سؤالها البسيط المحيّر*

(ثقافات)

   سؤالها البسيط المحيّر*

    عدي مدانات**

        أنهت مريم تنظيف الجناح المخصّص لها، باستثناء غرفة واحدة، لم تخلُ بعد. وجدتْ أنّ الساعة قد جاوزت العاشرة، فقرعت الباب على مُشغلِها. كان نزيل الغرفة يجلس قبالة النافذة، ويرقب المطر الذي تساقط بغزارة. فوجئ بالقرع على الباب، فنهض وفتحه. وجد مريم تحمل أدوات تنظيف الغرف، وتنتظر الإذن بالدخول، ارتبك واعتذر لها. ظنّ أن بقاءه في الغرفة حتى هذا الوقت ، قد أعاق عملها.

     حَدِر إلى الصالة، رغب في تدخين لفافة، مدّ يده إلى جيبه فاكتشف أنّه غفل عن إحضار التبغ، فعاد إلى الغرفة.

   لم تلفت إليه حين دخل، وتابعت عملها. اتّجه إلى حقيبته، تناول منها علبة التبغ، فضّها  وأخرج منها لفافة. لصّ نظرة إلى ردفيها اللدنين، وهي منحنية تكنس الغرفة، فارتعش وأشاح عنها. لم يعد ما يبرّر بقاءه، فخطا إلى الخارج ولكنّه وجد نفسه منجذبا إليها. عاد واستأذنها أن يبقى قليلا في الغرفة، فلم تمانع. أدار مقعده بحيث يراها بوضوح إذا ما نظر إليها. تحرّكت برشاقة. تأمّل وجهها الطفوليّ الجميل وشعرها المضموم بجديلة واحدة. التقت عيناهما، فغضّ بصره.

  ألقى بلفافة التبغ إلى أرضية الغرفة، فنظرت إليه مؤنّبة. تناولت منضدة صغيرة ، وضعت عليها منفضة سجائر، وقرّبتها منه.

ــ الأستاذ وصل امبارح؟.

 هزّ رأسه موافقا.

 ــ كيف عرفتِ ذلك؟.

 ــ من ” شنطتك”.

   تابعت عملها، فدخلت الحمام، وأخذت وقتا قليلا في تنظيفه. أخرج كتابا وتلهّى بقراءته. أنهت تنظيف الحمام وعادت.

  ــ كيف شفت بيروت أستاذ؟.

 فاجأه السؤال، بدت له بيروت مدينة خَرِبة، تبعث الضيق في النفس.

 ــ الصحيح أنني ما شفت بيروت، وصلت متأخرا في الليل.

 حانت منها التفاتة إليه، وجدته يقرأ. اقتربت منه وقرأت العنوان.

 ــ بتهتمي بالقراءة؟

  ــ  كثير.

  طلبت باستحياء أن يُبعد مقعده قليلا عن النافذة. ازداد ارتباكه، وابتعد. شرعت في تلميع زجاج النافذة. أخذ يلصّ النظر إليها، يرتفع نهداها ويهبطان مع حركة يدها. أنهت تلميع الزجاج، ففتح الكتاب وأخذ يقرأ به.

    نزعت ملاءة السرير وغطاء المخدة، وألقت بهما إلى الأرض. التقطت منامته عن الأرض، رتبّتها ووضعتها على مقعد. شكرها على ذلك.

  ــ انت منين أستاذ؟.

  ــ أنا فلسطيني.

  كوّمت المناشف والملاءة وغطاء المخدة.

  ــ الأستاذ في الثورة؟

  خطف إليها نظرة، كانت تحتضن المناشف والملاءة.

 ــ يعني مش تماما، أنا في الحقيقة صحفي ومع الثورة.

   أخرجت المناشف والملاءة وألقت بها في سلّة الغسيل وعادت.

  ــ لازم تكون بتفهم كثير.

   استخفّ بأسئلتها . ودّ لو تصمت وتتابع حركتها فتفتنه بانحناءات جسدها. ولكنّه رأى أنْ يجاريها إطالة للوقت :

  ــ واجبي أن أعرف وأتقصّى الحقائق.

 ــ” أنا كمان بحب أعرف. مشان هيك باقرأ كثير”.

   استكثر عليها قولها.

  ــ القراءة مفيدة لك في سنّك، ” بتعملي كويس”.

    حكّت شعر رأسها بأظافر يدها، ارتفع نهدها من شقّ الثوب.

  ــ أكيد أنت بتفهم أكثر مني.

 شمخ وأجاب باعتزاز: ــ يعني.

 ــ بتفهم بكل شيء؟.

 أبدى تواضعا : ــ الإنسان دائما يتعلّم ويكتشف أشياء جديدة.

  ــ يعني مثل أيش؟.

  فاجأه السؤال، لم يكن مستعدّا له. عاب على نفسه أن يخوض معها غمار حديث عن المعرفة، ودّ لو تتركه وشأنه وتعود لعملها، بوسعه آنذاك أن ينظر إليها بحرّية، زاغ عن الجواب :

  ــ دائما هناك اكتشافات جديدة.

  حرّكت رأسها موافقة، جلبت ملاءة وغطاء جديدين للسرير. انحنت، غطّت السرير وكتّفته.

  ــ أنا بس بدّي أفهم.

  ــ ايش بدّك تفهمي؟
ــ بدّي أفهم شو اللي صاير هون، وليش هالقتال.

 ألبست المخدة الغطاء الجديد وضربتها بكفيها وسوّتها.

  استغرب حديثها، فهي تعيش أجواء الاقتتال منذ سنوات.

ــ مش عارفة ليش هالقتال؟
ــ لا، ومش عارفة ليش هيك صاير فينا.

 قطّبت جبينها : ــ بس بدّي أفهم.

  ـ مش معقول تكوني مش فاهمة.

 ــ ليش انت فاهم؟.

 ــ بالتأكيد، المسألة بسيطة.

   أراد أن يشرح لها، بدا له الحديث طويلا ومملاّ، كما أنه لم يعرف من أين يبدأ. فكّر قليلا. كانت تنظر إليه:

  ــ الحديث طويل، ليش ما تسألي ناس من هون؟.

 خفضت رأسها ، جمعت المنافض المتّسخة، أخذتها إلى الحمام وغسلتها، ثمّ أعادت توزيعها. أنهت عملها وهمّت بالخروج. سارع بسؤالها :

ــ أنت من بيروت؟

 ــ لا ، من الجنوب.

ــ من الجنوب وتسألي ليش هالقتال!

 جلست على حافة السرير، أسبلت يديها على ركبتيها.

  ــ ليش انت بتعرف ليش هيك صاير بالفلسطينية؟.

  أزعجه أن تمتحنه فتاة صغيرة، نظر إليها مؤنّبا. كانت صارمة وتوغل بعيدا. أجاب :

  ــ بالتأكيد.

 أدرك بغتة أنّ جوابه ليس صادقا تماما، ثمّة أمور مختلف عليها وتثير جدلا. أصاب سؤالها خللا في نفسه.

 ــ أنا مثلا بدّي أعرف ليش قُتل أخي؟.

  ضاق نطاق الحديث فسهُل الأمر عليه. اكتشف أنه كان محاصرا وأُفرج عنه. ولكنه لم يرغب بحديث الموت أيضا. سيضفي على الجوّ كآبة دون مبرّر. حاول أن يختلق حديثا يُفضي إلى مساق آخر، لم يجده. نظر إليها، حمل وجهها تعبيرا غامضا، حار فيه وسألها :

ــ كم عمرك الآن؟

ــ خمس عشرة سنة.

  رفعت يدها، حكّت شعرها مرة ثانية. ارتفع نهداها قليلا مع حركة يدها. أبعد نظره عنها. نظر إليها بعد حين، التقت عيناهما. كانت عيناها قاسيتين بعثتا فيه قشعريرة.

 أشاح عنها، وأخذ يرقب المطر.

  ــ كان أخي جندي في جيش أحمد الخطيب، “خطيّ”، كان عمره ثمانية عشرة سنة، وفي يوم كان في الثكنة ينظف سلاحه، انطلقت رصاصة، أصابت رفيقه الروح بالروح. مات رفيقه، فاتهموه بقتله. حقّقوا معه وعذّبوه، تركوه ستة أشهر في السجن وبعدها عملوا له محكمة وبرّأوه.

 ــ لكنك قلت إنه مات.

 نظرت إليه معاتبة، فأدرك تسرّعه وخطأه، وتضرّج وجهه خجلاً.

  ــ بعدها سافر إلى السعودية، اشتغل سنة هناك ورجع. وفي يوم نزل إلى بيروت، راح يتمشّى مع رفيقه بساحة البرج، أجا واحد قوّسه بظهره، فمات على طول.

  لم تنفعل أو تتأثّر لهجتها، كانت تتحدّث كأنما تستعيد حكاية  تتعلّق بشخص لا يخصّها.

  ــ مين اللي قتله؟

ــ ما عرفنا، ناس قالوا جماعة القتيل أخذوا بثأره. وناس قالوا جماعة الخطيب اعتبروه جاسوس وصفّوه، وناس قالوا من تنظيم ثان وناس قالوا واحد جاي على باله يقوّس، قوّس طلعت بأخي.

 لاحت فجأة أكثر نضجا. قالت:
ــ عشان هيك مش فاهمة ، وبدّي أفهم.

   أراد أن يقول شيئا. لم يتمكّن..

    نهضت، ودّعته وانسلّت من الغرفة.

                            ____________________

                                              * من مجموعة ” صباح الخير أيتها الجارة” 1991

** عدي مدانات: أديب أردني 1938 – 2016

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *