تجاذبات الموقف والفن في رواية المهطوان لرمضان الرواشدة

(ثقافات)
تجاذبات الموقف والفن في رواية المهطوان لرمضان الرواشدة

د. محمد حسين السماعنة. الأردن


أما قبل
أيْا عودة، مهطوانَ حيفا، كنت تحب أن تحيا بحريةٍ، ولكنهم لم يفهموك، وتغيرت الحياة وتغير كلُّ شيء من حولك ومن حولنا. وها أنت تعود الآن إلى راكين قريتِك الكركيةِ محمولا على أكتاف بعض رفاقك وأصدقائك، ولكن وسط وجوم الأهل أجمعين. فهل كنت أنت المحمول على الأكتاف أم كان عمرَك الشقيَّ، أم هي جهودَك في التغيير والتنوير؛ ليحرصُ الكاتب على أن يمر نعشك من أمام وجوههم ووجومهم، وليقول لنا إنك لم تنجح، إن جهود عودة الحزبية لم تنجح في تغيير أي شيء، أو تغيير أحد حتى أقرب الناس إليه.
وعدت على محمولا على الأكتاف جسدا بلا روح، أفكارا خائبة مخذولة إلى قرية لم يتغير فيها شيء منذ غادرتها إلى الجامعة الأردنية. عدت جسدا منهكا بلا روح تاركا خلفك حزبك الذي عانيت من أجله يعيش حالا غريبة من النكوص هناك في عمَّان، فكأنك عدت ذلك الطالب الذي قال: “وأنا شو دخلني” لكن البحرَ الهائجَ أمنيتُك، وأنت ترفض أن تجثوَ في محراب الصمت؛ فالأرض عشقك.
أيْا مهطوان حيفا، الشارع طويل، وما زلت تمشي، قلت لها: من هو مثلي لا يعرف التعب. وأنت مشيت كثيرا كثيرا، لأن الشارع لنا وحدنا ” ووحدن بيبقوا مثل زهر البيلسان”
أيْا مهطوان حيفا، أعرف أنك لا تحب التوصيف والتأطير والقولبة، ولا تحب لقب شاعر، لكنّ الطريق إلى الجفر صعب وطويل، وعينا أبيك مليئتان بالحب والخوف والشوق، وقد انهمرت منهما دموع كثيرة، والدمعة صنو القصيدة في رئة الشعراء.
أيْا مهطوان حيفا، أبوك عصى الأوامر، قال حينها: “عيونه تشبه عيون ابني، ماذا لو كان ابني مكانَه؟ صاح الفتى يا الله، فوقف أبوك عند حافة السؤال في غرفة التحقيق، وصم أذنيه عن صراخ الضابط الذي طلب منه أن يتابع الضرب. رفض وصم أذنيه وأعلن انسلاخه عن عصا الجلاد وأصابعها الظالمة.
أيْا عودة المهطوان أما زلت تنثر الأسئلة على نفسك الأمَارة بالرفض عن نوعية هؤلاء الخونة الذين كان يحاربهم والدك قبل أن يعصي الأوامر، أما زلت تتساءل عن سبب إصرار الضابط على وصف هؤلاء بالخونة، قلت في سرك: “أيخنون الوطن وهم أبناء عشائر؟”.
أما زلت تتساءل عن الجفر؟ وعما فعلته العشيرة، وقريتك كلها لأبيك. وماذا يفعل طفل مثلك حين يدوس الجنود قصصه التي اشتراها من مكتبة مجاورة؟
أما زلت تبحث عن جواب لسؤالك: “ما دام أبي يكره إسرائيل، والجنود الذين أخذوه يكرهونها فلم أخذوه حين أعلن كرهه لها؟
أتذكُر حين سألت أمَّك عن أجدادك ما كانوا يفعلون في بلدتكم؟  وهل كانوا إقطاعيين؟ فقالت لك بأنهم كانوا فقراء مساكين لله. ويبدو أن ذلك الجواب لم يشبع ولعك بتقسيم الناس إلى طبقات، فالقواعد واضحة؛ من يملك الأرض إقطاعي، فكيف كانوا فقراء ومساكين لله؟
وهل ما زلت تسألهم إن كنت قد أزعجتهم، أو أقلقت راحتهم؟ أم دفعك الفقر والدَيْن والعذاب والفقد إلى الاستسلام والتراجع: “أتحبون أن أترك لكم المكان؟” لا أظن ذلك فأنت ما زلت تسخر من تناقضهم، وتدعوهم إلى ترك البنادق، ونزع معاطفهم لاحتساء نخب واحد؟ فعشرون سنة من الأسئلة والتحقيق، و”تريدون منه أن يصبح رجلا عاديا؟” أتذكر تلك الليلةَ حين تساءلت: ماذا سيحدث لهم يا ترى إن انكشف أمري؟ نعم، لن تصبح رجلا عاديا، فكل تلك الأسئلة كانت علامات طريقك نحو الرفض والرغبة العميقة في تغيير الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي. كانت تلك الأقدام التي داست قصصك تضع علامات طريق معاند شقي محتج رافض.
أيْا عودة، أيا مهطوان حيفا أنت سرت في الدرب؛ وكنت في الجامعة حينما “ولعت في الجنوب”، وكنت في الجامعة بعيدا عن الجنوب حينما ارتفع الهتاف في الجامعة:” وحّد صفك، وحّد صفك بالعالي سمعني كفك”
وها قد انكشف أمرُك، يا بن الحزب، يا حزبي، وانفضح سرك، فقالوا فيك ما خفت أن يقولوه: ابن العشيرة صبأ، هم لم يفهموك مع أنك تحب راكين ووطنك، واستقبلوا نعشك بوجوم، وهم لم يحملوا نعشك، لم يحملك إلا بعض من رفاقك وأصدقائك، مع أنك تحب وطنك وراكين وعمان.
أتذكر أول مرة شاركت فيها في مظاهرة؟ كانت للتضامن مع لبنان وقت الاجتياح الإسرائيلي؟ يومها عدت للبيت بعين منتفخة. أتذكر ما قالته لك أمك؟: “ويلها التي سوف تتزوجك، لا بد أنها ستتعب” وكم تعبت سلمى الفلسطينية بك ومنك!
أيْا مهطوان حيفا، أما زلت تسمع صوت أمك وهي تقول لك: ” شو آخرتها هالقراية”، و”يا خوفي من آخرة هالقراية”؟ ألا تشتاق أن تنهرك تلك الحنونة؟
أيا عودة، مهطوان حيفا، أبا نضال، غيّبوك في غيابة السجن، سحبوك من حضن زوجتك سلمى الفلسطينية التي تسللت إلى قلبك حين ابتسمت لك ذلك اليوم في المحاضرة وبان غمازا وجنتيها، وقتها هزك شيء ما من الداخل، فهي قرأتْ لك حينها: “من المؤلم أن تعيش في مكان لا يناسبك، ومن المؤلم أكثر أنه لا يمكنك التغيير، وليس ثمة بدائلُ متاحةٌ إلا التأقلم والحلم والبوح بالكلمات. قبّلتها، فسجّلت تلك الشهوة التي قضيتها في لوحك المحفوظ بحروف بارزة من اللعنة                                                                                                                                                                                     لازمتك منذ ذلك الوقت. وكان ما كان، لكنك أيها الحزبي، لم تتحمل معها النتائج، فقد تركتها وحدها تربي وتبتسم لنضال وتضاحكه وتؤمله.
أيْا أبا نضال، أما زلت تتمنى لو أن أحدهم دلّك على نضال، أما زلت ترى أنك ضيّعت نضال، وأنَّ عجزك هو السبب، وأنك تصرفت بنذالة حين تخليت عنه. هل ما زلت تبحث عنه، عن روحك التي خبت، عن بقيَّةِ كبدِك الذي ضاع، عن شيء ما طاردته طويلا لكنك عدت إلى راكين بخفي حنين في كفن؟
وأنت تعود يا مهطوان إلى راكين، هل اقتنعت أخيرا بأن من يملك المال يملك الناس؟ هل اقتنعت بما كان يترنّم به صديقك عزام: ” أنا من ضيع بالأحزاب عمرا”
أما بعد، فقد قال عودة: وما دخلي أنا بالاحتلال ومعركة الكرامة وحرب حزيران، أريد أن أعيش كبقية الأطفال، ألعبَ “بطابة الشرايط”، وأمارسَ شقاوتي المعهودة. “وأقول: إن الشاب الطويل الضخم القادم من راكين الكرك إلى صويلح ليدرس في الجامعة الأردنية عاد محمولا على الأكتاف بعد أن تخلّى عن الحزب، وتخلى عن أشياء كثيرة بعد أن ضاق به المكان، وبات يكره كل من حوله، يكره حتى نفسه.
والشاب الطويل الذي ناداه أصحابه يا مهطوان حيفا، وأصبح المهطوان هو اسمه الحركي، قال له المحقق وهو يشبحه: “هاي رجل بني آدم يا مهطوان؟ وهو نفسه الطالب المدرسي الذي خاف من دخول الحزب، وأرجأه لما بعد تخرجه من الثانوية.
ليس صدفة إذاً، أن يكون ارتباطُك يا مهطوان حيفا بسلمى شبيها بارتباط الأردن بالضفة الغربية، وأن تكبر أنت، بل أن تموت وأنت لا تستطيع أن ترى ابنك نضال الذي تجاوز العشرين، ونحن هرمنا ولما نرَ النصر وعودة الأرض والإنسان إلى المكان المحتل، ولا نستطيع رؤية أرضِنا المحتلة منذ أن احتلها الأعداء.
أيا مهطوان أنت استسلمت لغياب سلمى الفلسطينية عنك، رأيتها تغيّب وتحجز هناك في فلسطين، كما غابت عن أعيننا فلسطين كلُّها، وأهلها وغيبوا عنا. ولم تسعى إلى فك حجزها.
كيف لا وأجداد سلمى من قرية الحدادة في الشوبك، وتمثال الأسدِ وأشبالِه الخمسة المغروسُ وسط رام الله هو تخليد لجد سلمى وأبنائه الخمسة. وكيف لا ولقب عودة المهطوان أو اسمه الحركي هو لرجل ضخم فارع الطول عاش حرا في حيفا.
أما بعد، فقد فتح معلم في قرية راكين آفاق عودة على الثقافة الوطنية، وحاول تنظيم هذا الطالبَ المدرسيَّ في الحزب، وقال حينها: عودة “طالب مبدئي”. فنعم الدور دور المعلم!
وفي الجامعة مد الطالب الحزبي غسان يده في جيب عودة، ودس شيئا، وقال له اقرأ، فأحب عودة هذه السرية، فالانبهار بالحزبية كما يظهر في المهطوان هو هالة من النشوة سببها الخفاء والسرية، المظهر لا المضمون،  وكان المنشور المروّس باسم” طريق الشعب” بدايةَ رحلته الطويلة المعذبة والحياة الضنكا، بدايةَ التحاقه بالحزب، ومفتاحَ الدخول إلى مرحلةٍ خطيرة مليئة بالأحداث من تاريخ الأردن رسم فيها الكاتب خط حياة شخصية الرواية الرئيس المهطوان الكركي المليئة بالاشتباكات مع جبهات كثيرة أساءت إليه، ولم تفهمه حيا ولا ميتا: جبهة السلطة، وجبهة العشيرة، وجبهة الحزب، وجبهة الذات. وفتح لنا منها الكاتب نافذة واسعة على تفصيلات سياسية: التحقيق، والمظاهرات، وأحداث الجنوب، وكلوب باشا في الجيش. واجتماعية” في سيقولون: “هو اختار أن يكون حزبيا ويسجن”، واجتماع العشيرة لجلسة التأييد، وكثرة الأولاد”. واقتصادية وهي واضحة في وصفها لحال القرية. وثقافية وهي في حديثه عن طاسة الرعبة، وعن الشيخ المغربي الذي عمره1400سنة…
وهي تفصيلات عن حياة الناس في الأردن في مرحلة الثمانينيات والتسعينيات. وأرفقها الكاتب بتصوير كثير من التغييرات والتطورات التي طرأت في مجالات الحياة كلها بعين واعية فاحصة منتقية. فقد أعطانا الكاتب ما يجعلنا كقراء فاعلين في تخيل بقية الزمان والمكان وطبيعة الحياة، فمنذ التهم الطالب عودة المهطوان الكتب في مدرسة راكين التهاما، ودخوله الجامعة، والتحاقه بالحزب، وتغييبه في الجب، وخروجه إلى حارات عمان الجديدة ببناياتها العالية حتى وصول جثمانه إلى راكين محمولا على أكتاف بعض رفاقه وأصدقائه حدثت تغييرات كثيرة في الأردن بعضها سطحي خارجي( كالبنايات، وعادات الناس الجديدة” كما في قوله: “كانت أمي معدّلة” ولا أحد عاد يتذكر، الناس الآن يعرفون الكنتاكي والبيتزا وتع …الزمن الأمريكي اللعين. ودوا أكل المطاعم …
ويجد القارئ في الرواية سيرة، وتأريخا لحال الأردنيين سلطة وشعبا، وتصويرا لما يمور في نفوس الأردنيين والأردن في تلك الفترة من حراك وفكر ومطالب وتناقضات ومواقف استخدم الكاتب لنقلها لنا أسلوبا سرديا اتخذ من الرواية الجديدة وعاء له، ببعثرة لطيفة للزمن فيها تقديم داعم وتأخير موضح، وتنويع ذكي مؤثر في تقنيات السرد استخدم فيه الكاتب:
الوصف، والحكي، والأغنية الشعبية، والأغنية الحديثة، والشعر، والرسائل، والحوار، والمنولوج، والتقديم والتأخير، والحذف والقطع الزماني، وتبديل الرواة، والتناص بأنواعه: تناص جملة، وتناص فكرة، وتناص صورة، فنحن نجد أغنيات شعبية، وشعرا معاصرا، ونصوصا من العهد الجديد، وهذا أغنى كله أغنى الرواية من غير أن يثقلها ويثقل عليها، وبخاصة التناص النصي، وتبديل ضمائر أفعال السرد بين ضمير المتكلم وضمير الغائب وضمير المتكلمة، واستخدام هذه التقنيات كلَّها بحنكة ولطف ومهارة حققت الهدف من استخدامها في تعميق الصورة، وإثراء الموقف، وجعله أكثر إيحاء، وإقناعا وتشويقا، وأبعدت بعض وهن القراءة عن روح القارئ، وحققت الإمتاع المطلوب، وأشركت القارئ في تشكيل أحداث بعض المواقف وبناء تبعات أحداثها.
وإن لي بعض وشوشات على النص منها: البساطة التي اشتبك فيها الكاتب مع الحزبية والتحزب، والتدخل الواضح للفكر على حساب الفن في التعامل مع قضية الحزب، وطول بعض القصائد في الرواية، فهذا الطول أضعف السرد، وشتت انتباهة القارئ، وبعض الهمس على عتبة النص التي أرى أن حركتها في الرواية قد خلت من صفاتها، ومن لغة الجسد، ومن الحياة الحقيقة وبخاصة أن عاش في حواري عمان حيث الشارع والبقال وبائع الكعك وبائع الصحف… وبعض الهمس على بعض الخطابية المستهلكة كما في قوله:” التي لا تعرف الأصول والمنابت، وبعض الهمس عن الشخصيات في الرواية التي كانت أفكارا، لا أجسادا تتحرك وأخبارا متنقلة أو مواقف تنتظر الإشهار أكثر منها شخصياتٍ تحمل صفات جسديةً إنسانية؛ فأحمد هو الصديق الذي يسكن عنده عودة وغسان هو الصديق الذي دس الرسالة في جيبه، ونضال هو ابنه الذي لم يره، وأبوه هو الدركي الذي قال لا، وأمه هي التي قالت له آخرتها هالقراية”. وهمسة عن المكان الذي حضر كفكرة وغابت، أو غيّبت وديانه وسهوله وأشجاره وروحه، فالجامعة هي الجامعة وحسب، وعمان هي عمان الحبيبة، وراكين هي راكين.
والمحاور في الرواية مختلفة الأطوال فنحن نجد في المحور1 ما يأتي دفقة وصفية لمن يسكن صويلح، ثم قصيدة، ثم وصفا فكريا موجها لغرفته المستأجرة، هناك التقينا والشفاه صوامت دفقة للحديث عن لقائه بسلمى وعشقه لها، ثم دفقة سردية عن أغنية أحمد المجالي في لقاءاتهم الشتوية، ثم دفقة عن لقبه المهطوان، ثم دفقة عن محاولة عادل البريشي تنظيمه في الحزب. ونجد في صفحة (137) سطرا واحدا، وفي صفحة(16) فقرة كاملة. ومع أن هذا كله هذا أثرى الرواية وأعلى من شأن القارئ، وأشركه في البناء والنسج والتخيل إلا أنه لم يستغل استغلالا شاملا وإنما كان استغلالا سطحيا خارجيا لم يتعمق فيه في الإنسان وعلاقته مع الإنسان والمكان. بل إن القارئ ليشعر بجفاف عاطفي غريب يلف الرواية في حركة الشخصيات.
وأما صورة الحزب والحزبية في الرواية فتلك قصة أخرى، فقد عاش فيها المهطوان الحياة الحزبية بإخلاص ومثالية عالية، فنظم وحشد وهاجم وتظاهر، واعتقل وضرب وعذب، لكن الأيام أبدت له مساوئ الحزب، فقد تكشف له أن العمل مع الحزب كان عبثيا، وأن العلنية عرّت عورات التحزب وعلاته ، وأنها كانت صدمة مفاجئة أربكت المنظرين، فصور الكاتب كثرة أخطاء الحزب وتجاوزاته بحق عودة منها أنهم اتهموه بشطحات المثقفين، والثقافة والكتابة كانتا تهمة في الحزب، فانسحب عودة، وهو يرى أن لا نتائج واضحة لجهوده، وأن السرية كانت زادَ كثير من أعضائه وغطاءَهم الحاجب الحافظ، وإن هو لم يغنِّ مع المغني “أنا من ضيع بالأحزاب عمرا “. ولم نجد في الرواية شخصية تمنع تسلل أفكار التخلي عن الحزب تستحوذ على فكر عودة، ولم نجد شخصية تعيق هذا الانسحاب، وكأن الكاتب صاغ موقف عودة مع الحزب وتخليه عنه بيان سياسي واضح خال من العمق الفني والتقني.
أعطت رواية المهطوان ومضات عن أحداث الكرك وصورت بعض حال الأردن والأردنيين في فترة ممتدة من عمر الدولة: فهم في قرى فقيرة، تعوزها الخدمات، وتسيطر عليها الخرافات والخزعبلات، وهم في مدن بائسة، وسلطة عسكرية قاسية متناقضة( يكرهون اليهود والاحتلال ولكنهم يعتقلون من يحارب اليهود، ويغنون لمحاربة الأعداء وهم عقدوا معاهدات السلام معهم).
وعنيت الرواية بإظهار التغيير الذي حدث للأردن في الفكر والموقف السياسي والحال الاجتماعية، فأكثر ما يظهر في الرواية هو التغير من حال إلى حال؛ فقد تغير عودة من لاعب كرة قدم إلى قارئ نهم، ثم إلى حزبي ملتزم مثالي، ثم إلى سجين معارض ناقد، ثم إلى رجل منتقد مخالف لتعاليم الحزب، ثم إعلانه الانسحاب من الحزب وإعلان عدم انسجامه معهم، بعد أن أكثر الحزب من لومه وانتقاده لسلوكه وتصرفاته ومواقفه، وثم مرضه، ثم موته. ومن التغير في الرواية أيضا الذي حمّله الكاتب أبعادا سياسية وانتقادا جافا قاسيا لفكر الحزبي وانتمائه تغير نظرة عودة للحياة، حتى إن سلمى قد شغلته عن فكرة الثورة البرجوازية، وشغلته عن فيتنام ونمط الإنتاج الأسيوي، حتى إنه، وهو الحزبي المثالي الملتزم، صار يسمع أغاني هاني شاكر وجورج وسوف. وقد لمح الرفاق ذلك كله مع الوهج الجديد في عينيه.
وفي انتقاد جاف قاس آخر للحزبي صور الكاتب ازدياد غربة عودة وعمق اغترابه بعد وأكد خذلانه لزوجته سلمى، وشوقه المتأخر لها، وندمه المقيت لموقفه من سلمى وابنه، ولعل هروب الكاتب بالشخصية الرئيسة التي ألبسها ثوب الحزب من حال الندم والشوق والخذلان إلى المرض هو هروب غير موفق لأن فيه إصرار على تكسير شخصية الحزبي ووصف والتشكيك بولائه لعقيدته وانتمائه وإيمانه بأفكاره، فقد قضى المهطوان مريضا وحيدا طريدا تائها يجوب المدائن باحثا عن ذاته يقول: “وأعود غريبا كما بدأت فطوبى للغرباء طوبى للغرباء”. وآه منك يا زمن أشباه الرجال، زمن القهر والصمت والمنفى، زمن يصبح فيه العزيز ذليلا..
وأنت قلت لها ابتعدي، فبيني وبينك نقشٌ خرافي، وتراتيلُ مبهمة، وأغنية حزينة، وتقاليد عشيرة ورحلتنا عسيرة فابتعدي عن قصتي.
لا شك عندي أن الرواية هي الموئل العذب لأحاديث النفس، وجميلِ الوصف وماتعه، ولطيف السرد ورافعه، وهي المكان الأنسب للتصوير والغناء والإنشاد والحكي، وهي قادرة على ضم أجناس أدبية مختلفة متنوعة مختلفة في بوتقتها، وقادرة على وضع سلم التاريخ بين عينيها بكل صوره وأشكاله، وهي تلّون نفسها بلون لسان منشئها وبنايها. وهذه الرواية، مع ما لي عليها من وشوشات كثيرة، بنيت على مهل، وبقصدية وبتخطيط واعٍ لإدانة الحزب والحزبيين، افتن الكاتب في رسم مخططها، ونجح في مزج ما استطاع إليه سبيلا من الشعر والأغنيات والنثر ونصوص العهد الجديد بداع او بغير داع، وبما يقوي السرد او بما لا يقويه. ومشّى فيها الكاتب المهطوان على جمر القلق، وسياط العذاب برفقة تغييرات سطحية، أو عميقة كثيرة في الأردن.

شاهد أيضاً

لا شيءَ يُشبه فكرَتَه

 (ثقافات)  نصّان  مرزوق الحلبي   1. لا شيءَ يُشبه فكرَتَه   لا شيءَ يُشبه فكرتَه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *