(ثقافات)
قراءة في كتاب الاستشراق لسعيد: عالم واحد قابل للقسمة
مراجعة: توماس م. غرين*
ترجمة: محمد نور النعيمي**
يمكن وصف الموضوع الأساسي لكتاب البروفيسور إدوارد سعيد، الاستشراق، بقوة النشاط البحثي على الرغم من أن هذه المقولة، كما نوقشت هنا، قد لا تريح العديد من القراء الأكاديميين. فالاستشراق كان وما يزال فرعاً من فروع الدراسة التي أُصيبت مناهجها وفرضياتها المستخدمة بعدوى فهمِ الغرب لآسيا وشمالِ أفريقيا، وأثَّرت تلك العدوى تبعاً لذلك بكل أشكال الاتصال، بما في ذلك أشكال الاتصال السياحية والصحافية والعسكرية والتجارية. فالمستشرق كان قد أدلى كعادته برأي مُعَمَّمٍ عن “الشرق” (وكان مصطلح “الشرق” يفرض تجانسَ اختلافات كثيرة) ملؤه التعالي والتلاعب الماكر في الحقائق والارتكاز على النص، وهو رأيٌ بعيدٌ عن الواقع الإنساني، مدعومٌ بيقين كافٍ ناجم عن التفوق الأوروبي، ومشوبٌ بتصنيفات الفكر الغربي. فعلى الرغم من التوقع المسبق لوجود مثل هذا الرأي الاستشراقي عبر التاريخ الأوروبي عند شخصيات متنوعة مثل إسخيلوس Aeschylus ودانتي Dante ودي هربيلوت دي مولينفيل d’Herbelot de Molainville من أواخر القرن السابع عشر، فإنَّ حركة الاستشراق الحديثة بدأت مع سلفستر دي ساسي Silvester de Sacy في أوائل القرن التاسع عشر ومع الدراسات الفرنسية المنتظمة لمصر التي أمر بها نابليون Napoleon. إن نوع السلطة التي لا تأخذ مشاعر الآخرين بالحسبان والممزوجة بالعداء وحتى بالاحتقار الذي يمكن رؤيته في الاستشراق المبكر، حسب رأي سعيد قد تحجَّر عبر مجموعة من القوانين التي لا يرقى إليها الشك لتُسَوِّغ كلَّ أشكال الاستغلال. فالحقيقة السائدة في نهاية القرن الماضي هي أن “كل أوروبي كان بالنتيجة عنصرياً وإمبريالياً، وبصورة كلية تقريباً متمركزاً عرقياً في كل ما يقوله عن الشرق”.

إنّ قراءة الأعمال التي أنتجها مثل هذا الموقف يعني أنّك تتعلم منها أكثر حول الغرب من تعلمك حول الشرق، على الرغم من أنّ العلماء قد نجحوا أحياناً في إلقاء بعض الضوء على التاريخ واللغات والثقافة الشرقية. وعلاوة على ذلك فإنّ حقد التمركز العرقي الاستشراقي ما يزال يُسمِّم حتى اليوم المواقف الأكاديمية والشعبية العامة منها والخاصة بطرق يوثقها سعيد بتفصيل تام.
إنّ جدل سعيد مقلق لأنّه في واقع الأمر مكتوبٌ بذكاء وسعة معرفة وحماسة، ولأنّه ببساطة يُعَدُّ مختارات مقتطفة من ملاحظات وتحليلات و “تفاسير” أوروبية متغطرسة عن ثقافاتٍ غيرِ أوروبية، ثم إنّ قراءة كتابه هذا تُشكِّل قراءةً مؤلمة. وبعد سعيد سيصبح من العسير على الباحثين حتى في أكثر فروع المعرفة تعقيداً أن يتعاموا عن المضامين السياسية للمبادئ التي يتبنونها في أعمالهم. فعلى سبيل المثال سيمعن مدرِّس الأدب النظر ملياً بافتراضات “الأدب العالمي” الممَثَّلة بمعظم الكتب المدرسية المخصصة لذلك الحقل الواسع، أو أنه سينساق على مستوى التأويل النصي إلى التفكير في الكيفية التي تقي فيها القراءة الحديثة الساخرة لكِتاب الـ يوتوبيا Utopia القارئَ البرجوازيَ من الشيوعية المبكرة عند مور More. ومع ذلك فإنّه من الخطأ اعتبار جدل سعيد برغم إلحاحه وعلمه جدلاً موضوعياً واضحاً نازعاً الغموض عن موضوعه. فمؤلفه عربي فلسطيني قد عانى شخصياً من الإجحاف الغربي مما جعل غضبه يُلهِب تحليله وفي بعض الأحيان يجعله ضبابياً. إنَّ تفحصاً موضوعياً [لكتاب] “الاستشراق” قد يكون شيئاً مفيداً إذا ما حصل ولكن ما نحصل عليه، كما في حالة سعيد، هو نتاج ملتهب من الصراع الثقافي ودلالة على تسببه في الشقاق وحتى يمكن اعتباره مثالاً مضاداً من أمثلة سوء الفهم.

والمفارقات المتضمّنة في إعطاء الكتاب أمثلةً غيرَ عارِفة بمقولته جديرة بإمعان النظر فيها لأنها تُعمِّق وتعقِّد المشكلة الأساسية التي يُبَسِّطها غضب المؤلف. بدايةً، ثمة مفارقة متأصلة في استخدامه للتصنيفات الاستشراقية المزعومة ثم زللـه ووقوعه في مطب الإشارات المعَمِّمَة عن “الشرق” و “العرب”؛ فعلى الرغم من أنه يرثى للتعارض الثنائي “الصارم” بين “لنا” و”لهم” وبين السيد والمسود وبين أعراق متقدمة وأخرى متخلفة، فإنه ذاته يرتد ليسقط في فخ تلك التعارضات عندما يشير في بعض المناسبات إلى حقائق تاريخية يُفترَضُ أنها بعيدة عن التشويه. “لقد سيطر الإسلام خلال أوج قوته السياسية والعسكرية من القرن الثامن إلى القرن السادس عشر على كل من الشرق والغرب ومن ثم تحرك مركز القوة غرباً والآن في أواخر القرن العشرين يبدو أن ذلك المركز يعود ثانية باتجاه الشرق”. إن وصف الإمبراطورية العثمانية بــ “المريض الميؤوس من حالته” في أواخر القرن التاسع عشر هو وصف يمكن أن يثير امتعاضاً كبيراً لو أن أوروبياً تفوَّه به عن بلد إسلامي. إنّ النزعة الأوروبية لتشويه ما تظن أنها تراه يجد صورة مشابهة له في إعادة صياغة سعيد الاختزالية لشواهده الاستشراقية العديدة التي تشكل في حد ذاتها إداناتٍ دامغةً بما فيه الكفاية. لقد كتب أحد العلماء الإنكليز عن الحضارة الإسلامية قائلاً: “إنه من الخطأ افتراض أن المشاعر الدينية الأصيلة تكمن في صميم كل شيء يسوِّغ نفسه باتخاذه شكلاً دينياً”. يصبح هذا القول عند إعادة صياغته “بعبارة أخرى كلُ المسلمين منافقون بالضرورة”. ثم ما زال ثمة مفارقة أخرى تكمن في الميل الضمني وغير المقصود والواثق من نفسه لاختزال استقلالية الثقافة العربية المعاصرة. إن سعيداً يكتب بشكل بليغ عن القيم التجارية المذلَّة وعن الصور الرائجة عن الشرق التي يبثها باحثو الجامعات ووسائل الإعلام الأمريكية، قائلاً: “الشرق الحديث … يشارك في شرْقنة ذاته”. لكن تبدو النتيجة الطبيعية الغريبة لهذا الشرح وكأن مضمونها هو أن الغربيين يمكن أن يَختَزِلوا ولاء الآخرين الإثني إذا ما اختاروا ذلك. والسؤال الذي يطرحه سعيد حول ما إذا كانت التصنيفات العرقية والدينية هي “تعريفات مفيدة للتجربة الإنسانية”، يُطرَحُ وكأنّ حركة القومية العربية هي في أساسها نتيجة لشارع ماديسون Madison أو لــــ تاريخ كامبريدج عن الإسلام. “ومن غير المهم كثيراً في فهم السياسة المعاصرة أن تعرف أن x أو y محرومان بطرق معينة ملموسة جداً، أو أنهما مسلمان أو يهوديّان؟”، ومهما يكن الجواب عن هذا السؤال، فإنه من الواضح والمهم للكثير من المسلمين اليوم، أنهم مسلمون. وإذا افترضنا أن هذا الأمر ما هو إلا تلفيق غربي أساساً، فإن ذلك يعني أنه انعكاس للوعي الذاتي الإسلامي الذي لن يشعر من أجله قادة جامعة الدول العربية، من بين الآخرين، بالامتنان.
