(ثقافات)
سَطوة الجنون
أحمد غانم عبدالجليل
“مونيك” امرأة أخرى، أقصد إنها شخصية مختلفة عن كل من عرفت من قبل، خصوصيتها لا تكمن في جمالها وفوح أنوثتها فحسب، بل عقليتها، وعيها وتفتحها تجاه أي رأي رغم ما يفصلهما من تباعد فكري تتجاذبه أسباب عدة، مع ذلك تظل محاربة شرسة في الدفاع عن آرائها التي صقلتها بدراستها وخبرتها الصحفية، بالإضافة إلى درايتها كمحللة متخصصة بسياسات الشرق الأوسط في معهد للدراسات الاستراتيتجية.
تعرفتُ عليها، أنا المتهرب من السياسة ما استطعت منها فرارًا، عبر مجموعة من الأصدقاء، من جنسيات عربية مختلفة، في الكافيتريا التي اعتدنا الركون إليها، لا شك أنها تنبهت إلى احتواء نظراتي طويلًا، كانت ترتبك أمام قوة تحديقها في عينيّ السوداوين، كستارة تريد حجبها عن الجميع لتسكنها في حرمٍ خاص بي وحدي، ربما بدافع من الغيرة الشرقية التي لا أجد منها ملاذًا مهما أبحر بي زمن الاغتراب، إلا أن نظراتي المتطاولة تلك كانت تجد الاطمئنان في ابتسام شفتيها الصبوح.
علاقتنا تمادت بسرعة الأيام الموّلية خطافًا، جرجرتي إلى سوح معتركها، رغم سخريتي المضمِرة من رومانسية أحلامها في ردم الهوّة بين عالمين يصهرهما التناقض في كل شيء، فقد كنت أتجنب إغضابها إلى الحد الذي يبعدني عن وهج لا أريد له خبوًا في عمري الأربعيني، ينعشه هوى فتاة في زهو الأنوثة، لا امرأة مطلقة ولديها ابن شاب يزورها كل حين، تبرز بشرته البنية أكثر في صفحة وجهها مشع البياض، قدمتني له كصديق حميم، وهي تنظر إلى تعابير وجهي، ساخرة من خجلي أمامه، لدى خروجي من غرفة نومها بعد سماعي صوت ذكوري، استفزني التفكير لوهلة أنه لحبيب آخر تستقبله في فراشها أثناء غيابي عنها.
أخبرتني أن أباه جاء مهاجرًا من دولة في وسط أفريقيا، أمضيا معًا عدة سنوات من شبق الغرام، غير مبالية لاعتراض أو استنكار أحد، خاضت في سبيل اختيارها (الغريب) سلسلة من الشجار مع عائلتها المتعصبة إلى حد الغباء الذي لم يسمح بالاعتراف بولدها لحد الآن، مستهزئة من سخافاتهم المتشنجة واتهامات الجنون الذي تستسلم له بجموح صبية على أعتاب المراهقة لم تخبر أي تجربة مع رجل من قبل.
سألتها عن سبب الانفصال بعد كل هذا الصراع فضحكتْ، أو ربما اصطنعت ضحكة باهتة، ثم قالت: (صدقني، لم أعد أتذكر سببًا محددًا لذلك).
كأنها أرادت إخباري أن لكل أمر نهاية، مهما بلغت قوته وطال أمده.
ظللتُ متوجسًا من تلك الكلمات، رغم تمام علمي بحقيقتها، وهل تكون أرادت الإشارة إلى علاقتنا وقرب نهايتها، وقد نهلنا من بعضنا ما لم ينهله عاشقان أسرهما الحرمان طويلًا؟ أنا فعلًا أغرِمتُ بها إلى حد فاق تصوري، وقد استسلمتُ لاندفاعي نحوها بكل رحابة قلب أعيته نكبات بلاده الجنوبية، المغبَرة بالتراب الأسود، حتى وجدت نفسي محذوفًا إلى هنا، رغم عدم مشاركتي في أي تنظيم أو حتى اجتماع قد يثير قلق أية سلطة، والآن لن أقبل أن تنفيني بعيدً عنها هي أيضًا، وإن كانت تكبرني ببضع سنوات، أو لنقل نحو عشرة سنوات.
في كل رحلة عمل من رحلاتها القاسية تلك، تتركني بين رحى الضياع والفقدان مجددًا ومجددًا ومجددا، تصليني الوساوس كالمدافع الرشاشة في بلدي، إن كانت تمضي وقتًا مع غيري، وربما كل ليلة مع رجل، قد يصغرني سنًا ويفوقني عنفوانا، ولدى عودتها لا أجرؤ طبعًا على السؤال، كما لا يسعفني استشفاف الإجابة منها، حتى عند اتقاد نيراننا.
خلال إحدى تلك السفرات فاجأني ولدها بالزيارة، ولا أعرف كيف أو ممن استدل على العنوان، بالتأكيد ليس منها، دخل بوجهٍ متجهم ينذر بالشر، يكشف ثوبه الضيق عن عضلات مفتولة، طلب الدخول، فلم أملك سوى فتح باب الشقة على وسعه، دخل وجلس، كلمني بنبرة آمرة أن أبتعد عن والدته، لأني غير مناسب لها على الإطلاق، في البداية ظن إن علاقتنا نزوة من نزواتها العابرة، لكنها أجابت سؤاله، المستنكِر استمرارها، أننا سنتزوج!
أخبرَته بذلك عن عناد لم يتنازل عنه طبعها بقصد استفزازه، مؤكدةً فرض سطوة حريتها على الجميع، كما فعلت من قبل، وكان هو ثمرة تلك الحرية المتمردة، أم… أم أنها قررت أن نتزوج فعلًا، دون أن نتحدث عن احتمال أي ارتباط رسمي ولو بالتلميح؟
الاحتمال الثاني كان الأرجح لدى أمنياتي، فأسفر ذهولي عن ابتسامة استسلمت إلى قهقهة ظفر عالية، قتلتها لكمة غيظ أطرحتني أرضاً، لم أنهض، فقط بقيت أنظر إلى عتمة وجهه الضاربة إلى الحمرة بعينين دامعتين، وأنف ملتهب الوجع، ينزف دمًا يغطي شفتيّ، السقف من فوق شعره الأجعد يتمايل، والأرض تميد بي، بدا لي شبحًا فارع الطول، تتضاعف ضخامة جسده وطول ذراعه الممتدة نحوي، حملني، أو هكذا هيء لي، أجلسني على الكنبة التي آوت صخبي وأمه أكثر من مرة، وانحنى نحوي، فاعتقدت إنه سيعاود ضربي، لكنه قال بصوتٍ أبح، وصل أذنيّ أشبه بالعواء:
نحن نحاول التخلص منكم بكل ما جلبتموه لنا من غوغائية عقولكم المريضة وركام بلادكم الميتة، تريدون سحبنا إلى حرائقكم، لنكون مثلكم؟.
أفرج صمتي عن كلمات متلعثمة بعد جهد، قلت بصوتٍ بالكاد يُسمع، لكنه يشي يوخز التحدي: غريب أن تقول أنت بالذات مثل هذا الكلام وأنت…
قاطعني بصراخه المنفعل: أنا ابن هذه البلاد، فهمت؟
ـ وأبوك؟
حملق فيّ بشررٍ يتطاير من عينين محمرتين للحظات، مضت دقائق زاحفة تحولتُ خلالها إلى كهل لا يستطيع الإتيان بحركة، أتوجس من صلابة قبضته الحمقاء، حتى بعد مغادرته وصفق باب الشقة وراءه.
تحيَرت أن أخبرها بما فعله أم لا، وإن أخبرتها، ماذا سيكون رد فعلها معه؟ وماذا عن قرار الزواج المباغت ذاك؟ وهي الحريصة على استقلاليتها، حتى لو اعترفتْ بشيء من عيثية حياتها، بعيدًا عن أي قيد اجتماعي، بل حتى عاطفي، فهي لم تسمعني كلمة حب صريحة، ولو أتت منساقة بهمسات شغف لم تستطع سنوات الجفاء أن تسلبني إياها.
قررتُ ألا أبلغها بشيء مما حدث، وأيضًا لم أقطع علاقتي بها، متجاهلًا أمر خطبتها لي دون علمي، بل أن نزعة الإصرار المغامر التي تجرعت جراءتها من الحياة زادتني شوقًا إليها، بإندفاع أكثر لهفة ونشوة، ولأوقات أطول مما مضى، رغم توجسي المتدفق كالنبض في العروق من لؤم انتقامه، في أي وقت، وأي مكان، وبأية وسيلة؟
لم يهدِني التخمين إلى تأكيد أي إجاية دون سواها، مع أني من بلاد يتوعدها القتل كل يوم وكل ساعة، أو أنها… ميتة كما قال مرتعدًا!
كنت في متناول ضرباتهم المتلاحقة، هو وأصحابه، في ساعة متأخرة من الليل، قريبًا من مبنى سكناي عند أحد أطراف المدينة، بعد مغادرتي عرش مخدعها، وهي تغط في نوم يزيدها إثارة، كانوا يغطون وجوههم، فلا تلوح سوى ومضات من لمعان عيونهم في انعكاس أنوار الشارع، رغم ذلك ميّزت صوته، يثير حماسة بأسهم أكثر:
(لنخلِص بلادنا من آفة الجرّاد)
أخذ يكرر الجملة بحدة تزداد علوًا، كما لو كان يهتف في مظاهرة، حتى طلبوا منه إخفاضه في همس يتخوَف أكثر من مخاطرة القبض عليهم، ثم رأيتهم يركضون بعيدًا، ورأسي يئن بوجع يطغى على كل آلام جسدي، قبل أن تنمحي الرؤية عني تمامًا وأهمد على الأرض في إغماءٍ دام لأيام، كما أخبروني في المستشفى.
المحقق لم يحصل مني على أي معلومة أكثر من أنهم ثلة من السكارى أو مدمني المخدرات، شحة الضوء لم تسمح لي بالتعرف على أي منهم، كما لم ينطقوا سوى بهذيان لا يُفهم منه شيء، وأنا لا أعرف ما ستنجم عنه التحقيقات ومجريات الأحداث إن ذكرت غير ذلك؛ أما هي فلم أرها إلا من خلال التلفاز المعلَق أمام السرير، أطلتْ منه بوجه حاد القسمات على نحوٍ لم أعهده فيها من قبل، في سياق تقرير عن مقتل ابنها وعدد من رفاقه على يد مجموعة من المهاجرين الجدد، لم يتم تحديد عددهم بعد.
وصلني صوتها المتهيج مرارة تطالب بالتشديد على طرد المهاجرين غير الشرعيين، بالإضافة إلى مراجعة صارمة لقانون منح الجنسية، ووضع كل من حصل عليها، في السنوات العشرة الماضية على الأقل، تحت المراقبة حتى يتم التأكد من عدم صلته بالإرهاب الآتي من دول الجنوب، بعد ذلك انتقل البث إلى خضم مظاهرة كبيرة، كانت تسير في صفوفها الأولى، تبرز بينها لافته بيضاء عريضة، مكتوب عليها بلونٍ أحمر غامق:
“لنخلِص بلادنا من أفة الجرّاد”