الموت الثاني للقطّ

(ثقافات)  

” الموت الثاني للقطّ “

أونيليو جورج كاردوسو *

 ترجمة : إفلين الأطرش **

    جلس روبليس في مؤخرة القارب يرقبُ ضوء النهار القادم، مستنداً بمرفقه الأيسر على الحافة، وممسكاً بذراعه اليُمنى الممدودة خارج القارب، خيط الصيد الملتفّ حول إصبعه. رأى طرف الشمس يصعد ببطء فوق أطراف قدمه الحافية. لم يكن هذا جديدا عليه أبدا. كان باستطاعته أن يستدير بين الحين والآخر ليتأكد من أنّه، على الدوام، يرى أضواء بلدة كوجيمار المبعثرة لا تزال مضاءة. لقد اعتاد ذلك إلى حدّ بعيد مدّة الثلاثين السنة الأخيرة. منذ أن بدأ يرفع حجر المرساة في سن الثانية عشرة للرجل العجوز كريسبو، الذي اعتاد الجلوس في مؤخرة القارب يوجّهه بشكل صُوريّ أثناء قيامه بالعمل، ولكنْ بملاحظات متدَخِّلة قاسية. كان من الممكن أن يفكّر في الرجل العجوز ذلك الصباح، كما اعتاد أن يفعل كلّ صباح عندما يصل الضوء إليه في مكانه، لكنّ صيدَ هذا الليل قليلٌ ولا يستطيع الآن إلا التفكير في مصالحه الذاتية. ولذلك، أغفل أمر الشمس وعادت أفكاره إلى قاع القارب حيث تستقرّ سمكات قليلة اصطادها واحدة  فواحدة. شبوطتان بحريتان، ثلاث سمكات نهريّة حمراء وأربع سمكات فواتيروس تافهة. بهذا العدد لا يستطيع القول إنّه كان يصطاد، إلا إذا كان طبعا من الذين يلبسون القبّعات المزخرفة والقمصان الواسعة ويستأجرون القوارب أيام الآحاد، مكوّمين كلّ ذاك العدد من الصنارات، ويشرعون وهم في حالة هياج من أجل سمكتيْ رونكوس، يستطيع أي واحد الإمساك بها دون أيّ جهد.

    إنه يحتاج إلى الحظّ فيما خيطه لا يزال ممدودا في الماء، ليدفع إليه بسمكتين يهوديتين بحريتين تزن الواحدة من عشرة إلى اثنتي عشر باوند، غير أنه لن تكون هناك سمكة يهودية والشمس قد أخذت تدريجيا تغيّر لون المياه الليليّة السوداء إلى لون أزرق نهاريّ حادّ العمق. لو كان ذلك العجوز الجَلف كريسبو هناك… لكان من المؤكد أنه سيصرخ في وجهه بأنه لا يعرف كيف يختار المكان المناسب ليحصل على السمك. لكنّ العجوز قد مات؛  منذ خمس عشرة سنة  يرقد والتراب الأحمر يغطّي ما كان شخصه، وبمقدور روبليس الآن أن يشعر بطمأنينة أكثر. هذا مع أنّ الرجل العجوز، في الحقيقة، علّمه كلّ ما يعرف، وحتى النوع الآخر من العمل: سرقة السمك من الخيط الطويل رغم أنف صاحبه، إن صحّ القول.

    إنه لم يفعل ذلك حتى الآن ولكنّه كان يستطيع ذلك. يعرف كيف يتمّ ذلك. كان هو ببساطة صياد سمك قادراً على العيش بما يصطاد في ثلاث إنزالات للمرساة ليس أكثر، يعتمد ذلك على حالة التّيار بالطبع، حسب صعوده أو هبوطه، مَدّه أو انحساره، لم يكن أحد أفضل منه في هذا العمل، كان مدينا بذلك للرجل العجوز وممتنّا أيضا، لكلّ هذه الحيل الغنيّة، لكنّه في اليوم الذي ستستهويه فيه هذه الحيل سيصبح “قطّا” أيضا مثل العجوز، وكاد أن ينفجر بالضحك لهذه الفكرة:  قطّ ! .

     لُقّب الرجل العجوز بـ “القِطّ” بسبب طريقته في شمّ وخطف سمك الآخرين. يجب أن تمتلك عيني قط ّ ثاقبتين، ماكرتين  بالتأكيد، لتذهب على طول الساحل وترقب عن بُعد أين يضع أحدهم شباكه وتتذكّر المكان في الليلة التالية وتتسلّل مباشرة إليه، مجدّفا بغير صوت، بغير ضوء، تحت ستار العتمة، وتأخذ صيده.  نعم، يجب أن تكون شبيها بالقط، ويقظا بقدرات غير عادية. وللأمانة، كان اللقب يليق بكريسبو العجوز!.

   لهذا العمل مزاياه. لكنّها لم تكن مزايا جيدة. ولأنّها تعتمد على الحيلة فأنتَ تشعرُ بأنّك قد تغلّبت على مخاطرَ حقيقيّةٍ فتتصوّر أنك رجل مُهمّ. إنه لأمر رديء أن تكون بدايتك كصياد على هذا النحو.

    شعر بسحبة الخيط فانتظر بكلّ أحاسيسه المُركِّزة على رأس إصبعه، ثمّ قطّب قائلا بازدراء: ” ياه، سمكة جينيغوانو أم سمكة ليروس!”. ( أسماك بحرية شائكة الزعانف ، لم أجد لتسميات الأسماك  تعريباً لاختلاف طبيعة البجار… المترجمة).

    كانت ريح الشاطئ لا تزال تهبّ والمياه هادئة وساكنة. في مثل هذا الهدوء حيث لا تيّار على الإطلاق، فإن الرجل العجوز لن ينتظر لحظة أخرى كي يقول:” أحضر مرساتك أيها المغفّل!” ويبدأ حالا بإشعال طرف سيجاره المكسور.

    مرساتك، سكينك، دلوك، خيط سبرك، ذراع دفّتك، إسفنجتك للتنظيف، فحين كانت المسألة تتعلّق بعمل شيء على ظهر القارب كان يبدو وكأنه يمتلك كلّ شيء، مع أنّه في الحقيقة، لو لم يأخذ  شيئا سوى مجرّد الدلو لتوفّرها على القارب، فإنّ كريسبو سيسلخ جلده حيّا حتى ولو فرّ هاربا إلى قاع البحر.

   هذا صحيح، لكنّ العجوز كان قد علّمه كلّ ما يعرف وذلك يعني بأنّه سيبقى دائما ممتنّاً له. يجب أن يفكّر في اليوم الأول فقط ليذكّر نفسه بالرجل العجوز. كان ذلك حين أُجبِر على ترك الملجأ. شمّ رائحة السمكة ورآها تُقلى فيما كان يمرّ بجانب كوخ كريسبو. سال لعابه ولاحظته عينا القط منذ اللحظة الأولى، لكنّه أكمل قلي السمكة. تمّ أدار أنفه البارز وقال للولد:

” جائع، أليس كذلك؟”.

 ” نعم”.

 “حسن، لا أحد يحصل على كلّ ما يريد”.

 بدا وكأنّه سينسى الموضوع، حين قال:

” إذا تمكّنت من إحضار بعض الطُعم لي، سأحتفظ لك يهذه السمكة بالتأكيد”.

ثم خطف سمكة نهّاش كبيرة من ذيلها ووضعها في الزيت الحارّ.

 لم يقل روبليس ابن الثانية عشرة شيئا. ابتعد فقط، مشى في كل أنحاء كوجيمار ثم نزل إلى الشاطئ وسرق، ولأول مرّة، قبضة من السردين، ثم رجع وأراها للرجل العجوز. تشمّمها العجوز أوّلا، ثم رماها واحدة فواحدة في الماء المملّح مع أخريات كان هو قد أحضرها، وأخيرا قال:

  ” تعال، خذها”.

امتدّت يدُ ابن الثانية عشرة لتأخذ واحدة من سمكات النّهاش المقليّة، ولكنها تسمّرت في مكانها حين سمع صوت القطّ قائلا:

 ” هذه ليست التي قلتُ عنها”.

   ثمّ نظر بحذر حتى لا يخطئ ولحسن حظّه التقط السمكة التي قال عنها الرجل العجوز. آه. الذكريات في بعض الأحيان كالنسور، لا تعرف أنتَ من أين تجيء، ثمّ تحلّق في السماء مرفرفة كأشياء شائكة هزيلة سوداء، فوق القارب والماء والروح.

   مفكّرا في النسور نظر روبليس باتجاه السماء. إن رؤية أحدها جزء من الحظّ الجيّد إذ تكون دائما فرصة جيدة، لأن ذلك يعني وجود سمكة مرافقة تسبح تحته. غير أنه لم يكن في السماء سوى الشمس المتعاظمة والتي شعر بها روبليس تحرق عينيه. ثمّ هدهدته بنشوة ريح الشاطئ فوق المجاديف بشكل تدريجي، وكان على هذه الحال حين سمع تلاطم المياه فجلس على الفور. ربما كانت السمكة تقترب. فكّر بأن المرء يجذب الأشياء أحيانا بواسطة التفكير فيها. ثمّ نهض شيئا فشيئا، بينما في المؤخرة، والتي بالكاد تبعد سبع ياردات، كانت الموجات الصغيرة تنتشر قوق مرآة البحر المكسورة . كان ذلك حين حدث الارتطام. من المحتمل أن يحدث ذلك ثانية في مكان أقرب، ربضَ في الأسفل متحسّسا العدّة دون أن يرفع عينيه عن النقطة التي حسبَ مسافتها. كان مستعدّاً لاستعمال العدّة. غير أنّه لم يكن لديه الوقت لذلك، لأن عينيه امتلأتا بحيرة مُفاجِئة.

  ” يا مسيح!” قال ذلك، ثم سكت نهائيا.

     برز للتوّ وسط الموجات الصغيرة ظهر أسود يعرفه روبليس جيدا. كانت ثمة سمكة منشار بعيدة قرب الشاطئ والشمس آخذة في الارتفاع، شيء لا يصدّق على الإطلاق. أسماك المنشار تمرّ دائما، سابحة ليلا على طول مياه جدول الخليج الرئيسي، حيث وضعت الخيوط الطويلة بطوّافاتها وأضوائها لتوقف تقدّمها ولكنْ إذا لم تُمسَك فإنها لن تُرى. وأن ترى واحدة فتلك معجزة. لكن روبليس صادف معجزة أكبر، عندما رأى من خلال حيرته الشديدة أن منشار السمكة علق بإحكام كمسمار في قطعة خشب طافية.

  “لقد حصلتُ عليها!” قال. وبثلاث ضربات طويلة من مجدافه أصبح في المقدّمة. ثمّ حرّك شراع القارب بحرِيّة كبيرة وتركه تجري به ريح الشاطئ حول السمكة. لا يمكن القول بأن هذا كان قتالا حقيقيّا، أوّلا بسبب القطعة الخشبية، وثانيا بسبب الوقت الذي تمضيه السمكة في القتال عادة. لكنّ سمكة المنشار هي سمكة منشار حقّا، لذلك عندما تلتقط الهراوة لتضربها يجب أن تكونَ متأكّداً من إصابتها بين عينيها، وإلا سيفشل كلّ شيء.

   بعد ذلك فكّر بما عليه أن يمسكه بيده: خطّاف القارب، السّكين والهراوة. تَحسّرَ على فقده حَربَته ذات ليلة في عرض البحر. إن المسألة تتعلّق بتعليقها في الخطاف الآن، على أيّة حال. ثمّ سيكون قادرا على تمييز حياة سمكة المنشار من موتها بواسطة رسغه. وعندما أصبح على بعد ستّ بوصات منها غرز الخطّاف فيها. تناثرت المياه فوقه، وتملّكه شعور بأن في البحر رجل يحاول انتزاع الخطّاف من يديه بينما كانت المياه تنزلق فوق عينيه وتغشيهما. لكنّه وقف بثبات، بقدمه اليسرى في قاع القارب ويمناه تضغط الحافّة العليا من المركب المشدود كلّه بقوة.

    قاومتْ لبعض الوقت وفجأة ضعفتْ مقاومتها. مسح روبليس عينيه بسرعة بيده اليسرى ورأى الخطّاف ينغرز بشدّة ومجرى من الدماء ينتشر فوق سطح الماء. لم يكن ذلك جيدا، إذ إن الدماء في العادة تجلب أسماك القرش. أدرك بعد ذلك أنّه يجب أن يكون سريعا. حرّر يده اليمنى وهو لا يزال يسحب الخيط بهدوء، وأمسك الهراوة. ضرب ثلاث مرات، ما بين العينين بالضبط، مدركا أنه قد أنجز العمل بعد الضربة الأولى. عندما أنهى روبليس مَهمَّته استحال الظهر الأسود المستدير إلى أزرق. تقطّع طرف المنشار في ثلاثة أماكن، على بعد حوالي القدم من الفم. أما ما حدث عندما ارتفعت الشمس فقد تكرّر: استحال اللون الأسود إلى الأزرق.

   لكنّ روبليس بالكاد كان يفكر في هذه الأشياء. حتى إنّه بالكاد نظر إلى سمكة المنشار لأن بينه وبين السمكة التي تزن اثنتي عشر حجرا. ( الحجر: وحدة وزن بريطانية ، تساوي خمسة عشر باوند …). كان قد  ظهر وجه الرجل العجوز ثانية. فكّر أوّلا إنّه كان يبتسم، لكنّه تذكّر فيما بعد أن القطّ لم يكنْ يبتسم أبدا. صحيح إنّه كان يضحك، لكنّها ضحكة قصيرة، صغيرة، هازئة مكسورة الصوت ولا تبعد أبدا أكثر من بوصات قليلة عن أنفه. كان يستدعي هذه الضحكة في ذهنه عندما برزت أمامه بشكل حقيقيّ الفكرة التي استدعتها: ” ها، ها لا يُمكنك استِغبائي، أيّها الأحمق، يستطيع أي شخص أن يعلّق سمكة بخطّاف بعد أن تكون قد عَلِقت بالفعل!”.

   حسن، يجب أن يقبل بذلك : لقد ربح الليل والقطعة الخشبية نصف المعركة. ثمّ تغيّرت تعابير وجه روبليس. تردّد للحظة، ودفع يديه بين خياشيمها، وهو يقبض على سكينه. كان غير بارع في ذلك إلى حدّ كبير. تحسّس بيأس اللّحم النازف باحثا عن المعدن الأساسي للخطاف، وعندما أخرج هذه القطعة كاملة من بين خياشيمها، نظر إلى ثُقبها.

  ” داماسو صنع هذا!” قال لنفسه بصوت فيه رنّة مُغِمّة. بإمكانك أن تميّز وصلة صنعها داماسو من بين وصلات صنعتها آلاف الأيدي الماهرة. كما كان الأمر ذاته بالنسبة لضحكته، تسمعها وتلتقطها من بين آلاف الضحكات. ربما كان سبب ذلك قدرته الخفيّة على عدوى الآخرين بأسلوبه المباشر. لذلك فأنت تضحك حالا على ما يُضحكه، دون أن تعرف حقيقة ما يضحك هذا الشيطان داماسو.

  تدافعت هذه الأفكار في رأسه خلال لحظة. على كلّ حال، فإنّ ما كان يطنّ في رأسه أكثر هو المعلومات التي غنمها لتوّه : كان الخطّاف يخصّ داماسو، ولذلك فإن سمكة المنشار تخصّه أيضا.

   ” ماذا سأفعل؟” قال لنفسه، لكنّ أنف القطّ البارز كان قد أصبح أمامه بغير استدعاء فيما كانت عيناه تبرقان بالفرح:

  ” اسرقها، أيها الأخرق! كنت لأقول بأنني خرجت إلى البحر قليلا واصطدتها، هذا ما أفعله!”.

     استُثير روبليس، فللمرّة الثانية في حياته سيأخذ شيئا ليس له. لا تُحسب المرة الأولى بالطبع، لأنه كان طفلا وجائعا. أما هذه المرّة فيجب أن تُحسب، لأن دافعها لم يكن الجوع بل طمع العقل المستقلّ كعقل القطّ الماكر.

   دخل روبليس بلدة  كوجيمار بعد وقت قصير. أخذ النسيم يهبّ من خلفه فبدأت المياه ترتفع في رذاذ أبيض على الصخور بطول الساحل. من المحتمل أن لا يكون داماسو في كوجيمار. كان متأكّدا من أنه سيفعل ما يفعله دائما في يوم الأحد. سيذهب مع الآخرين ليقوموا بما يسمّونه عملا تطوعيّا. إذن سيكون كلّ شيء على ما يرام. سينظّف السمكة على حاجز الميناء. من الجائز أن يمرّ أحد ما ويكون فضوليّا، وبإمكانه أن يقول له بهدوء تامّ ما قد فكّر به. “لقد كان حظّا.. بعيدا في البحر.. أمسكت بها عند الفجر .. بعدّتي أنا”.

  غير أنه عندما كان منهمكا فعليّا في ربط قاربه بحاجز الميناء، أجبرته ضحكة عالية على رفع رأسه باتجاه مبنى التعاونية،

  “داماسو!” قال بارتعاش وهو يشدّ عقدة الحبل.

 ولم يكن هناك أيّ مهرب منه. كانت قدما داماسو القويّتان الحافيتان على وشك الوصول إليه عند حاجز الميناء.

 ” تهانينا يا روبليس، ستة عشر حجرا على الأقل”.

 “اثنا عشر”، أجاب دون أن يرفع نظره وسأله في الحال: ” ألا تشعر وكأنّه انضمام إلى حزب العمال اليوم؟”.

  ” لم أنجح في ذلك قَطْ” قال الآخر ببساطة. ثمّ بخطوتين واسعتين أصبح في القارب، جالسا على حافته العليا، حتى إنّ قدميه العاريتين داستا سمكة المنشار. ” أنت تقف في طريقي هناك”، قال روبليس، لكنْ يبدو أن داماسو لم يسمعه. كان يُبدي إعجابا فَرِحا بالسمكة.

” كتلة جيدة، روبليس..تحتاج إلى قليل من الصراع للحصول عليها!”.

” أنت مُحقّ”.

” سمكة المنشار تعني شيئا..، هل تعرف ثمن الباوند منها؟”.

” نعم، ثمانية عشرة”.

 ” ليس بالضبط، إنّه تسع وعشرون. هذا منذ اليوم ولا يحصلون على كفايتهم منه!”.

 نظر روبليس إليه. كانت تلك أخبار جيدة. لكن من الصعب التحديق في عيني داماسو الصافيتين.

 “كلّ يجد كفايته اليوم”. قال داماسو.

    هذه المرّة يبدو أن روبليس لم يكن يسمع، إذ كانت حركاته خرقاء جدّا حيث أنه لم يعرف من أين يبدأ. في هذه اللحظة ذهب ليُمسك السمكة من خيشومها كي يستطيع رفعها، ولكنّ يد داماسو كانت هناك قبله وفعلت ذلك بدلا منه. “دعها لي”، قال روبليس.

 ” اقطعها”، أجاب الآخر ورفعها من خيشومها ليشرع روبليس بتقطيعها. لفترة من الوقت ركّز الاثنان على العمل، ولكنّ داماسو لم يحدّد أفكاره :

” في الأيام الغابرة ، لم يكن الناس يتصرّفون بعدل. حتى إنهم تصرفوا “كالقط” أحيانا”.

  لم يقدرْ داماسو أن يرى النظرة الوَجِلة الشاكّة التي وقعت عليه لانشغاله بالنظر إلى ذيل السمكة.

 “قطٌّ مثل كريسبو العجوز، أتذكر؟”.

 “لا تنسى أن الرجل العجوز قد علّمني كلّ ما أعرفه”.

  علّق داماسو نظره دون أن يقصد التلميح لأيّ شيء, ولكنّه بدا وكأنه يحسب كلماته التي يقولها:

“لا، ليس كلّ شيء، هناك شيء لم تتعلّمه. أنت تذهب للصيد، وليس لسرقة ما يصطاده الآخرون”.

  هنا نهض روبليس، ولكنّ داماسو بقي هادئا وتابع حديثه وكأن الرجل الآخر لم يتحرّك.

” ليس هناك من سبب كي أمتدحك، ولكن الأمر مضحك بطريقة ما. لقد تبنّاك القطّ ولكنك لم تطارد فأرا أبدا، وإنه لأمر غامض لي، لماذا كان على رجل مثلك ألا يعمل مع الآخرين بطريقة عملنا هذه الأيام!”.

” أنا مدين بكلّ شيء للرجل العجوز”. صرخ، وتابع:” افهم ذلك جيّدا، أنا مدين له بما علّمني وأيضا بالخبز الذي أعطاني”.

” إنه مدين لك بأكثر”.

 “ماذا تعني!”.

 ” إنه مدين لك بأكثر ، إذا فكّرت في ذلك بشكل منطقيّ يا روبليس. كنتَ جائعا مرّة، وقد استردّها  منك بعشرين سنة عمل “.

” أنت لا تعرف شيئا عن ذلك. علّمني الرجل العجوز كيف أتابع بمفردي”.

” لا أحد لوحده أبدا. نحن نعرف ذلك الآن يا روبليس. انظر حتى عندما تخرج للصيد لا تكون وحدك”.

” معي زوج من الأيدي، ماذا غير ذلك؟”.

” ماذا عن كلّ الآخرين على الأرض الذين صنعوا لك المرساة، الحربة، الخيط وكلّ شيء معك!…”

” دعك من هذا، إنه سخيف…” صرخ، ولكنّه أمسك بكلماته وكأن ثورته قد خنقت صوته.

” هوّن عليك”، قال داماسو. ” إذا كنتَ محقّاّ فلا داعي للصراخ ـ تجد الحقيقة دائما طريقها لآذان الناس”.

  تكلّم بهدوء تامّ حتى إن روبليس شعر بالخجل. لأنّه في الحقيقة لم يرفع صوته هكذا في وجه أحد قبل الآن. جثم ثانية وبدأ التقطيع بغيظ، حتى إنّ السكين انزلقت من يده ووقعت على رجلي الرجل الآخر. انحنى ليلتقطها، ولكن يد داماسو كانت هناك قبله من جديد، فقط كانت يده اليمنى هذه المرة. لم يدرِ روبليس بماذا يفكّر حين رآها: كانت أرجوانية اللون تماما ومنتفخة بشكل مخيف. سُحبت اليد في الحال وامتدّت اليد اليسرى بالسكين إليه بدلا منها. بصعوبة أخذها روبليس وبدأ التقطيع دون أن يرى ما يفعله. بقي هادئا لمدة حين توقّف فجأة عن العمل وسأل دون أن يرفع رأسه:

” كيف أصبحت يدك هكذا؟”.

 ” الليلة الماضية.. في الممرّ الطويل.. القارب السادس.. ذهبت لأجمع السمك. كانت إحداها قد فقدتْ مقاومتها وطفت على السطح. فكرت بأن ذلك سيكون سهلا كالعادة وجذبت القارب باتجاه الشاطئ. فككت رباط الشبكة المائة والعشرين عن الدعامة العموديّة. وعندما رأيت أنها لم تكن تنقلب، لففتُ الخيط بلا مبالاة حول يدي.. ارتطمتْ بالحافة الأماميّة للقارب، فجُنَّت. وأقول لك إنه لو لم يكن الخيط مشدودا بقوة إلى الصاري لكان من الممكن أن تخلع ذراعي.. فقد سحبتْ الصاري وجزء من الخيط معها”.

   كان داماسو يتحدّث بصوت منبسط ظانّا أنه سيهُدّيء الرجل الآخر بهذه الطريقة، لكنه لم يعرف لماذا جثا روبليس بغير حراك أمام السمكة والسكين في يده . كان يرغب بسؤاله عمّا إذا أصابه خطب ما، لكن روبليس لم يعطه فرصة لذلك. بل اتّجه بسرعة إلى الحافة، وأنزل يده إلى الأسفل ، ووضع أمام داماسو قطعة الخطاف الكاملة:

” انظر، هل تعرفها؟”

” أظن ذلك، إنها وصلتي!”.

 ” إذن هي سمكتك أيضا، بحقّ المسيح!” صرخ مستشاطا ورمى بنفسه إلى الوراء على الحافة في انتظار أن يسمع كيف سيكون ردّ الآخر.

 *أونيليو جورج كاردوسو: كاتب كوبي، اشتهر بكتابة قصص قصيرة تصوّر البيئة الريفية في كوبا بأسلوب أدبي متميز. بقي على إخلاصه للقصة القصيرة،  فلم يعرف عنه ارتياد جنس أدبي آخر…
**  نقلاً عن  “مختارات من القصة الكوبية” بعد ترجمتي للمجموعة،  الصادرة عن دار منارات   العام 1987، قيل تغيّر اسمي دار النشر والمجموعة التي صارت تحمل اسم ” رتابة مميتة” إحدى قصص المجموعة بدلا من منارات قصصية 1، في طبعاتها اللاحقة…

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *