*ناصر الريماوي
( ثقافات )
أول النهار، تحضرُ لساعات قليلة، تعدل من عقارب الساعة ليندفع الوقت في شرايين المكان، تنحني، تنفض الغبار عن سرير فارغ لتكشف عن وسادتين من عدم، تدير وجه النافذة الوحيدة نحو الشمس، تخلع عني مهملات المكان كي تخلصني من معانيه الاعتيادية، ثم تشرع تنظف الفراغ بالدندنات، ليتسرب إلينا النهار بلا ضجيج.
عند المساء، ترتدي ظلّها الذي علّقته على الجدار، يتنفس «المشجب» بارتياح وهو يمدّ قامته المشدودة إلى الحائط نحو عنق النافذة، في إنحياز لعبق أردية جديدة قد تعبر الطريق، أضحك في سرّي ولا أعلّق وأنا ألمحُها تستدير نحوه في نزق وضيق، ترمقه بنظرة متوعده، ثم تغادر. اليوم، لم يعد يرتعد أو يتنفس تحت ظل أحد أو يرتبك أمامي وهي تغادر، فقط بات منحازاً بالنظر لذلك البرواز، وأنا افتقدتُ بدوري صخب الشفاه وهي تبدد رغبتي في الكلام أو تمسح عني غبار اللهفة في التعب.
الأخرى، تبادرني كلما التقينا صدفةً تحت مظلة الانتظار لحافلة الصباح: «متى نكمل اللوحة كي تطلق سراحي؟». تخطر ببالي تلك «الصورة» على الفور إلى جانب «المشجب» على الحائط، والستارة القاتمة المسدلة على اللوحة الزيتية غير المكتملة. منذ سنوات وأنا أوزع بصري بينهما بلا طائل..
تصل الحافلة، تصعد إليها وهي تضيف بنبرة ساخرة: أم ما زال يروق لك الحديث إلى صاحبة الوجه في الصورة؟!
أعْدل عن الصعود، يعلو النفير وتمضي الحافلة بالظلّ الثقيل للمرأة، لأظلّ وحدي في الانتظار. يمضي الوقت بلا طائل في كل مكان، وفي أيّ وقت، ليس ثمة شيء قد يأتي بغتة سوى الموت، ليس بالأمر السيئ على أيّ حال!
اللوحة الناقصة على الحامل في الركن المقابل للغرفة، كلما حاولتُ رفع الستارة عنها يثقل الوقت، وتثقل يدي، فأعدل عن ذلك، أمسح الغبار عن قامة المشجب وأرفف الكتب القديمة، ولا رغبة لي في الحديث أو النظر. الصورة الجدارية فقط يخنقها «البرواز»، لتأخذني عبر زمن ضبابي إليها.. «كيف اصطدتَ تلك النظرة المتوعدة، لتحبسني بها على جدار؟»، ثم تواصل بعد أن تلتفت نحوي وهي تبتسم بكل صفاء: «أحقاً تراني بهذه القسوة، هل أنا الآن كذلك؟».
خلعتْ ظلّها على الجدار ورحلتْ، منذ سنين وهذا الوقت مرهون لفوضى ارتجالاتي في الفراغ، كلما نفضْتُ أتربة المساء عن جسدي الطاعن في الغربة، طالعني الجدار..
تُبدّل من جلستها المعتادة فيختلّ المشهد على اللوحة، تموج في حضن المقعد الجلدي، تقول في حنق: «أتسمّر هنا لساعات كتمثال.. بينما أنتَ تحدّثُ الصورة!»، ثم تسيل ملامحها الساخرة لترسم النهار بوجه آخر، قبيح..
أعتذر عن المواصلة، أخلع المريول وألقي «باليتة» الألوان بعيداً، تجمعنا مكاتب الصحيفة بأحاديث مقتضبة وعابرة، ثم «جاليري» عرض اللوحات من وقت لآخر، وغرفتي الصغيرة أحياناً، تشترط نزع تلك «الصورة» في حضورها، وأنا أذعن مرغماً، وحين انتهينا ذات مساء، سيّجت لوحتها ببرواز الصورة القديمة ثم علّقتها على الجدار، دفعت بصاحبة الوجه في «الصورة» إلى الركن وأسدلت عليها الستارة، واستدارت وهي تردد في تهكم: «كل شيء يطاله الحلم، فلا تخشَ شيئاً». ثم غادرتني ولم تعد!
في كل ليلة، صاحبة الوجه في «اللوحة» الجدارية، تفْلت من قبضة «البرواز» لتسقط في فوضى الملامح، وصوت شجيّ من خلف الستارة، يهمس لنا متوعداً: «كل شيء سيطاله الحلم إلا اعتدال الملامح في الظلّ وما خلفته سنواتك المرّة في الغياب».
تبتسم على وقعه بسخرية معتادة، تشْرد، يكتسي شرودها بعمق ارتحالات بعيدة، ينكسر على مصطبة المزاج الشوكي، تجلد الجفن بغمز الارتياب، تزوم، تعض على شفتيها، تسحب الغطاء إلى وجهي، فيختلّ من حولها الوقت… عين على النائم وأخرى على البرواز.
______
* قاص من الأردن يقيم في السعودية/ الرأي الثقافي