موسى رحوم عباس

التَّعويـــــذة

(ثقافات)

التَّعويـــــذة

قصة قصيرة

الأديب السُّوري موسى رحوم عباس

السويد

 

             كانت نقلة ليست يسيرة تلك التي حملتني من قريتي المختبئة في عُبِّ الفرات إلى حمص، تلك المدينة التي لا تهدأ فيها المسارح والموسيقا والأمسيات الشِّعرية، مراد السباعي وفرحان بلبل ورياض البندك وهاني شموط و”ديك الجنِّ” صار مقصفا وخمَّارة على العاصي يغني فيه طفل اسمه جورج أغاني جمعت كلَّ المعجم السُّوقي عصرئذ؛ فيتمايل السُّكارى ويجزلون له العطايا غير مكترثين بنشازه أو استقامة مقامه، وتحت السَّطح أذهلني العمل السِّياسي السِّري للشيوعيين الكبار والمتوسطين والصِّغار، وغير بعيد عنهم أصحاب العمائم واللِّحى، وأهل الأمة السورية والحضارة الفينيقيَّة، ولو أنَّ كلمة ” السِّري” مجازية هنا، لكنه سوق سياسي كبير يشبه ماذكره المعريُّ عن اللاذقية والضَّجة التي سمعها هنالك، كان ذلك في بداية السَّبعينيات من القرن الماضي، مراهقٌ نصف بدويٍّ مازال يحتفظ بدهشة الأطفال والشُّعراء بداخله، دار المعلمين بمدخل المدينة الشَّمالي قريبا من معمل السُّكر، على طريق حماة،  مازالت الرُّخامة البيضاء المثبتة على مدخلها تشير إلى أنَّها هدية من الشَّعب الأمريكي لحكومة الجمهورية العربية المتحدة، لم أتمالك نفسي من أن أضع يدي على فمي، وكأنَّني أحاول حبس الكلمات داخله، كيف يكون ذلك ؟ الإمبريالية الأمريكية تدعم الحكومة التقدمية؟! كنتُ قد سمعتُ، وقرأتُ عن الحماصنة وتاريخ فكاهتهم الكثير، قلتُ لعلَّ هذا الدَّعم جاء في يوم أربعاء!

      في حصة التَّربية الإسلاميَّة انتظرنا دخول الشيخ ( م. خ) تصورته بملابس أزهرية، جُبَّة وعِمَامة، وإذ به يقتحم الصَّف بغيمة عطر فرنسي وبزَّة عرفتُ لاحقا أنَّها إيطاليَّة، وحذاء جلدي يلمعُ، ويعكسُ شكل المروحة المعلقة في السَّقف، راح يحدِّثنا عن تجارته بين روما وحمص، وكأنَّه يتحدث عن سوق الحميدية أو شارع الدبلان، أو كأنه من بقايا الحماصنة الذين اصطحبهم القيصر كاركَلَّا الحمصي معه لحكم الإمبراطوريَّة الرومانيَّة مع والدته، فَغَرْنا أفواهنا، وهو مسترسلٌ في وصفه لتجارة الملابس والجلديَّات التي يعرف أصنافها عن ظهر قلب، أحد الطُّلاب الحماصنة قال له، هل عندك محل شيخي في الدَّبلان؟ قال له: لا، فندَّتْ عن الولد جملة قالها بصوت خافت، يعني تاجر شنطة!

ربما كانتِ الجملة التي أنهتْ رغبة شيخنا في استعراض خبراته في روما وضواحيها، وافتتح الدَّرس بأحاديث عذبة ولغة فصيحة منغَّمة عن غزوة أحد، ودور سيدي خالد كما كان يسمِّي خالدا بن الوليد، وهو يشير بيده إلى جامع السّيدي خالد القريب في حي الخالديَّة بأول حمص، وأبدع في وصف شجاعته قبل الإسلام وخطَّته في هزيمة المسلمين، لكنه والحق يقال لم يستعمل كلمة” هزيمة” بل استعمل كلمة” خسارة” وكان يكرِّر عبارة” لكنه أسلم، وحَسُنَ إسلامه” بالضَّبط هذه التعويذة التي حفرت مجرى عميقا في وعي الطَّالب شحاذة أكبر طلاب الصَّف سِنًّا، حتى إنَّنا ظنناه مدرِّسا، لكنَّه شرح لنا لاحقا أسباب تركه للدِّراسة لرعي أغنام أسرته، وعودته بعد سنين إليها، حبًّا بالعلم، وتعلُّقًا بالكتاب، بعد ذلك لاحظ الجميع على شحاذة تعلُّقَه بتعويذة الشَّيخ (م. خ) فأصبح يصفُ كلَّ من يردُ ذكرُهُ في نقاش أو حديث عابر من كتَّاب أو ممثِّلين أو سياسيين أو سَفَلة، بقوله لكنَّه أسلم، وحَسُنَ إسلامه، ويجعلها خاتمة لأيِّ حديث، مع الوقت تقبَّلنا ذلك على أنَّه أمر واقع، وتعمَّق تعلقه بالشَّيخ الإيطاليِّ كما صرنا نسمِّيه سرًّا، بل أخذ يصرُّ على حمل قبعته وحقيبته الجلديَّة الفخمة؛ ليوصلها إلى سيارته البيجو الجديدة، محاولا عدم محاذاته في السَّير نحوها، وإصراره على التأخُّر قليلا، فلا يجوز أن يبدوا كنِدَّيْنِ أبدا، تطور الأمر لأشياء شكلية، لكنها لافتة كما أظن! مثل إعفاء لحيته وتشذيبها بطريقة أستاذه، أو وضع منديل صغير ملون في جيب الجاكيت العلوي، أحيانا يأخذه الشَّيخ معه أيام عطلة نهاية الأسبوع، لا نعرف على وجه الدِّقة السَّبب، ربَّما يجعله يقوم ببعض الأعمال في مزرعته القريبة من بحيرة قطِّينة، مُستغلًّا معرفته الدَّقيقة بالزِّراعة والعناية بالأشجار والحيوانات، مع هذا شحاذة شاب سمح السَّجايا، لطيف المعشر، يعطف علينا كأنَّه أخٌ أكبرُ، بل كأنَّه والد لنا، حتى إنَّه يتنازل لبعضنا عن القمصان الأجنبية التي كان يلبسها لبعض الوقت، صحيح أنَّها مستعملة وقياسها أكبر بقليل، لكن يكفي أنَّها إيطالية ومُعطَّرة، أو هكذا نخمِّن، فهو لم يَبُحْ بمصدرها، ألبتة!

 صرنا نستحثه على ذكر تعويذته في جلسات سَمَرِنا الكثيرة، وخلال سفرنا بالحافلات من حمص إلى حلب فالرَّقة؛ الرحلة طويلة ولا يخفِّفها إلا المرح، بل تمادينا، وسمَّيناه” أسلَم ” سبَّبت له هذه العبارة حرجا كبيرا، ومشكلاتٍ أرهقته، لكنَّها صمدت بوجه عوادي الزَّمن، وصف بها مدرس علم النَّفس ” س.ن” وكان شيوعيا أكثر من لينين؛ وصاحب مطعم وكافتيريا شهيرة بحمص، فاستشاط غضبا، قائلا: ومن قال لك أنَّني أسلمت، أيُّها الجاهل؟ خذ أساطيرك بعيدا عني، أو اكبتها في لاشعورك المتعفِّن، ولولا تدخُّل أحد المدرسين؛ لصعِّدتِ المشكلة إلى منتهاها، توسعتْ دائرة متاعب شحاذة مع سيطرة هذه اللازمة على حياته، حتى وصلت للسِّياسة، في المحاضرات الحزبيَّة، وعندما يذكر اسم الزَّعيم، أو القائد الملهم، أو حتى المحافظ كان يبرطم بقوله” لكنَّه أسلمَ، وحسُنَ إسلامه” عندها يرمى به خارج الصَّالة، متورم العين، أو مدمى الشَّفة.

حين عدت إلى البلاد في ذكرى الاستقلال شهر نيسان عام 2030 أول من استقبلني شحاذة وكان قد تقاعد من التعليم، وافتتح مَبْسط خضار في سوق علي مُظفَّر، ظنَّني زبونا في البداية، ورحَّب بي كعادته مع النَّاس جميعا، لاحظت بصَرَه الكليل، ونظَّارته السميكة المربوطة بخيط من البلاستك يثبِّتها على أرنبة أنفه المتورِّم لأسبابٍ أجهلها، اقتربتُ منه، وسلَّمتُ عليه، لكنَّه أنكرني، فقلتُ ” لكنَّه أسلَم، وحَسُنَ إسلامُه” عندها انتفض كعصفورٍ بلَّلته مُزْنةٌ ربيعيَّةٌ مفاجئةٌ، وأمطرني بقبلاته وضمِّه ولعابه، غلبته دموعه، وربما شاركتُهُ في نوْبة الحنين المفاجئة، وأصرَّ على مرافقتي؛ لأبحث عن بيت أستأجره بديلا عن بيتي المنهوب بأمر الحكومة بالاستيلاء على بيوت الهاربين بأرواحهم، هؤلاء العملاء والخونة، مررنا أمام عيادة طبيب من جيلنا، عرفته متحرشا وزير نساء، قلت لشحاذه، ما أخبار صاحبك ربيع الممرِّضات، ضحك بحشرجة ظننتُه سيفارق الحياة خلالها، ثم هزَّ رأسه قائلا” ولكنَّه أسلم، وحَسُنَ إسلامه ” اطمأننتُ أنَّ شحاذة مازال على تعويذته، مرَّت سيارة المخابرات ذات الزُّجاج المعتم، وقد خطفت الطَّريق من أمام سيارة الأجرة التي تقلُّنا بعدما لاحظتُ أنَّ التَّعب قد فعل فعله بنا،  وقلتُ له، وهؤلاء ” الكواويد” همس بصوت خافت” أسلموا، وحَسُنَ إسلامهم” ودفعني للصَّمت، وهو يضغط على يدي، وكأنَّه يودُّ تحذيري من شيء ما، إذ لاحظتُ أنه ينظر بريبةٍ إلى السَّائق،   لم أستطع التَّخلص من عقلية السَّائح التي سيطرت عليَّ أربعين سنة خارج البلاد، وقد رأيتُ التماثيل والصُّور العملاقة للزَّعيم الجديد، تتوسط السَّاحات، وتخفي واجهات الأبنية العالية الحكومية والخاصَّة، استغربتُ، ونسيتُ أنَّ هذه البلاد بلادي، وطول عمرك يا عوجا… فأنا أعيش في بلد لا أعرف اسم مستشاره ولا رئيس وزرائه، ولا يهمُّني أنْ أعرف؛ فهم ليسوا من أصدقائي أو جيراني، ملتُ على شحاذة وسألتُه، وهذا الوجه المكتنز، وأشرتُ إلى صاحب التِّمثال الرُّخامي الكبير الذي يمتطي صهوة جواده   المتحفِّز للمسيرفوق قاعدة رخامية مرتفعة،  ما رأيك فيه؟  صمتَ قليلا، وانفجرتِ الجملةُ كقنبلة من بين أسنانه” لكنه أسلَمَ، وحَسُنَ إسلامُه” كان السَّائقُ ينظر إلى المرآة أمامه، ثم يعيد ضبطها كأنَّها بندقية قنَّاص، لم يستغرق الأمر دقائق معدودة، حتى أوقف السَّيارة في موقف كبير، أمام مبنى حكوميٍّ ضخم محاط بالحرَّاس المسلَّحين، ونزل بهدوء، فتح الباب المقابل لشحاذة، وسحبه من كتفه، وهو يقول، انزل بهدوء، ولا حاجة لإثارة المتاعب، حينها فقط لمع مسدسه “الماكروف 8.5”  الذي أعرفه من بين كلِّ مُسدَّسات العالم من تحت قميصه الطَّويل، قائلا بثقة تامة، ادخلا معي إلى رفاقنا في هذا الفرع الأنيق، لعلَّنا نكسب ثواب دخولكما للإسلام، ونطقكما بالشهادتين أمام إمامنا الأعظم، فأنا متأكد أنَّهُ سيكون إسلامًا حسَنًا، حسَنًا جدا، حسَنًا،……

                                                                         إسكلستونا، السُّويد 2022

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *