سلمى الخضراء الجيوسي (1926-2023)
رشيد العناني
أدهشني أن تموت سلمى الخضراء الجيوسي. حقا أن الموت حق علينا جميعا، وأنها كانت في الخامسة والتسعين من عمرها، وهو عمر لا يطمح إليه أغلبنا. لكن الجيوسي كان لها حضور طاغٍ يصعب تصور إمكانية غيابه غيابا تاما. كان حضورها طاغيا في إنجازاتها الأكاديمية في خدمة الأدب العربي، كما كان حضورا طاغيا أيضا في أي مناسبة حضرتها شخصيا. كانت امرأة مخلوقة للصفوف الأولى، ليس فقط بعملها الدائب ومنجزها الأكاديمي والأدبي، ولكن بتركيبتها الشخصية الساحرة التي لا تقبل الرفض كإجابة على ما تطلب، ولكن أيضا لأن سحر شخصيتها كان يجعل عدم القبول أو الاعتذار عن طلب أو تكليف منها أمرا ليس في إمكان الكثيرين. كانت تعرف كيف تجعل من الإصرار والإلحاح والمعاودة فنا جميلا محببا، لو مارسه غيرها لكان مصدر إزعاج ومدعاة لصرف الملحّين خائبين. هذه الشخصية هي ما سهّل لها استقطاب الدعم المالي لمشروعاتها النبيلة، وتجنيد الكُتّاب والمترجمين والأكاديميين في خدمة مشروعها الأكبر في ترجمة ونشر الأدب العربي في اللغة الإنجليزية، “بروتا”. التقيت سلمى الجيوسي لأول مرة حين دعوناها لإلقاء البحث الافتتاحي في مؤتمر كبير نظمناه في جامعة إكستر Exeter في خريف عام 1994 حول “التقليد والحداثة في اللغة والأدب العربيين”، حيث تكلمت في موضوعها الأثير “التقليد والحداثة في الشعر العربي”، والذي نُشر لاحقا (لندن 1996) ضمن كتاب أعددناه عن أعمال المؤتمر. أذكر أني كنت رئيس الجلسة وأنها تمادت في تجاوز الوقت المخصص لها، برغم أريحيته كونها متحدثا رئيسيا، وأن كل محاولاتي المستميتة والمتكررة لتذكيرها بوجوب الانتهاء، باءت بالفشل الذريع، أمام عنادها وإصرارها، ولكن قبل ذلك سحر شخصيتها، الذي لم أملك أمامه ولا ملك جمهور الحاضرين إلا الغفران الكامل. وإن كان هذا العناد وهذا السحر قد كسبا لها عدة دقائق إضافية في ذلك المؤتمر (وفي غيره بلا شك)، فإنها هي الخلال ذاتها التي جاءت لها بمكاسب أهم كثيرا في مشروعاتها الأدبية الواسعة كما أسلفت.
ليس من السهل تصنيف إرث الجيوسي تصنيفا تراتبيا. وليس من السهل التنبؤ بما يصمد منه لاختبار الزمن وما تطويه الأيام ضمن ما تطوي. إلا أنه إن سألني سائل اليوم سؤالا في هذا المضمون، فإني شخصيا لن أتردد في ترشيح دراستها “الشعر العربي الحديث: حركاته واتجاهاته” Trends and Movements in Modern Arabic Poetry الصادر عام 1977 في اللغة الإنجليزية عن دار بريل، والذي صدرت له ترجمة عربية في عام 2007 عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت. قام الكتاب على أساس من أطروحتها للدكتوراة التي كانت أنجزتها قبل سنوات في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية التابعة لجامعة لندن. يغطي هذا الكتاب الموسوعي الواقع في مجلدين والذي تتجاوز صفحاته الثمانمائة – يغطي تطور الشعر العربي من أواخر القرن التاسع عشر وحتى آخر اتجاهاته وقت إجراء الدراسة في فترة الستينات من القرن الماضي التي شهدت تحولات جذرية في هذا الفن القديم قِدم اللغة العربية ذاتها. حين كنت أدرِّس مادة الشعر العربي الحديث للطلاب الإنجليز كان هذا الكتاب مرجعي الأول وكان يتصدر القائمة الببليوغرافية التي أزود بها طلابي لإعانتهم على القراءة والبحث في الموضوع. ولا أشك أنه لا يزال يحتل نفس المكان لدى مدرسي المادة اليوم مع شيء من الحسرة أنه ليس هناك مجلد ثالث يغطي ما حدث في الشعر العربي من ستينات القرن الماضي إلى أوائل القرن الحالي.
هذا في رأيي الإنجاز الأكبر والأبقى للجيوسي فهو إنجاز بحثي كبير استغرق سنوات طويلة من البحث المنفرد والعكوف على مصادر ومراجع الشعر العربي ومدارس النقد، قديمها وحديثها، وقد صدر في وقت كانت تعزّ فيه مثل تلك الدراسات الشاملة، ليس فقط في اللغة الإنجليزية بل والعربية أيضا. لكن الأدب العربي يدين للجيوسي بما هو أكثر من ذلك، ويدين لها أيضا الآلاف من قراء هذا الأدب ودارسيه ومدرِّسيه في اللغة الإنجليزية، إذ أنها أنفقت قسما كبيرا من حياتها للتعريف بذلك الأدب وأعلامه وروائع نصوصه، خاصة الحديث منها، عن طريق الترجمة والتقديم والتحرير. كانت تضطلع شخصيا بالترجمة كما فعلت على سبيل المثال في ترجمتها في عام 1982، بالاشتراك مع المستعرب البريطاني ترفور ليجاسيك LeGassick، لرواية إميل حبيبي الشهيرة، “الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل”. إلا أن الجهد الأكبر للجيوسي في مجال الترجمة كان في عملها الجماعي من خلال المشروع الذي عُرف باسم “بروتا” PROTA الكلمة المؤلفة حروفها من الاسم الكامل في الإنجليزية “مشروع الترجمة من العربية”Project for Translation from Arabic الذي أسسته الجيوسي في 1980 واستقطبت للعمل فيه عبر عدة عقود مجموعات متميزة من الأكاديميين ومترجمي الأدب والمؤلفين مستغلة مهاراتها الشخصية وصبرها الطويل وعلاقاتها المتشعبة وقدرتها على استجلاب الدعم المالي للبحث والنشر من مصادر متعددة. اتسم هذا المشروع الكبير بصفة خاصة بنشر الأنتولوجيات أو بعبارة أخرى المختارات أو المنتخبات، تمييزا عن الأعمال المفردة. وهي من أصلح سبل الترجمة والنشر في استهدافها تقديما عريضا لنوع أدبي أو فترة بعينها أو أدب قومي لجمهور قراء لا يعرفون عنه شيئا، بدلا من التركيز على كاتب بعينه أو نص منفرد.
كان من بواكير تلك المنتخبات مجلد فيما يقارب الستمائة صفحة نُشر في 1988 عن دار كيجان بول اللندنية برعاية جامعة الملك سعود في الرياض بعنوان The Literature of Modern Arabia ضاما بين غلافيه أعمالا شعرية وقصصية لما لا يقل عن 95 كاتبا من السعودية واليمن وسائر أنحاء شبه الجزيرة العربية. كان عملا رائدا في الترجمة والتعريف بأدب الجزيرة العربية في وقت كان العالم لا يقرن اسم شبه الجزيرة بشيء سوى النفط. ثم تتالت المنتخبات المترجمة. فمنها واحد عن “الشعر العربي الحديث”، وآخر عن “الأدب الفلسطيني الحديث”، وثالث عن “المسرح العربي الحديث” أسعدني المشاركة فيه بترجمة لمسرحية ألفريد فرج ذائعة الصيت “علي جناح التبريزي وتابعه قفة”، وغير هذا من المنتخبات والأعمال المنفردة التي صدرت عن كبريات دور النشر الجامعية مثل “مطبعة جامعة كولومبيا” و”مطبعة جامعة إنديانا” وغيرها والتي تتالت من الثمانينات وعلى مدى العقود الثلاثة التالية.
كتبت سلمى الجيوسي بعض الشعر ونشرته، على أنني لا أظن أن شعرها مما يبقى مع ما يبقى من آثارها. ولعلها ما كانت لتخالفني الرأي وهي المتخصصة الوثيقة بالشعر العربي الحديث. صنَّفها الناقد والأكاديمي المصري مصطفى بدوي في مختاراته من الشعر العربي الحديث (أوكسفورد / بيروت 1969) باعتبارها من أتباع الرومانسية أو من ممارسي الأسلوب الرومانسي في الشعر بعد انقضاء عصره. وهو تصنيف أوافقه الرأي فيه تماما. ولنختمْ هذه المقالة الاحتفائية بالكاتبة الراحلة بالمقطع الأول من قصيدة لها بعنوان “المدينة والفجر”
لكل مدينة في الفجر ساعةُ طهرها الساحر
فلو ضجّت لياليها
ولو صخبت مقاهيها
ولو سالت دنانُ الخمر رجسا في سواقيها
فعند الفجر تلقاها
وثوبُ الطهر يغشاها
كأن الليل لم يرقص على مصباحها الساكر
ولم يسكب إله اللهو ذوبَ جنونه فيها
مرتبط