الهوية والعولمة الثقافية


*محمد حمدان بن جرش

تبقى مسألة الهوية إحدى القضايا المطروحة على طاولة النقاش والبحث الدائم في ظل ما تطرحه العولمة من تحديات كبرى على الأفراد والمجتمعات، فالعولمة تيار جارف، يمتلك وتائر سريعة التأثير، بينما لا يمكن أن تتحول الهوية بسهولة ويسر لتكيف نفسها مع المتغيرات التكنولوجية والمعلوماتية والثقافية التي أنتجتها العولمة .

ونحن، إذ نتأمل قدرة العولمة كنظام اقتصادي ومعرفي عابر للأوطان والقارات، ندرك ما تتعرض له الخصوصيات من ضغوط كبرى، خاصة أنه لم يعد بالإمكان البقاء بعيداً عن تأثيرات العولمة ومنتجاتها التي تصبح جزءاً لا يتجزأ من حياتنا، كما أن التعامل مع العولمة ليس خياراً، إنه جزء من حالة التكيف من أجل البقاء والديمومة، لكن تبقى الهويات في حالة دفاع مستمرة عن ثوابتها، وتوجد صراعاً داخل الشرائح والأفراد المنتمين إلى الهوية نفسها، فردود الفعل تجاه أي حدث خارج الهوية تفرض ردود فعل متباينة، وهي ليست بالضرورة متطابقة .
السؤال الذي يطرح نفسه علينا في سياق فهم تأثير العولمة، وخاصة العولمة الثقافية، هو: هل نقبل بالعولمة كفعل هيمنة، أم لدينا خيارات أخرى؟ وإذا كان لدينا بالفعل خيارات متعددة، فما تلك الخيارات؟
إن في عبور العولمة الثقافية إلينا جزءاً من الهيمنة، خاصة إذا لم نكن مشاركين في صناعة قيمها، ومنتجاتها، ومجرد متلقين سلبيين، وهو ما يجعلها حالة خطرة، إذ إن أي فعل هيمنة هو فعل استلاب، وهنا تكمن خطورة عدم وجود استراتيجيات للتعامل مع القوة الكبيرة للعولمة، وما تحمله من مخاطر الهيمنة، وإفراغ الهويات الوطنية من محتواها، ونسف المخزون التاريخي والثقافي للشعوب .
لكن، من جهة أخرى، فإن الهويات التي لا تسعى إلى تجديد نفسها من الداخل معرضة دائماً لخطر التكلس، ولخطر تحول المخزون الثقافي إلى مجرد فولكلور فاقد لأي قدرة على التأثير، ومجرد شكل فارغ من أي مضمون، وهنا تطرح المسؤولية الجماعية عن الهوية، حيث من المهم إعادة النظر إلى الهوية في ضوء ما يستجد من متغيرات، وهو ما يتطلب بشكل رئيسي اعتبار الهوية مسألة متجددة، وليست معطىً ثابتاً ونهائياً .
إن من يرفضون تجديد الهوية يقفون ضد التاريخ، ويضعون أنفسهم في مواجهته، وذلك انطلاقاً من موقف معرفي خاطئ في قراءة تاريخ التطور البشري، فقد بات معروفاً أن ما من هوية يمكن أن تحيا بناءً على التمسك بالماضي، فالهويات تتجدد وفقاً لتجدد المعطيات الإنسانية والمعرفية والاقتصادية .
إن اقتصاد العالم يغدو مترابطاً مع بعضه بشكل مذهل، فالانتعاش الاقتصادي أو الانكماش لم يعودا مسألة تخص بلداً وحده، وباتت الأزمات التي تضرب بلداً ما سرعان ما تنتقل إلى البلدان الأخرى، وكذلك أيضاً نحن نعيش اليوم في ظل إعلام مفتوح، وفي عصر شبكات التواصل الاجتماعي، ومشاركة الأفراد العاديين في صناعة الخبر وتداوله، وبات الفرد قادراً على مشاركة الآخرين أفكارهم، أو التعارض معهم أو التفاعل من خلال شبكات التواصل التي تتيح مستوى متقدماً من التفاعلية، ولهذا فإن حجب المعلومات والأفكار يتحول أكثر فأكثر إلى جزء من الماضي .
لكن، أين تقع الهوية في خضم هذه التحولات العولمية المذهلة؟ .
إن الهوية هي السمات المميزة للأفراد أو المجتمعات، وهم يعرفون أنفسهم بدلالتها، وكذلك يصفهم العالم بناءً على تلك السمات، فلكل مجتمع من المجتمعات هوية خاصة به، وهي عامل استقرار وتجانس، وتشكل معطىً رئيسياً في فكرة الانتماء إلى المكان، وتوجد الرابطة الوطنية بين الأفراد .
لكن، هذه الهوية، وتحت تأثير العولمة الثقافية معرضة للتغيّر، ومعرضة للتشوه، خاصة أن العولمة تطرح أنماط سلوك جديدة ليس من الضروري أن تناسب قدرة المجتمعات الوافدة إليها على تفحصها، وأخذ إيجابياتها، وطرح سلبياتها جانباً، وهو ما يمكن أن ندعوه التعامل الإيجابي مع العولمة الثقافية .
وفي حالات كثيرة، تؤدي العولمة إلى حالة تشويه للقيم الأصيلة، من دون أن تخلق منظومة قيمية جديدة تمكّن المجتمع من التماسك، ولهذا فإن التنمية الثقافية هي أحد أشكال التعاطي النقدي مع العولمة الثقافية، بحيث يكون بإمكان المجتمعات أن تنخرط إيجابياً مع القيم الوافدة، من دون أن تفقد توازنها، ومن دون أن تتعرض إلى هزات مؤثرة في حاضرها ومستقبلها، لكن هذه التنمية الثقافية تحتاج إلى مشاركة أكبر قدر ممكن من المؤسسات الوطنية والأهلية والخاصة من أجل إيجاد الخطط الكفيلة بتحصين المجتمع من القيم الثقافية السلبية، والانتقال إلى مستوى آخر، هو المشاركة في العولمة نفسها، عبر الحوار البناء مع الآخر، بحيث يتم الانتقال من موقع التلقي إلى موقع المؤثر . 
_______
الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *