قراءة سيميائية و تفكيكيّة لرواية غابات الإسمنت . لذكرى لعيبي *

(ثقافات)

 

قراءة سيميائية و تفكيكيّة لرواية غابات الإسمنت . لذكرى لعيبي *

  علي فضيل العربي (ناقد وروائي من الجزائر)

    ختمت الروائيّة ذكرى لعيبي  روايتها ” غابات الإسمنت ”  على لسان بطلتها إنعام عبد اللطيف الحاير ( ميساء أدهم عبد الرحيم ) ، قائلة : (  و رغم كلّ ما مرّ … سأعيش و أنسى المرّ ) . 

            هناك روايات  تجبرنا – كقراء أو نقاد ، أن  نقرأها  أكثر من مرّة . لا لكونها رواية صعبة المنال ، أو غامضة في ثنايا السرد و الحوار ، بل ، نظرا لتفرّدها و تمرّدها على السرد العربي المألوف . و ما اعتاده  القاريء العربي من نصوص سرديّة ، تمتّعه فنيّا  ، و لا   تستفزّه  عاطفيّا  . تدغدغ مشاعره و أحاسيسه ، و تزعزع أفكاره ، لكنّها لا تزلزلها ، و لا  تزرع فيها  كمّا من الأسئلة الحرجة .  و إن كان من بين  أدوار الفن ّ عامة ، اقتحام المناطق المغلقة في الطبيعة و النفس البشريّة ، و التنقيب  في أعماقهما عن المكنونات ، التي لا تبصرها عيون العامة بعين بصيرة .       

 أجل ، لم تعد الرواية المعاصرة  تهادن فلسفة الواقع المعيش ، بل أضحت وسيلة لتعريّة هذا الواقع الإنساني ، الذي يخفي كثيرا من الطابوهات  ، و يقمع الحريّات ، و يمارس طقوس النفاق السياسي و الاجتماعي و الثيوقراطي  ـ تارة تحت غطاء التقاليد الباليّة و العادات البائدة  ، و تارة أخرى تحت طائلة الاستبداد بكل ضروبه و أشكاله .

        رواية ” غابات الإسمنت ”  ، للكاتبة  ذكرى لعيبي ، و هي كاتبة  ميسانية المولد   ( نسبة إلى ميسان ** ) ، عراقيّة  الموطن و الهويّة ، سندباديّة الترحال . ولدت في زمن العجائب العربيّة . تناولت فيها الكاتبة ، بكل جرأة و شجاعة ، أحد المجتمعات العربية  – جعلت المكان الأول عائمًا – لأسباب نعرفها جميعًا، الذي لا تختلف  البلاد العربيّة برمّتها – مازالت فيه الذكورة الفوقيّة ، تمارس (قوامتها ) و رعونتها على الأنثى ( المرأة ) الرازحة تحت نير الدونيّة و النصفيّة ( من النصف ) . فأضحى الذكر هو كلّ  المجتمع ، بينما المرأة هي نصفه ، الذي سُلب منها ، و حُرمت منه  . و قد صدرت هذه الرواية في طبعتها الأولى شهر أفريل 2023 م ، عن دار الدراويش للنشر و الترجمة /  كاوفبويرن – جمهوريّة ألمانيا الاتحادية .

       قسّمت الكاتبة الروائيّة   ذكرى لعيبي ، روايتها  ” غابات الإسمنت ” إلى قسمين ؛ عنونت قسمها الأول بـ ( الجريمة ) ، و قد توزّع على  أربعة عشر فصلا (  هل نلوم القدر ؟ ، رفيقتي ، السجن الكبير ، نائلة ، اللقاء ، نافذة أخرى للحياة ، وعود ، بين الحياة و الموت ، إرادة الموت ، لقاء في المكتب ، عالم العطور و العقارب ، أناملي و الدمى ، العودة إلى السجن ، المهمة الأولى ، ) بينا عنونت الفصل الثاني بعنوان ( الحريّة ) ، و قد ضمّ أحد عشر فصلا ، هي كالتالي : ( الحريّة ، عناق ، البيت ، سكن و عمل ، احتفالية ، زيارة المقبرة ، خبر عن الفرح ، حياة جديدة ؛ لكن بحدود ، لقاء مع العروس ، التمرّد ، حريّة أخرى ) . أما  عدد صفحاتها  فقد ناهزت 218  صفحة .

و قد صدّرت الكاتبة الروائيّة ذكرى لعيبي روايتها ، بإهداء إلى بطلة روايتها ” أنعام عبد اللطيف الحاير ” قائلة لها : ”  الأقوياء هم من يعاصرون أعوام التبعثر .. من دون أن تتشظّى أرواحهم ..  نحن متّفقتان أن أيّ علاقة  تجعلنا نتخلّى عن قيّمنا و مبادئنا ، لا بد من إعادة النظر فيها …ثم تضيف : جريمتك لا تنحصر في قتل رجل خائن .. بل في تمزيق صورة إنعام ؛ الأنثى الجميلة التي كانت بداخلك . ” 

     و قبل الولوج في هذا المتن السردي ، المثير لمشاعرنا  ، المستفز لعواطفنا  و قناعاتنا الفكريّة ،  يستوقفنا ، عنوانها الموسوم بـ ” غابات الإسمنت ” . و إذا كانت الأبواب هي المداخل الشرعيّة القانونيّة للبيوت و المحلاّت  ، فإنّ العناوين هي عتبات  النصوص الروائيّة ، لا يمكن  إغفالها أو تجازوها أو التهوين من قيمتها الفنيّة و الدلالية . إنّ  الغابات ( مفردها  الغابة ) في سياقها الرمزي و وظيفتها الإنزياحية ، و مفهومها النفسي تدل على الأنوثة غير المستكشفة . فقلب الغابات – غالبا – ما يمثّل الأرض المقطوعة الشجر و الطوق المقدّس .  و منها صيغ مصطلح ( قانون الغاب ) ، فهو شريعة تقوم على الفوضى و الأنانيّة المطلقة و أخذ الحقوق بأساليب مختلفة و مشبوهة في وجود أمن ضعيف و سلطة سيّئة الذكر .  أما في المفهوم السياسي ، فهي ترمز إلى مكان لترويض العاطفة و الشهوات الحسيّة و الانغماس في طقوس رومانسيّة و صوفيّة كما هو الشأن في الأدب الفارسي . أما رمزيّة الإسمنت ، فهي تحمل معاني القهر و التضييق و الخنق و القسوة و الاستبداد .      

         بطلة الرواية ( الراوية  ) ، هي إنعام عبد اللطيف الحاير ( ميساء أدهم عبد الرحيم ) ، امرأة مثيرة للجدل ، متمرّدة عن مجتمع ( القطيع ) و ضحيّته في آن واحد . أمرأة باحثة عن حريّتها و كيانها و دورها  و مكانتها في مجتمع شرقيّ ـ تقبض على زمامه فلسفة  ذكوريّة  فوقيّة متخلّفة . تناسى متعاطوها مبدأ ( النساء شقائق الرجال ) ، و تتعامل معهنّ بمباديء  مغلوطة و مزيّفة عقليّا و دينيّا و إنسانيّا .  قتلت زوجها ، الذي خانها مع عشيقته ، و انتقمت لشرفها و عزّة أنوثتها ، و لسان حالها يردّد في سرّها قول أبي الطيّب المتنبّي :

علي فضيل العربي

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ** حتى يراق على جوانبه الدم .

لكنّها بالمقابل ، سعت إلى ترسيم وجودها ، و تأمين حريّتها بوسائل غير شريفة ، و بمبدأ ميكيافيلّي بحت  ( الغاية تبرّر الوسيلة ) . و هذا ما أدّى إلى سقوطها في المحظور ، قبل السجن و أثناءه و بعد مغادرته .    

  حكم  القضاء عليها بـ ( 8 ) سنوات سجنا نافذا ، كعقوبة لها على جريمتها الشنعاء  تلك ، قضت منها ثلاث سنوات ، بفضل عشيقتها و ( حبيبتها ) النقيب  ابتسام  علام ، مديرة السجن ، ثم استفادت من الإفراج المسبق ، نظير حسن سيرتها و سلوكها ، كما كُتب في تقرير الإفراج ، و انتهى بها المطاف حرّة ، طليقة  في بريطانيا ، منتحلة شخصيّة سيّدة مجتمع و أعمال  .

ثنائيّة الصراع بين  الذكورة و الأنوثة :

  يكتشف القاري ، من خلال تتابع  فصول الرواية ، أنّ الكاتبة ذكرى لعيبي ، تثير أزمة  العلاقة بين الرجل و المرأة ، أو لنقل بين الذكر و الأنثى ، في المجتمعات العربية المحافظة خاصة ، و المجتمع العربي برمّته ، من المحيط إلى الخليج . و هي أزمة اجتماعيّة و نفسيّة و ثيوقراطيّة متوارثة أبا عن جدّ ، قائمة على نظرة الرجل الشرقي إلى المرأة الشرقيّة ، تسندها – بقوة – منظومة  العادات الخرافيّة البالية  و التقاليد الأسطوريّة البائدة ، و تغذيها الفتاوي الدينيّة الباطلة . أزمة إلغاء  وجود المرأة و تموضعها في المجتمع الشرقي ، و إنزالها منزلة القطيع السائر خلف الرجل ، و الكائن الثانوي . رغم أنّ كلّ الشرائع السماويّة ، كرّمت المرأة ؛ أمّا و زوجة و أختا و ابنة و عمّة و خالة ، و هلّم جرّا . لكنّ الرجل ( الذكر) الشرقي أبى إلاّ أن يهينها و يحجر عليها حقوقها الفطريّة ، و يغتصب – سرّا و علانيّة – أنوثتها و حرّيتها و كرامها  ، و بحجّم دورها في المجتمع الشرقي ، و يحصره في العمليّة الجنسيّة ، الشرعيّة و اللاشرعيّة ، و يحوّلها إلى آلة نسل و خادمة بيت ، هو سيّدها ، منتحلا شخصيّة  ( سي السيّد  ) كما جاء في ثلاثية نجيب محفوظ الخالدة .

ترصد هذه  الرواية  صراعا عميقا بين الرجل الشرقي  الأرعن ، الظالم و المرأة الشرقيّة المظلومة ، المحرومة من حقوقها الفطريّة . و هو صراع قديم و متجدّد ، متوارث عبر التاريخ ، جذوره تمتدّ إلى الجاهليّة الظلاميّة ، و يستمر في النمو في المجتمع الشرقي ، مجتمع الإماء و الحريم و ما ملكت الأيمان ، حين كانت المرأة سلعة رخيصة ، تباع و تشترى في أسواق النخاسة ، في المجتمعات البائدة – دون استثناء –  حتى في أوربا ، التي انعقد فيه مؤتمر يشكّك و يبحث و يسأل : هل المرأة إنسان أم حيوان ؟ .

   صراع   متطرّف ، علّته الجهل بالمباديء الإنسانية المتعارف عليها شرقا و غربا . لكنّ ما بلفت انتباه القاريء في رواية الكاتبة العراقيّة المتميّزة ” غابات الإسمنت ” ، هو تحميل  الرجل مسؤوليّة  جرائم المرأة  كلّها ، و تبرئة هذه الأخيرة منها . فكلّ السجينات اللائي لقيتهنّ في السجن و موظفات السجن ، و على رأسهنّ المسؤولة النقيب إبتسام علاّم ، هنّ ضحايا سلوكات الرجل و معاملاته الشائنة .        

   الخيانة و الجريمة و الابتزاز  في الرواية :

       منحت  الكاتبة ذكرى لعيبي  في روايتها  ( جريمة الخيانة ) دور المركز ؛ فهي فوهة البركان و بؤرته  التي ينفث  منها حممه  الحارقة ، و في الاتّجاهات كلّها ؛ خيانة الزوج لزوجته ، خيانة رجل السياسة لبلده ، خيانة رجل الأمن  لمهمّته ، خيانة رجل الدين لعقيدته و شريعته ، خيانة الفرد لذاته و قناعاته ، خيانة الحبيب لحبيبته ، خيانة الذكورة للأنوثة ، و هلّم جرّا .. لقد عمدت الكاتبة إلى تبرير جرائم النساء السجينات ، و تبرئتهنّ منها ، و أرجعت مسؤوليّة تلك الجرائم إلى الرجل . الذي وصفته على لسان السجينة  نجاح قائلة :   ”  تبّا ما أتعسنا …هناك فرق كبير بين رجل حقيقي ، و شبه رجل ،  نحن وقعنا في وكر أشباه الرجال ” ص 62 .  فظلم الرجل  الشرقي و رعونتهم و جرمه –  في نظر النقيب ابتسام علاّم – صنعا  مأساة المرأة الشرفيّة . ” الرجال مجرمون و الدليل وجودكنّ بالسجن  ، أو على المشانق ، نحن نقدر أن نكون رجالا و نساء في الوقت نفسه ، كل واحدة هي رجل و أنثى ، فما حاجتنا لهم ؟ ” ص  55 .

فالخيانة  – في نظر السجينات و السجّانات ، و على رأسهنّ النقيب ابتسام علاّم – سلوك ذكوري بحت، و كأنّ المرأة  معصومة منها . و هي نظرة نابعة من نفسيّة مريضة و شاذة . إنّ خوف النقيب ابتسام  من فقدان حبّها الجديد إنعام ، أو خيانتها لها ، و لو بمجرّد التفكير في  الزواج  من رجل ، جعلها تصوّر لها عالم الرجال جحيما لا يطاق ، بينما صوّرت لها علاقتها بها جنّة ستنسيها ( بحيرة الدم ) . و ليتأمل معي القارىء الكريم قول الراوية إنعام عبد اللطيف الحاير . ” أمامي ثلاث سنوات أروّض نفسي خلالها على الحياة الجديدة ، لقد خانني رجل. .. فهل تخونني امرأة ؟  و قد هتفت الليلة، و هي ترتعش فوقي : أحبّك .. أهيم بك .. إنّك لي إلى الأبد  ” ص 53 . و في موضع آخر تصفها، قائلة : ” أجدها تلعب دور الإثنين وفق تتابع زمني : الرجل أو المرأة ، فأصبح أنا رجلا أو امرأة وفق هواها ” ص 54 .  

 هذا  الحوار الذي دار بين إنعام عبد اللطيف الحاير و النقيب ابتسام علاّم :

 – ( ابتسام ) :  أووه صغيرتي الجميلة ، أنت أجمل منّي ، لذلك إذا خنتني مع واحدة سأقتلك

 – ( إنعام ) : محال .

– ( ابتسام ) : تقسمين .

–  ( إنعام ) : أقسم .

–  ( ابتسام ) :  إذن دعيني أخطط لك مستقبلك ، سأريه صورتك .. ستكونين محظيته ..طبعا ذلك مقابل شيء ، لن تمنحيه نفسك مجانا  ، بالمقابل سأتحدّث مع سيادة الوزير ، لتدخلي دورة أمنيّة في الأيام القادمة  ، حتى إذا خرجت فتحت صالون حلاقة ، فتأتي إليك النساء ، يجب أن نعرف كلّ شيء ، زوجات موظفين كبار .. مديرين عامين .. مسؤولين .. ستكونين أكبر من مخبرة .. سيّدة أمن ، و ستملكين صالونا ، و تبقى علاقتي بك ، لا يهمني مع من تكونين من الرجال ، أريدك أن تستغلّيهم ، أو تستغلّي المسؤول الذي ستصبحين محظيته بشطارتك ؛ لكنّك ستكونين لي وحدي ” ص 55 /56 .

 يعكس هذا المقطع من  الحوار ، الذي دار بين النقيب  أبتسام  علاّم و إنعام عبد اللطيف الحاير ( ميساء أدهم عبد الرحيم ) ، ذروة الابتزاز  الشنيع  بجميع صوره . فمقابل حريّتها  ( الإفراج المسبق ) ، تتنازل البطلة  ( الراوية   ) عن مباديء شخصيّتها ، و شرفها ، و قيّم مجتمعها الدينيّة و الأخلاقيّة و العرفيّة . أمّا النقيب ابتسام علاّم ، فعلاقتها بابتسام  لا تتعدّى تحقيق غرضين هما : امتلاك انعام نفسيّا و جسديّا و ليبيديا  لإشباع رغبتها الجنسيّة  الشاذة ، ( السحاق ) ، و توظيف ( في صورة عبوديّة ) لمهمّات التجسّس  القذرة على حياة  أسر المسؤولين  و المدراء و الموظفين الكبار و جمع معلومات عنهم  لابتزازهم بها  في حالات عزمت السلطة عزلهم من مناصبهم أو رفضوا طاعة أوامر رؤوس منتفعة و نافذة و متنفّذة في مفاصل المجتمع  . و هي من أرخص الوسائل التي تستعملها منظومة المخابرات و رجال الأمن في البلاد العربيّة و غيرها من بلدان العالم الثالث و الرابع  ووو .       

       

 لم يرحم المجتمع – بكل أطيافه – البطلة إنعام عبد اللطيف الحاير ( ميساء أدهم عبد الرحيم ) ، و لا زميلاتها السجينات . لم يرأف لحالتها . رغم أنّها ، كانت في موضع الدفاع عن شرف الزوجيّة . ” الناس و الصحف رأوني مجرمة أستحقّ القصاص ، مشفقين على زوجي ” ص 19 . ” أمّا أهلي الذين تخلّيت عنهم و تخلّوا عنّي منذ دخلت السجن ، فقد لاموني على فعلتي ، و حجتّهم ، مادام زوجي وفّر لي السكن و العيش و العمل ، فلأدعه يفعل ما يشاء ، لم يعلق بأذهان الجميع سوى بركة الدم و مشهد القتل الشنيع ” ص 19 .

هذه إذن هي معايير التعايش الأسري ، و بناء الحياة الزوجيّة ، عند هؤلاء الناس المعتوهين . و هي معايير تفضح النفاق الأخلاقي و التناقض الثيوقراطي و الظلم الاجتماعي المسلّط على المرأة الشرقيّة .  شرعوا للرجل حقّ خيانة زوجته ، مادام يوفّر لها  الغذاء  ( العلف )  و  السكن  ( الزريبة ) و العمل.  وفي دستور أعرافهم و تقاليدهم  الميّتة و المميتة ، فإنّه من حقّ امرأة ( القطيع ) ، أن تحاسب زوجها على أفعاله الشنيعة ، و لو زنا بامرأة أمام عينيها . ” لأنّ الأفضل للمرأة وفق العادات و التقاليد و العرف السائد ، أن تلتزم الصمت أمام زوجها في كلّ الأحوال ؛ حين يهينها تصمت ، و إن ضربها تصمت ، أمّا إذا رأته متلبسا بالخيانة و الزنا  فما عليها ، قبل كل شيء ، إلاّ أن تكبت بنفسها و تستر كأنّها هي المذنبة ، و إلاّ ستكون مضغة للأفواه ” ص 27 .

      ما أغرب هذا المنطق الجاهليّ ، و قد كان الرجل الجاهلي أشرف من رجل هذا العصر ، بغض النظر عن  الذكر الجاهلي الذي كان يئد ابنته ، خوفا عليها من السبي . أقول ، ما أغربه من منطق لا تستسيغه النفس الأبيّة ، و لا يتحمّله عقل العاقل .

 فبأيّ شريعة سماويّة ، و بأيّ قانون وضعيّ ، حُقّ للزوج الشرقي  ، أن يعامل زوجته الشرقيّة بأسلوب الغاب الإسمنتي ؟  فهل زوجته لو كانت غربيّة ، أجنبيّة ، بهذا الأسلوب الفجّ ؟ كلا ، لقد رأينا رجالا شرقيين متزوجين بأجنبيات غربيّات ، يدبّون وراء زوجاتهم كالكلاب الأليفة ، المنزوعة السلاسل . و منهم من ارتدّوا عن دينهم ، أو ضيّعوا طقوسه العباديّة اليوميّة ، و تركوا الصلاة و الزكاة و لا الصوم و لا الحج ، امتثالا لرغبات زوجاتهم الغربيّات . فما بال ، هذا الرجل الشرقي  يصول أمام زوجته الشرقيّة الطيّبة ، الشريفة ، الأصيلة ، صولة الأسد خارج عرينه ، و يخفي رأسه أمام زوجته الغربيّة ، الأجنبيّة في الرمل مثل النعامة . و قياس الحال ، أنّه  هزبر  هصور على زوجته الشرقيّة ، و هرّ أجرب أمام زوجته الغربيّة . لقد أسست   الكاتبة معمارها الروائي ” غابات الإسمنت ”  و أقامته على تيمتي الكذب الأكبر  و  الخيانة ( لأنّ الخيانة أصلها الكذب )   ، ( خيانة الأمانة ، خيانة الزوج لزوجته ، خيانة الزوجة لزوجها ، خيانة البلد ، خيانة الوظيفة ، خيانة الذات ، خيانة الدين ، خيانة الأخلاق ،  الخ ….) . فكان أن انتقلت الخيانة من سلوك فرديّ غير نمطيّ ، إلى  ظاهرة اجتماعيّة ، نمطيّة في دواليب المجتمع الشرقي .  و قد عبّرت عن ذلك  مديحة لصديقتها  إنعام عبد اللطيف الحاير ( ميساء )  قائلة :    ”  بعد مضيّ سنوات حبسي ، و من خبرة تواجدي فوق منصّة الحياة  ، اكتشفت أنّنا نعيش في مواجهة  تسونامي الكذب الأكبر ، رجل الدين المزيف يكذب .. و السياسي الموالي لغير بلده يكذب ..و المثقف الذي لا يحترم نفسه .. و غير المثقف الذي يتّخذ من الكذب باب سخرية .. و الفقير و الصغير و الكبير ..حتى أنا و أنت نكذب على بعضنا، في بعض التفاصيل الخاصة ” ص 133 .   

في السجن : تحوّل مفهوم السجن في هذا المعمار السردي ، من صورته التقليديّة ، المتعارف عليها لدى العام و الخاص ؛ مؤسسة عقابيّة تأديبية لإعادة التربيّة و الإصلاح و تقويم السلوك المنحرف ، إلى عالم آخر أكثر خطورة على الفرد و المجتمع . مكان لصناعة الفساد ( شذوذ جنسي ( السحاق ) ، استهلاك المخدّرات ، التجسس ، الابتزاز ، المتاجرة بالجسد ، استغلال الجنس .. ) . و هو – لعمري – انحراف عن الرسالة التربويّة المنوطة بها . فما فائدة السجن ، إذا خرج منه الفرد أكثر خطورة على المجتمع ؟ ما جدواه إذا لم يقوّم الفاسدين و المجرمين و المنحرفين و الخائنين للأمانات ، ليقي المجتمع من شرورهم ؟

 سيميائية  السجن في رواية ” غابات الإسمنت ” أخذت بعدا نفسيّا ، و تعدّت جغرافيّة المكان . فالسجينات و السجّانات كلهنّ ، يعانين من وطاة السجن النفسي . فمثلا : الراوية إنعام عبد اللطيف الحاير ( ميساء أدهم عبد الرحيم ) سجينة ضميرها  الغافي تارة و اليقظ تارة أخرى  ، سجينة جريمتها ( قتل الزوج و عشيقته ) ، تلاحقها ليل نهار ، في اليقظة و الأحلام ، سجينة ذاكرتها الملأى بالأحلام المعسولة ،  سجينة شذوذها الجنسي ( السحاق ) مع النقيب ابتسام علاّم و تعلّقها الشديد بها ، سجينة الابتزاز ، سجينة كرهها للرجل ، سجينة عالم التجسس الذي أولتها إليه ( حبيبتها ) ابتسام علاّم . سجينة اللاإرادة . أمّا النقيب ابتسام علاّم ، فهي السجّانة و السجينة في آن واحد . ذات شخصيّة مريضة ،  متناقضة ؛ فهي في نظر السجينات ( داخل السجن )  امرأة القانون و المسؤوليّة  و الاستقامة ، هي الآمرة الناهيّة ، الساعيّة لخدمة السجينات و التعاطف معهن و مساعدتهنّ ، هي بمثابة الأخت الكبيرة و المربيّة . لكنّ الحقيقة غير ، و ما خفيّ من شخصيتها لا تعرفه إلاّ إنعام عبد اللطيف الحاير ( ميساء أدهم عبد الرحيم ) و أمثالها . النقيب ابتسام علاّم سجينة شذوذها و هيامها ببنات جنسها منذ طفولتها . هي ، كما قالت عن نفسها : ” إنسانة مشوّهة من الداخل ”  ص 67 . و تروي أيضا عن تجاربها   الشذوذية السابقة  قائلة  : ”  منذ الصغر أحسست بميول لجارتنا التي كانت رفيقتي ، كنت أشتهي أن أقبّلها و في يوم اكتشفت أنّها .. ارتاحت للأمر ” ص 66 . ثم تسألها حبيبتها إنعام : ” أطنّ أنّك بقيت طويلا معها ؟ ” ص 66 . فتجيبها النقيب ابتسام : ” فترة ، ثم مارست سنة مع صديقتي في الثانوية التي انتقل أهلها الى مقاطعة ، ثم مع طالبة أخرى . استمرت علاقتنا ثلاث سنوات و انتهت بزواجها ” ص 66 .

  في غيهب السجن  التقت إنعام عبد اللطيف الحاير ( ميساء أدهم عبد الرحيم ) مجموعة من النسوة السجينات (  المعلّمة مديحة نعمان ،  نائلة العاصي ، أم محمد العجوز ، قارئة الكفّ ، أم كامل ،  نجاة النشالة ، سليطة اللسان ، أشواق ، أم نظيم ، أم جبّار ، كريمة المحكومة بالإعدام ، رهام سهيل ، ذات شموخ ، و أخريات  ) ، كلّ امرأة  من هذه النسوة  تحمل مأساتها الاجتماعيّة و معاناتها النفسيّة ، لكنّهنّ  تجمعهنّ هموم متشابهة ، ظلم المجتمع الذكوري لهنّ . قضاياهن مختلفة ، ( جرائم قتل للأزواج الخائنين  ، و الاختلاس ، و المتاجرة بالمخدرات ، و البغاء و غيرها )  . و هذه رهام سهيل ، السيّدة الجميلة ، الشامخة ، ذات الثلاثين من عمرها  ، مثلا ، سُجنت في قضيّة اختلاس . ” كانت تهمتها الاختلاس ، سيّدة ذات موقع مهم .. مديرة أحد الأقسام في بنك ، راودتها نفسها أن تصبح مليونيرة بين عشيّة و ضحاها ، فوقعت في الخطيئة بتحريض من هيئة مستشارين فاسدين ” ص 124 . و هاهي إنعام عيد اللطيف الحاير ( ميساء ) ، تعود إلى وعيها ، لحظة ، و تسأل نفسها  ،  و هي تشاهد تلك الطقوس الشيطانيّة ( قبائح بطقوس و معتقدات غريبة )   التي مارستها طائفة من بنات  ذوات  ، قائلة : ” و رجعت إلى نفسي أحدّثها : و أنت ما تفسيرك للقبائح التي تمارسينها مع سيّدة مثلك ؟ ” ص 154 . فتجب و تبرّر ذلك بقولها : ” لكنّهن يمارسن معصيّة و شركا …بينما أنا أمارس حقّي في الحب دون خوف ” ص 154 . و تضيف  ، و قد صحا ضميرها  فجأة و أنّبها : ” لا تختلفين عنهن بشيء ، و لا  تختلفين عن أخريات يبعن أجسادهنّ و قلوبهنّ  مقابل المال ، أو اللائي يقنعن أنفسهنّ بالشرف بعلاقات مشبوهة تحت مبدأ التضحيّة من أجل الغير جميعكنّ  بنات هوى و عتمة و ضلال  . ” ص  154 . و تواصل إنعام عبد اللطيف الحاير ( ميساء أدهم عبد الرحيم ) ، تلقّي ضربات صحوة الضمير في لحظة صفاء النفس ، فتعترف لنفسها أنّها غارقة في عالم الرذيلة من رأسها إلى أخمص قدميها . فتردّد بنفس نادمة ،  ضامئة إلى الانعتاق من ظلمة الشذوذ الجنسي ، قائلة :  ” يا ربّي ، كيف أقحمت نفسي في جريمة ضد الطبيعة ؟ سلوك يدينه مجتمعي و ديني ؟ هل أنا مريضة ؟ ربّما مريضة لأنني أشعر أنّ علاقتي مع ابتسام شيء لا مفر منه ، علاقتي تولّدت من مخاوف الفشل و الخيانة ، خيار جنسي متاح دون عواقب وخيمة ، و بغض النظر عن المحرّمات ، فأنا اخترت الخيار الأكثر إرضاء بالنسبة لي  بعد جريمة قتل و سجن و سمعة فرضها عليّ المجتمع . من دون ابتسام ماذا كنت أعمل ؟ كيف أواجه الحياة ؟ ص 160 .

 

  أمّا مديحة  ، فقد كانت ضحيّة زوجها السياسي المعارض ، و ضحيّة نظام سياسيّ استبدادي . تخرج من السجن بريئة من تهمة المخدّرات ، لتصيح سيّدة اعمال ، و صاحبة ” معمل خياطة ينبض بالحياة و يصب في عصب البلد  .. مديحة هي المديرة ، و هي التي تروّض خياطات  و مهندسات  مكائن ليرافقن مسؤولين كبار و يدخلن البيوت بمهام أخرى .. مربيات .. سكرتيرات . ” ص 134 . أما كريمة ، الأم لولدين  فقد نفّذ فيها حكم الإعدام ، و لم يُقبل طعنها لتخفيف حكمها ، و لعبت الاعتبارات  العشائريّة و الأسباب غير القانونيّة دورا في إعدامها . ” في قضية كريمة اعتبارات قانونيّة و عشائريّة  ، الدولة نفسها لا تتحكّم بها ،  ألم تري أنّي لم أخرجها بحجة المرض أو التحقيق لتبيت مع مسؤول له سلطة على القضاء ، لقد هان عليّ أن تقضي ليلة مع رجل من دون مقابل و هو حياتها ” ص 81 .  إنّ ما يؤكّد استشراء الفساد في جميع مفاصل السلطة الحاكمة ، و خصوصا جهاز القضاء ، هو غياب الأحكام العادلة . و الغريب – فعلا – هو حكم الإعدام على السجينة كريمة ، بسبب تهمة ملفّقة من زوجها .

و هذه ضحيّة أخرى من ضحايا الذكورة الشرقيّة ، إنّها السجينة نجاح  ، التي اتّهمت بالنشوز و الزواج برجل ثان ، و هي  في  عصمة زوجها الأول الذي طلّقها  قبل سنة ، و ادّعى أنّه أعادها قبل انتهاء مدّة العدّة . ” كانت ضحيّة لؤم زوج احترف الكذب و النفاق ” ص59 . ” طلّقها و تركها مدّة فتزوجت بعد سنة من الطلاق . لكن زوجها أرجعها قبل انتهاء مدّة العدّة من دون أن تدري ، و دون أن يخبرها أنّه أعادها . فأقام عليها دعوى فحوكمت بقضية الزواج من اثنين بوقت واحد . ” ص 59 .   

إذن ،  كلّهنّ ضحايا ثقافة شرقيّة تقليديّة ظلاميّة ، و نظرة دونيّة ، و  تأويل ظلامي للدين . تتساءل الراوي  إنعام عبد اللطيف الحاير ( ميساء ) متعجّبة ، و محتجّة و بحنق و غرابة  . ” أي دين  هذا الذي يسمح للرجل أن يطلّق زوجته ثم يعيدها لعصمته دون سؤالها ؟ دون علمها  . دون رضاها ربّما  . هل نحن نعيش بمعزل عن العالم أم نسكن كوكبا آخر ؟  ” ص 59 .

 ثقافة باليّة الأفكار ، ميّتة ، مميتة ، لا تصلح لتسيير قطيع من النعاج ، ثقافة لا تعترف بالمرأة ككائن مساو للرجل ، في الجزاء ، خيره و شرّه . فإذا خان الرجل زوجته و زنا ، فلا يحقّ للمرأة أن تحتجّ ، بل من واجبها الصمت و الكتمان و الرضا . أمّا إذا خانت هي زوجها و وقعت في جريمة الزنا ، فمن حقّ الرجل و واجبه  أن يقتلها دفعا للعار و دفاعا عن الشرف ، أو يطلّقها او يشتكيها للقضاء في أحسن الأحوال . و كأنّ العار لصيق بالمرأة فقط ، و الشرف للرجل دونها .  و السجن ، في حقيقة غاية وجوده ، هو مؤسسة عقابيّة و ردعيّة و تربويّة . لأنّه بُني ليحمي المجتمع المدني من المجرمين و الفاسدين و الخارجين عن القانون و المتمرّدين على النسيج الاجتماعي السليم . و بالتالي فهو وسيلة و ليس غاية . هدفه إعادة السجين إلى وعيه و استقامته و تقويم سلوكه ، لدمجه في المجتمع ، لأداء رسالته الانسانيّة في جوّ من الأمن و الطمأنينة و الصدق و القناعة   . غير أنّنا نلاحظ –  كما روت لنا البطلة إنعام عبد اللطيف الحاير –  أنّ السجن  قد تحوّل إلى بؤرة  فساد ، و ليس عالم إصلاح . فيه وقعت البطلة إنعام عبد اللطيف الحاير ، ضحيّة شذوذ جنسي  شنيع ( السحاق ) ، بسبب جمالها الذي أبهر النقيب ابتسام علاّم ، مسؤولة السجن . و لم تمانع في ممارسة السحاق  مع الضابطة ، في بيتها . حيث كانت تأخذها إليه ، و تمارس معها شذوذها الجنسي . إنّ هذا السلوك المقزز ، سببه ، كما تقول البطلة إنعام و الضابطة ابتسام  ،  كرههما للرجال  . و هكذا تقع الضابطة ابتسام في حمأة الخيانة . حيث تخون وظيفتها و مركزها ، من كونها امرأة تمثل القانون و  الدولة ، و تحرص على تنفيذه و حمايته . إلى امرأة خائنة . لكنّ خيانتها للقانون و الأخلاق سببه الرجل الشرقي ، و بالتالي فهي بريئة من سلوكاتها و أفعالها الشاذة . ” ماذا نفعل ؟ أنا عاطفتي معك ، مشاعري دلتني على نساء مثلي . و عندما تحرّكت نحو رجل أحببته و غدر بي ، تيقنت أنّهم وباء ، و ثبت لدي أنّ مشاعري الحقيقية لا بد أن تكون مع بنات جنسي ، حتى وصلت إليك . ” ص 158 .

 السياسة و الخيانة و الجنس  :

و في الرواية ، ارتبطت السياسة بالخيانة . فالمسؤولون  يسوسن البلد ، و يتحكّمون في مصيره و خيراته انطلاقا من الغرف المظلمة ، لصالحهم و لمصلحة أزواجهم و أبنائهم و عشيقاتهم .  لهذا السبب  زرع جهاز الأمن جواسيسه في كلّ مكان ، و خاصة أماكن تواجد المسؤولين الكبار . تقول الراوية إنعام عبد اللطيف الحاير ( ميساء أدهم عبد الرحيم ) عن وظيفتها الجديدة  ، التي كلّفتها بها النقيب إبتسام علاّم و عن منزل رئيس غرفة التجارة  : ”  هذا المنزل للعهر و عمل الصفقات ، وظيفتي أن أنقل للسيّدة النقيب ما بداخله ” ص 118 .  و تصف النقيب ابتسام علاّم رئيس غرفة التجارة  بقولها : ” الوقح يعقد صفقات لدول أخرى بأرباح من الطرفين ”  ص 120 .    

انتحلت الراوية إنعام عبد اللطيف الحاير (  ميساء أدهم عبد الرحيم ) – و هي المرأة القاتلة لزوجها و عشيقته و العاهرة و الشاذة جنسيّا –  دور الجاسوسة و المخبرة . و هو دور حرّكته نزوات الابتزاز ، ” لا تظني أنّك جاسوسة أو مخبرة .. أنت مثلما نقول رجل أمن ، سيّدة أمن ، و قد جعلت شعبة الأمن الوطني  تتطلع على أسرار كثيرة  ، غير العري ، سيفاجئون السيّد رئيس غرفة التجارة بها حين يشعرون أنّهم لا بد من أن يزيحوه ” ص 120 . ” عليّ ان أثبت كفاءتي ؛ أنا السجينة الموظفة ” ص 107 .   هكذا تحوّلت إنعام عبد اللطيف الحاير ( ميساء أدهم عبد الرحيم ) بسبب الابتزاز المالي و الجنسي و الوعد  بالإفراج المسبق ، من أجل الحريّة ،  ” حريّة مغمّسة بتجسس و زنا و محرّمات ” ص 211 ،  بعد تخفيض المدّة إلى ثلاث سنوات سجنا فقط ، بدل ثماني سنوات . إلى عنصر من عناصر الأمن لحماية البلد من الخيانة و الفساد السياسيين . و هي لا تكاد تصدّق . ( حاميها حراميها ) . إنّ البلد ، أي بلد ، في حاجة إلى أناس شرفاء لحمايته ؛ شرفاء في  الوطنيّة و العرض و الدين و الفكر و الثقافة . أمّا أمثال النقيب  ابتسام علاّم و إنعام عبد اللطيف الحاير و مثيلاتهما  من عناصر الأمن و المخبرين و المخبرات ، فهم شخصيات مريضة ،  في حاجة ماسة إلى من يحميهم  من ذواتهم ، و يعالجهم  من أمراضهم النفسيّة الخطيرة . هل من المعقول ، أن تدير امرأة ( ضابطة ) ( كابتسام علاّم  ) ، سحاقيّة ( من السحاق )  ، شاذة جنسيّا  ، مؤسسة عقابية لإعادة التربيّة ؟  هل من المنطق أن تتحوّل  امرأة – كإنعام –  من مجرمة ، قاتلة ، عاهرة ،  شاذة جنسيّا ( سحاقيّة ) – بين عشيّة  و ضحاها – إلى جاسوسة أو مخبرة لمصلحة البلد ؟   إنّه لأمر  عجاب يشيب له الولدان .   

 

  خاتمة :

           تقّول الكاتبة الروائية  ذكرى لعيبي ،  بعد الإهداء مباشرة : ” من يعتقدون أنّ الأدب الجريء إثارة للغرائز؛ و ابتذال و خدش لحياء مصطنع ؛ و المتطرّفون ، المتشدّدون ، القريبون من ديناميت السياسة ؛ أنصحهم بعدم قراءة هذه الرواية ” . و قد ذكّرتني هذه النصيحة ، التي أسدتها الكاتبة ببعض القنوات التلفزيّة ، التي تعرض  أفلاما سينمائيّة ، على الجمهور ، و تضع ملاحظة { ممنوع  على أقل من  10  أو من  18  سنة ) . و هي تعتقد – واهمة  –  أنّ نصيحتها  ستطاع و يؤخذ بها  . إنّ الأدب الجريء ، لا ينحصر في الجنس فقط  ، رغبة في إثارة الغزائز  ( الليبيدو ) ، بل إن الكتابة  الإبداعيّة في حدّ ذاته عمليّة  جريئة ، عندما يمارسها المبدع بعيدا عن خيانة ضميره و مجتمعه و أحلامه . أمّا الذين يضعون القيود و الأغلال في معصميّ الكاتب ، فإنّهم يحرمون أنفسهم – قبل الكاتب – من الحياة الإنسانيّة الحرّة ،  الصادقة .     

        و ختام القول ، فإنّ  رواية ” غابات الإسمنت ” ، من بنات  أنامل كاتبة عراقيّة شرقيّة ، عاشت طفولتها و شبابها في خضمّ مجتمع شرقيّ ، أنهكه الجهل و التخلّف و أدمته التقاليد البائدة ، و العادات البالية ، و الأزمات النفسيّة  و الاجتماعيّة و مزقت  نسيجه الأزمات السياسيّة و الحروب الأهليّة و  الإقليميّة و الإثنيّة  .  ( و شهدت شاهدة من أهله ) . رواية ، جمعت فيها الكاتبة بين ، المعقول و اللامعقول .  بين الجرأة و الحريّة ، بين المسكوت عنه و المفصَح عنه في واقع المعيش ، غلب عليه السواد . هي رواية فضحت زوايا مظلمة ، جدرانها الاستبداد ، و سقفها الفساد ، و أرضيتها الاستعباد ، و حرّاسها  الخونة  و المال القذر و الجنس الحرام . لكنّها ، بالمقابل ،  ليست مرآة للمجتمع الشرقي بكل أطيافه و أعماقه و أزماته المختلفة ( رواية نمطيّة )  –  فكم في الشرق من مساحات مضيئة ، يغار منها  الغرب  –  و إنّما هي غوص ( جريء ) في بعض أدغاله الاجتماعيّة و النفسيّة الخفيّة ، و تعريّة  لبعض الطابوهات  المسكوت  عنها خجلا أو خوفا أو لامبالاة . و هي ، و إن كانت في المجتمع الشرقي من الطابوهات الممنوع الجهر بها ، فهي في المجتمعات الغربيّة أشدّ استفحالا  ، و  قد انفلتت من قيود الخفاء و التحفّظ ، و خرجت إلى الشارع و العلن ، و لعلّ تنامي ظاهرة المثليّة الجنسيّة خير دليل على الانهيار الأخلاقي عند طائفة من  الغربيين ، الخارجين عن الفطرة الإنسانيّة السليمة . إنّ الحريّة مكسب إنسانيّ عظيم  ، لا غنى عنه ، في مسار الحياة البشريّة . حتى الطبيعة لا يمكنها  الاستغناء  عنها . و لكنّ الحريّة دون ضوابط أخلاقيّة و قيّم إيجابيّة  و مسؤوليّة راشدة ، تفضي إلى عوالم الفوضى ، و تقود البشريّة  إلى الفناء عاجلا أم آجلا  .

      و من إيجابيات هذه الرواية ، كشفها للمستور و الخفيّ . فإنّ قصص السجون في العالم العربي ، و في العوالم الشرقيّة و الغربيّة ، أغرب من حكايات ألف ليلة و ليلة ، قصص منحطة  ، لا يكاد العاقل تقبّلها و تصديقها  ، لكونها ترتقي إلى عالم الخرافات و الأساطير و أحلام اليقظة . و حسب ، علمي ،  فإنّ رواية  ” غابات الإسمنت ” لذكرى لعيبي لها فضل السبق  الأدبيّ و الإبداعيّ  في ساحة الرواية العربيّة المعاصرة ،  لتناول ( طابوهات السجن )   في مجتمع عربي لايقترب منه الإعلام أو بشكل أدق ” يخشاه” .

إنّها  رواية اتّسمت  كاتبتها بالجرأة الأدبيّة و الفكريّة و الأخلاقيّة ، انطلاقا من التزامها بالشجاعة الأدبيّة ،  في قول الحقيقة ، و عدم خيانة مجتمعها و قرّائها ، من مختلف القناعات الايديولوجيّة  .

و إذا تفحصنا أسلوب الروائيّة ذكرى لعيبي ، في هذه الرواية ، التي بين أيدينا ، وجدناها أسلوبا أقرب إلى أسلوب التحقيق الصحفي ، أسلوب سهل ممتنع ، فيه من السلاسة و الإنسيابيّة ما يدفع القاريء و يغريه لمواصلة قراءة الرواية ، و ربّما ، يدفعه شغفه بها إلى إعادة قراءتها .      

      و مهما قيل أو كُتب عن رواية ” غابات الإسمنت ” للكاتبة العراقيّة ذكرى لعيبي ، من نقد ، سواء أكان مدحا أم ذمّا . و مهما تعرّضت إلى النقد اللاذع ،  فإنّ هذه الرواية ، المتخمة  بالرموز و الأحداث ( المدهشة  ) ، قد باحت للمتلقي العربي ، بكلّ توجّهاته الإيديولوجيّة ، بما لم تبح به شهرزادُ  لشهريارَ . و لم تطق السكوت عن الكلام  المباح و اللا مباح  في هذا الزمن العربي المترهّل .

  

بقلم : الناقد و الروائي : علي فضيل العربي – الجزائر –

 

 هامش :
*  ذكرى لعيبي :  كاتبة و  روائيّة و قاصة و شاعرة عراقيّة  لامعة و غزيرة الإنتاج  الإبداعي . من مواليد  ميسان  .  هاجرت من العراق عام 2000 م  ، و هي تقيم بين ألمانيا و دبي . عضو في كل من : إتحاد كتاب وأدباء العراق ، و اتحاد كتاب وأدباء الإمارات ، و اتحاد الصحفيين العراقيين و اتحاد الصحفيين والكتّاب العرب في أوربا. و دارة الشعر المغربي ومؤسسة حميد بن راشد النعيمي لجنة الطفولة والشباب( عضو سابق) مؤسسة المثقف العربي/ سيدني – أستراليا ، مؤسسة وشبكة صدانا الثقافية / نائب رئيس إدارة مجلس المؤسسة لجنة دعم كتاب الطفل / القيادة العامة لشرطة الشارقة / عضو مؤسس نادي دبي للصحافة . بيت الشعر في الشارقة.
من إصداراتها :  لقد جاوزت إصداراتها 36 منجزا أدبيا ، توزّع  بين مجموعات قصصيّة للكبار و للأطفال و روايات  و دواوين شعريّة و نصوص  مفتوحة ، و كتب مشتركة )  .   نذكر على سبيل المثال ، لا الحصر ، مجموعات قصصيّة ( الضيف ، حبّ أخرص ، ثامن بنات نعش ، رسائل حنين ، للخبز طعم آخر  )  ، إضافة إلى مجموعة من الروايات ( خطى في الضباب ، يوميات ميريت ، غابات الإسمنت ،) كما لها إسهامات كثيرة  في أدب الطفل ( شمس و رحلة الأمس ، حكاية الطاووس و الثعلب ، اللصوص و القلم المعطّر ، قطرة الماء السعيدة ) ، أما إسهاماتها الشعرية ، فنذكر لها ما يلي : ( امرأة من كوز و عسل ، يمامة تتهجّى النهار ،  بوح في خاصرة الغياب ) .أما الكتب المشتركة ، فنذكر  : ترانيم سومريّة  المشتركة ، العبور إلى أزمنة التيه ، حكايات ميشا ) و غيرها من الكتب .
 لها لقاءات و أمسيات أدبيّة  و شعريّة في كل من  :
معرض الشارقة الدولي للكتاب .
مهرجان الشارقة القرائي للطفل .
إتحاد كتاب وأدباء الإمارات .
جمعية المثقفين العراقية / مالمو- السويد
النادي الثقافي العربي / الشارقة
قناة الشارقة الفضائية .
قناة الاتجاه العراقية .
قناة الشرقية من كلباء – هيئة الشارقة للإذاعة والتلفزيون .   
** ميسان : إحدى محافظات العراق في شرق البلاد على الحدود الإيرانية ، عاصمتها العمارة ، الواقعة على نهر دجلة . و قبل عام 1976 م ، كانت تُعرف  بمحافظة العمارة .

 

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *