنفٍ انتفاضًا، بينما زوجته راقدة بسلام إلى جواره؛ تغطُّ بنوم عميق.

اِعْتدل جالسًا بعد أن دعَك عينيْة، اِسْتعاد شيئًا من وَعْيه، لاحظ أنَّ خُيوط الشّمس مع بدايات شُروقها تسلَّلت عبر النّافذة؛ لتضيء وجه زوجته، بخُطوات بطيئة مُتثاقلة حاذرة أحبّ الاِطْمئنان على اللّوحة في الصّالة. تأكّد أنّها على حالها تزُيّن حياتهما بذكراها التي تقترب من التّاسعة.

أصابع يده مُتشجنّة من إطباقها على شيء ما. فَطِن لذلك عندما حاول لمس اللّوحة ليتوثّق منها، تذكّر الورقة ذات العبارة. أعاد قراءتها، وأشعل بها النّار من عود ثقاب. ولما طال نوم زوجته، أحسّ بتوقّف أنفاسها، وأضاف في اليوم شريطًا أسودًا مُبلّلًا بدموعه على طرف اللّوحة الأيسر ثبّته بشكلٍ مائلٍ.

الأردن. إربد

22/ 6/ 2023

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *