التشكيلة والروائية دالندا الحسن.. تقاوم طمس الهوية بإحياء التراث

لوحاتها تتكئ على حكايات الجدات والطفولة

دالندا الحسن.. تقاوم طمس الهوية بإحياء التراث

محمد العامري

 

تقدم الروائية والفنانة (دالندا الحسن)، مساحة جديدة في سياق السرد البصري، الذي يتعالق مع ما تكتبه من رواية، لها أبطالها وأمكنتها التي تعبر أزماناً بعيدة، تلك اللوحات التي اتكأت على حكايات الجدات وحكايات الطفولة، فكل ما فيها من مخيلة طازجة، تعيدها (دالندا) لنا عبر عناصر الفعل البصري، الذي يأخذ عيوننا نحو حكاية مخزّنة في ذاكرة الطفولة..

خزّان الحكايات التي كوّنت مخيلتنا وأعطتنا قيمة جمالية، لم تزل تعيش معنا عبر الاستلذاذ بالتذكر على صعيد المبصور والمكتوب. هي رسالة أخرى من رسائل المقاومة، التي تذهب عبرها (دالندا) لإحياء التراث الشفاهي الفلسطيني، كجزء من مقاومة طمس الهُوية، الهوية التي تم استهدافها استهدافاً ممنهجاً لطمسها، فكانت (دالندا) بين منظومة كبيرة من الفنانين، الذين انتهجوا نهج المقاومة عبر الفن.

فجاءت لوحاتها لتجمع بين مسارين؛ مسار اللوحة المعاصرة، ومسار المنمنمة، أو المخطوط العربي والإسلامي، هذا المزج جاء من خلال مرجعيات الفنانة في دراستها لفن المنمنمات، ووظفت تلك المهارة لتخرج علينا بعمل يمثل صفات جديدة، والضلع الثالث في عملها الفني، هو ضلع المخيلة في الحكايات الشعبية، التي بنت في سياقها مخيلتنا العفوية، حيث تظهر الوحدات الزخرفية بحياتها المختلفة عن الزخارف التقليدية، وكذلك طبيعة بناء اللوحة في التعامل مع الفراغ، كمساحة تنسجم مع العناصر، وتعطيها قيمة مهمة في حضورها وحوارها، بين الأشكال والعناصر المختلفة في اللوحة، وصولاً إلى المزاوجة بين ما هو مكتوب وما هو مبصور.

فتجربة الفنانة تستفيد من مسار السرد الذي تمارسه في الكتابة الروائية، لينعكس على طبيعة تسلسل العناصر المستخدمة في لوحاتها، حيث وظفت مهارتها في رسم المنمنمات، في سياقات ذكية تخدم الفكرة المطروحة، من حيث تجاور العبارة المكتوبة مع عناصر الفولكلور الفلسطيني، من ألبسة وأثواب وتفكيك.. كل ذلك لتمزجه في مناخ اللوحة المعاصرة.

لذا جاءت سياقات تلك الأعمال، مثل (مكنزمات) تعيد لذاكرتنا ما نسيناه في حياتنا السريعة، بكونهما ركيزة أساسية لسرد الذكريات، والتلذذ في زمانها وما يحيط بها من سلطة السلوك الزمكاني، هي صورة محورية من صور إعادة إحياء الهوية، في سياق العمل الفني المعاصر، ودوره في حفظ التراث والنضال معاً.

فالحضور الساطع للمرأة وما تسرده، هو حكاية المرأة في بناء الذاكرة المفقودة، وإعطاء تلك الذاكرة مساحة جديدة في الشيوع بين أجيال لم تعد تهتم بذلك، جيل انشغل في الميديا كحياة بديلة، وهي رسالة ذات طابع مركب وصعب، في أعمال الفنانة، والتي أظهرت تحولات الوجود الفكري والنضالي، للمرأة ودورها المؤكد في حفظ التراث بصورة عامة، والأزياء وخصائصها بصورة خاصة، وعبارات الحكم والأمثال المتجاورة مع تلك العناصر.

تهدف التجربة الفنية عند (دالندا)، إلى التعرف إلى تمظهرات الفولكلور في ذاكرة اللوحة، التي تغذت من النسيج الفلسطيني، من أثواب وسجاجيد وأدوات قماشية، كانت تستخدمها العائلة الفلسطينية إلى يومنا هذا. ففي أعمال دالندا صورة جديدة لمعالجة الموضوع، والجديد في ذلك، هو إدخال الحكايات الشعبية التي أسهمت في توسيع مخيلتنا، من حكايات الشاطر حسن والغولة وغيرها.. فهي حكايات الجدة التي كانت تنام في حجرها دالندا، لتنام على سماع تلك الحكايات السحرية والخيالية، والتي أسهمت في توجهها إلى الرواية بيت السرد. فركيزة المرأة الفلسطينية ودورها في حفظ التراث، ثيمة أساسية، بل هي المنطلقات العميقة لمجمل التجربة التي تقدمها الفنانة، ففي ظل العولمة التي يفرضها العصر، التفتت دالندا إلى ضرورة الاهتمام بتدوين تراثها، بقصد التمسك بهويتها وثقافتها الشعبية، لإثبات الذات وإبراز ما يميزها عن غيرها، وانطلاقاً من أهمية التراث الذي تعتبره الفنانة ذاكرة الشعوب وهويتها المتبقية.

ذهبت (دالندا) في لوحتها عن الحكايات المتوارثة، لتوظيفها في لوحتها كسرد بصري، أو كأداة فعالة في تدوين التراث الشعبي بصورة معاصرة، إيماناً منها أن الفنان مرآة عصره وماضيه، عبر فن له ما يميزه من حيث المضمون والمعالجة الذاتية، أي الخصوصية. فقد جمعت الفنانة بين الواقع والمُتخَيَّل، بعيداً عن التوثيق التقليدي، بما يتلاءم مع فكرة الحكاية، كما أنها رسالة فنية تفهمها شريحة كبيرة من المجتمع، وليست حكراً على فئة قليلة من الجمهور المثقف، ما يضمن بلوغ هذه الرسالة إلى المتلقي.. إذ إن المرجعيات العاطفية والتاريخية، التي تصرح بها عناصر اللوحة من ذكريات وحكايات، هي بمثابة تحصين للذاكرة البعيدة، وإمكانيات استعادتها وإحيائها من خلال الفن التشكيلي، وغيره من الفنون، وهي صورة أخرى من تحولات العناصر التراثية، في سياقات العمل الفني وطرائق توظيفها على صعيدي الشكل والمضمون.

فهي تنطلق من أهمية الحفاظ على التراث، الذي يعتبر ذاكرة الشعوب، والذي يثير حواراً جمالياً دائماً ومسالماً بين أقوام الأرض.

فكانت الحلي الشعبية، والزي التقليدي، وحكايات السرد، مغذيات حيوية لعملها الفني، والذي شكّل ومضات من الذاكرة الشعبية البعيدة والعميقة.

إن العلاقة بين التراث والفن التشكيلي، هي علاقة عضوية ومصيرية في كثير من الأحايين، ومصدر إلهام للمبدعين في جميع بقاع الأرض، لكون التراث يبين أو يجدد الخصوصية التاريخية والمعرفية والجمالية والفنية، إضافة إلى إحياء الطقوس التي رافقت تلك التقاليد والحكايات، بمعنى آخر، هو الهوية الوطنية الراسخة في ذهنية أصحابها أينما ذهبوا.

ففي هذا المعرض؛ تظهر الفنانة والروائية (دالندا الحسن)، أهمية التراث الشعبي واستخداماته في اللوحة المعاصرة، إلى جانب طبيعة المؤثرات الجمالية والسياسية والاجتماعية، لأن التراث الحكائي عنصر له أهميته وقيمته العميقة، في طيّات الفنون الشعبية وتجذرها في الفنون التشكيلية، مما تقدمه للفنان من قوة في التجديد والتحوير والاستمرارية، في طرح سؤال الهوية ووجودها كفعل إنساني أصيل.

نجحت الفنانة في إحياء تلك الحكايات، التي رافقتنا منذ الطفولة الأولى، لتعيد إنعاش ذاكرتنا بلذة الرسم والتلوين.

* عن الشارقة الثقافية

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *