ناصر خمير.. الأديب الروائي المخرج: الصحراء.. مفردة مفضلة في أعماله

ناصر خمير.. الأديب الروائي المخرج: الصحراء.. مفردة مفضلة في أعماله 

د. مرام محمود ثابت

 

 

تميل السينما في عمق تأثيرها، نحو الجمال المرئي في الصورة، وجمال الكلمات في السرد القصصي، وجمال السرد البصري في تتابع اللقطات، فالمشاهد دائماً متحفز لاستفزاز ذائقته الجمالية، فإذا اتجه نحو السينما، فهو بشكلٍ لا واعٍ ينتظر فيلماً مليئاً بالجماليات، فيشعره بالمتعة الوجدانية، فضلاً عن متعة متابعة أحداث الفيلم،

يحمل المتلقي إلى عالم خيالي تسبح فيه المعاني الروحانية، فتنشر إشراقات تتلألأ فيها النفس، وتضيف أبعاداً إنسانية تضفي لمحة حانية على نفوس المتأملين، ويزيد من إحساس المتلقي بشكلٍ واعٍ بالجماليات الفلسفية، التي تضمنها الفيلم. وهذا ما سعيت للتركيز عليه في هذا المقال، بتناول جماليات السرد البصري، في أحد أشدّ أعمال المخرج التونسي ناصر خمير خصوصيةً وتميزاً، في محاولة لبعث التأملات الفلسفية في شخصية (بابا عزيز)، ذلك الشيخ ذو اللحية البيضاء، الذي يجوب فضاء الصحراء، والوقوف بمقربة من أعمالٍ سينمائية ذات صياغة سردية متميزة، ومضمون درامي يصل للمتلقي، والتعرف إلى مدى إسهام المكونات البصرية للفيلم على بعث صور الجمال، وقدرتها على التعبير عن رؤية صانع الفيلم.

وقد استلهمت السينما منذ بدايتها، وعبر تاريخها العديد من صور السرد بالتنقل عبر التاريخ، وكانت وسيطاً مثالياً، لاستقطاب قصص الأساطير والحكايات الشعبية، والإرث التاريخي والحضاري، لذا يستعرض المقال صور السرد البصري، من خلال محاكاة قصة لشيخ مسن يجوب الصحراء بحثاً عن الذات، وبصحبة حفيدته عشتار، ذات التألق الروحي، المحبة لطرح التساؤلات والاستكشاف والبحث عن المعرفة.

لو رصدنا الأوجه الجمالية للإبداع البصري في أعمال (ناصر خمير)، نرى أنه يتمتع بسيرة فنية تميزه عن أقرانه من السينمائيين، فهو أديب روائي، ولد في مدينة قربة بتونس عام (1948م)، بدأ مسيرته السينمائية بتوثيق دقيق لأفلام وثائقية، فقدّم أول أفلامه في العام (1975م)، بعنوان (حكاية بلاد ملك ربي)، وفي العام التالي قدّم فيلم (الغولة). وحصل على منحة من اليونيسكو لدراسة السينما في فرنسا، إلى جانب كونه فناناً متعدد المواهب، يكتب الشعر، وله اهتمام بالكتابة في أدب الأطفال والرسم، ويعشق الخط العربي، ويعمل في مركز جورج بمبيدو الوطني للفن والثقافة.

استطاع المخرج (خمير) أن يضيف للسينما التونسية الكثير من التميّز والإبداع السينمائي، والمرتكز على هويته العربية، والمنسّم بعبق التاريخ ونسائم الروحانية، الأمر الذي تجسد في غالبية أعماله، التي سعى إلى كتابتها وإخراجها، والتي عُرفت بـ(ثلاثية الصحراء)، وهي ثلاثة أفلام من أروع ما أبدع سينمائياً في العالم العربي، وهي: (الهائمون- 1984م)، (طوق الحمامة المفقود- 1992م)، (بابا عزيز 2005م). حصلت هذه الأفلام على عدة جوائز، نذكر منها: جائزة أفضل مخرج في مهرجان قرطاج عام (1984م)، والجائزة الذهبية في مهرجان فالنسيا بإسبانيا عام (1985م)، وفي عام (1987م) حاز جائزة لجنة التحكيم في مهرجان لوكارنو، والجائزة الكبرى في مهرجان القارات الثلاث عن فيلمه الثالث.

وحملت هذه الثلاثية هويته الفكرية والفنية، وذلك من خلال استناده إلى إرث عظيم من الحضارة العربية، حاول أن تحتويها أفلامه، بأسلوب سردي مغاير، وبطرح لغة سينمائية فريدة تتجسد فيها آيات الجمال، حيث إن جمالياته البصرية نابعة من ميوله التشكيلية، واهتمامه بالثقافة العربية الواضح في اختياره لفضاء الصحراء، ودقة اختياره للأزياء والألوان ودرجاتها وتموجاتها، وحساسيتها في تكوين كل مشهد. لذا تعد أفلام المخرج (ناصر خمير) فسحة شعريّة في الأبعاد الروحانيّة والصوفيّة الوجوديّة، لوحة تشمل عالم الصحراء بمفرداته العربية، يحاول فيها إعادة الاعتبار للثقافة والهوية العربية. وفيما يلي تعريف بالمخرج.

وعند تحليل أسلوب السرد البصري في أفلام المخرج ناصر خمير، نجد أن أفلامه تشفّ عن حساسية جمالية عالية، حيث إن جمالياته البصرية نابعة من ميوله التشكيلية، وممارسته لفنيّ الرسم والنحت. ومن هنا نجد اهتمامه بالسرد البصري في أفلامه، وقدرته على توظيف العناصر المرئية، مثل المكان السينمائي والديكور وأزياء الشخصيات وألوانها، للتعبير عن الحالة الدرامية والأبعاد الفلسفية، التي يسعى لإيصالها للمتلقي، كما أنه يركز في أفلامه على ثيمة أو فكرة رئيسة ومتكررة، وهي البحث عن النفس الإنسانية عبر رحلة مركّبة في الزمان والمكان، حيث البحث عن الهويّة وعن ماضٍ مفقود، عن الذات ومحاولة استعادتها، وذلك من خلال البحث عن الجذور، وللبعد الصوفي حضوره المحسوس أيضاً في أفلامه، ونملس الإشراقات الصوفية، ذات الطبيعة الجمالية الحسية والمعرفية، في جُلّ أعماله السينمائية.

تجدر الإشارة أن فيلم (بابا عزيز)، ذو طابع صوفي، ويعتبر مزيجاً من الأسلوب الواقعي والفنتازيا، مستمداً مادته من المعتقدات التراثية العربية والميثولوجيا الكلاسيكية، ومن حكايات الأساطير القديمة، وعوالم الخرافة الشفوية، والأدب الشعبي، يستلّ الدلالات الغنية بالجماليات البصرية. أما عن شخصية (بابا عزيز)، فتسرد قصة شيخ أعمى يجوب الصحراء بحثاً عن ذاته، ترجم ذلك المعنى من خلال استخدام الأزياء ذات الأقمشة والألوان البالية، والتي تعبر عن حالة الزهد، والرغبة في ترك زخرف الدنيا. ومن خلال معطيات الصورة والتكوين السينمائي للفيلم، استطاع المخرج توظيف عناصر السرد البصري، من خلال حركة الكاميرا والإضاءة، واختيار المكان السينمائي المناسب للتصوير، وانتقاء الأزياء المعبرة عن حالة الشخصيات، لخدمة أفكاره التي يريد إيصالها للمتلقي، حيث يرى المخرج التونسي (خمير)، أن للحضارة العربية الإسلامية أوجهاً مضيئة لم يستطع أبناؤها أن يظهروها بعد، ربما بسبب الجهل الذي خيم على هذا الإرث الحضاري الممتد الأثر، كما أنه يعتقد أن الجيل الجديد لديه أزمة ثقّة في هويته، حيث قال مندداً بحال وواقع العرب اليوم: (إن الأمم التي لا تعرف تاريخها، ولا تهضم تراثها وتتصالح معه، لا تستطيع أن تتقدم أو تبدع في أي مجال من المجالات).

كما مُيّزت (عشتار) بالعمامة ذات اللون الأحمر، والمزخرفة بالتطريزات الذهبية، لندرك من خلال علم الدلالات ماهية اللون الأحمر، ودلالته لدى الصوفية، فهو لون النفس الملهمة الباحثة عن العلم. واللون الذهبي للزخارف، يرمز إلى جوهر النفس الأصيلة، لتجعلنا نرى أنفسنا والعالم على نحو أوضح، فالصورة السينمائية اليوم، تمتلك البعد الجمالي والإنساني والفلسفي أيضاً.

ومن خلال السرد البصري لطبيعة المكان، الذي يختاره لتصوير أفلامه، نجد أن الصحراء هي المفردة السردية الدائمة في أعماله، بكل تأملاتها الرمزية، والأبعاد الروحية للهائمين بين كثبانها، والحكايات المختبئة بين رمالها وتضاريسها، وعنها يقول خمير: (الصحراء أقرب شيء يعطي تجسيداً للكون، عندما يتحول الإنسان إلى نقطة لا نهائية في فراغها الشاسع).

  • عن الشارقة الثقافية

شاهد أيضاً

رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان

(ثقافات) رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان  صفاء الحطاب تذهب بنا رواية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *