(ثقافات)
( ثورة الفانيليا – رسائل من المطبخ ) بين هيلين سيكسو وهبة الله أحمد
د. سلوى جودة
تُقدم هبة الله أحمد لقارئها في كتابها (ثورة الفانيليا- رسائل من المطبخ) 2021، والتي يصعب تأطيرهُ في جنسٍ أدبيٍ محدد المعالم والوظائف ففيه اليوميات وأدب الرسائل والحكي البديع، لغة نثرية خاصة لا تشبه غيرها في بهجتها ونظرتها لبيئتها المحلية الخاصة وللعالم، فهي صاحبة كتابة فطرية زاخرة بالـمجازات والتجليات لخليطٍ جمالي وأنطولوجي صامدٍ بقوّة في وجه ترسانة الأنظمة والأنساق التقليدية، فرسائلها من “المطبخ” ، هذا الفضاء الذي يضيق ويتسع حسب طاقة المتعامل والمتجاوب معه سلباً وإيجاباً: “إلى الذي لا يملني أبداً، يفتح لي أبواباً لحيوات موازية، ينشر حولي عبقاً من فرح وشجن وأحلام وبهار، شكراً لأن كلانا يعيد تعريف الآخر..المطبخ وأنا”.
والمطبخ كبنية مكانية وكرمزٍ للتوليف وللبنى التحتية يؤدي إلى البنى العليا لمنظومة القيم إذا توفرت فيها الكفاية والكفاءة والإلهام، والمطبخ كان حاضراً في الآداب العالمية لدى أرنولد ويسكر 1932وإيزابيل الليندي 1942وجون أوكونيل 1904 وغيرهم ، ومن خلاله نوقشت العديد من التيمات الإجتماعية والسياسية وقضايا العنصرية والدونية والاضطهاد والتهميش والأقليات العرقية والمحرمات الثقافية، وكأنه الحيز السري ، للرجل والمرأة على السواء، للإلهام والتثوير والتحليل والتفكيك والتركيب والموائمة وما يحمله ذلك من دلالات :”حقاً أجد المطبخ مهربي، محاولة الانفراد بهواجسي التي أصبحت أشبه ببندول ساعة قديم أصابه الخرف يتأرجح بين قدرين..علني أتخلص منها” ، فمطبخ هبة الله هو عالمها الذي تسكنه ملائكة الحكي المنمق وهو أشبه بخلوة الصوفي مع عالمه الروحي وتجلياته، وهي بذلك تنفي كونه عبء غير عادل يقع على عاتق أنثى هذا العالم وحدها وهو بالنسبة لها ليس “معتقلاً مجتمعياً ” كما تقول صديقتها خُلق ” لتدجين مستمر لخيال المرأة” بل هو بالنسبة لها ” استيلاء لخيالات جامحة ، بوابة لحيوات تمنيت عيشها، ولوحات دموية لانتقامي وفتكي بك قبل اندفاعي لأحضانك.”
وفضاء هبة الله كما أخرجته عبر نصوصها زاخر بالمشاهدات الواقعية في ملمحها العام، والرومانسية في كل نبضة حرف، حتى أن القارئ ليشعر أنها رسائل وتجليات عاشق تَحضُره في ساعاتِ الخلوة ومع ذاكرة المذاقات :” تأتي رسائلي إليك ..صبورة لحوحة تستجدي وصل عيونك لحروفها موشومة بسمرة صوتك، كأنها تقول: أتيتني.. فتأنثت لك ..وهذا خطير جداً..ومخيف جداً.” فهي كتابة على تخوم الحضور، برونق أنثوي يعكس ذوقًا رفيعًا ونباهة لا تحاكي التقليد بقدر ما تصرف نظرها عنه، لتفجر كل ما هو مغلق ومـحجور عليه: “إننا في الغياب لا نكتب، ولكن نحصي ما في القلب من طعنات، لذا تخرج كلماتنا لاذعة مبهرة تدمع العين وتسيل الأنف ، فنتهم البصل بالرغم من براءته..بالدموع”، فالكتابة عندها فعل حاضر دائماً وهي تسجل تدوينات المناوشة والتفاعل بخفة وحيوية الشباب وطموحة، كتابة هـمها الوحيد هو التواصل وليس الاختلاف وتسجيله كأثرٍ باقٍ، ربما فكًّ لعقدة الذكورة المهيمنة على الأنـماط الاجتماعية والصورالثقافية السائدة: ” فأنا واحدة من هؤلاء النساء اللاتي لا يهتممن كثيراً للحميات الغذائية ولا الحميات العاطفية”.
هبة الله أحمد في نصها هذا تتفاعل بوعي أو بلا وعي مع الكاتبة النسوية – في الموجة الثانية من الحركة النسوية التي بدأت إرهاصتها من بدايات القرن العشرين – هيلين سيكسو 1937 في نضالها لكي يكون للمرأة حيزها ولغتها الخاصة التي تنقلها خارج قواعد اللغة الموجودة في النظم البطريركية وسلطتها الأبوية، فطبقاً لسيكسو فإن المرأة لابد من أن تكتب نفسها ومشاكلها ومعاناتها ورغباتها أيضاً في انتفاضة نسوية على القوانين التي سنها الذكوروتعمدت تجاهلها وتهميشها، وفي مقالها الشهير ” ضحكة ميدوسا” 1975 قالت سيكسو ” لقد عرفت المرأة عذاب النهوض للحديث ، حيث تتسارع نبضات قلبها، وفي بعض الأحيان تضيع الكلمات منها، وتخونها اللغة وربما يختفي إحساسها بالمكان، فكم هي مخالفة كبيرة أن تفتح فمها وتتحدث عن نفسها أمام العامة “، إن اللانهائية ،طبقا لسكسو، هي طموح الكتابة الأنثوية عبر خطاب لا يمكن تصنيفه، أوفي الحقيقة متعذر توصيفه، يتغير مرات عدة في اللهجة واللغة والنوع: فكانت سيكسو مهمومة بقلق السؤال النسوي وهاجس الهوية الأنثوية، ليس ذلك فحسب بل سعت إلى أن تحرض المرأة على كتابة تواقة إلى اللانهائي واللامحدود، بأسلوب مُختلف في زفراته الـمرجئة وصمته الصبور وأن لا تتحيز للمؤسس والثابت ولا تشتغل على تأكيده.
