جميلة بوحيرد: قمت بواجبي نحو وطني بلا فخر

جميلة بوحيرد: قمت بواجبي نحو وطني بلا فخر

 د. أميمة أحمد

بتواضع العظماء، ترد جميلة بوحيرد على من يمتدح نضالها (قمت بالواجب تجاه وطني بلا مزية)، ورداً على غيابها عن الساحة السياسية بعد الاستقلال (1962م)، تقول بكبرياء (اخترتُ الشعبَ ولم أخترْ السلطة).

عند اعتقالها مصابة برصاصة بكتفها اليسرى، قدّم لها سجان جزائري كأس حليب خفية، فقالت له (صائمة لا أفطر)، وبعد إعلان استقلال الجزائر صامت رفقة والدتها (باية الصفاقصي) شهراً كاملاً، كان في شهر (آب/ أغسطس 1962م)، وتقول عن والدتها علمتني ثقافة الشهيد، فآمنت أن الشهادة في سبيل حرية الوطن مقدسة، كم تمنيت الاستشهاد مثل حسيبة بن بوعلي رفيقتي بالنضال، يا سعدها ماتت شهيدة، وتطفر عيناها بدمع تداريه، لاعتقادها أن البكاء على الشهيد حبيب الله لا يجوز.

حسيبة بن بوعلي

هكذا نشأت جميلة بوحيرد على ثقافة الشهيد والفداء، مما حفظته عن والدتها باية الصفاقصي، ابنة تونس، التي زارتها بالسجن وقالت لأمها (المرة الجاية تجدين اسمي على الباب بعد تنفيذ حكم الإعدام)، فأجابتها الأم (تكونين شهيدة، ويا سعدي أكون أم الشهيدة)، فأبكت السجانة الفرنسية التي قالت لجميلة  (اليوم رأيت مريم العذراء بوجه والدتك، ستنتصر ثورتكم). وجميلة ابنة وحيدة بين خمسة ذكور.

تحزن (جميلة) في ذكرى اندلاع الثورة في نوفمبر(1954م)، وذكرى الاستقلال (5 يوليو 1962م)، تبكي وحدها رفقاء الثورة، شهداء لم تكتحل عيونهم بحلمهم استقلال الجزائر، منهم العربي بن مهيدي، حسيبة بن بوعلي، طالب عبدالرحمن، عمها مصطفى بوحيرد، تتحدث عنهم كأحياء،  يشع وجهها نوراً  وكأنها تعيش اللحظة معهم. (حسيبة) تركت لها وصية (عندما تزورين قبري خذي معك باقة ورد أحمر، فيها أوراق خضراء، ولفيها بحاشية بيضاء، ألوان علم الجزائر)، فنهرتها جميلة مازحة (واش تقولي؟ تشوفي الاستقلال والعلم يرفرف في سماء الجزائر، بركاي من الهدرة تاعك )، الذكرى تثير الشجن، تسيل دمعة جميلة على وجهها المتغضن، تمسحها بسرعة، الله يرحمها كانت تعرف أنها ستموت شهيدة، حكت لي حلماً يتكرر معها، (أمشي في حديقة كبيرة فيها أزهار، والأرض خضراء، ونوافير الماء وعصافير تزقزق ، هل هي جنة الشهداء جميلة؟)، تصمت جميلة برهة وتتابع في (8 أكتوبر عام 1957م) نسف الاستعمار الفرنسي وكر التخفي، كانت (حسيبة مع علي لابوانت ومحمود حميدي وعمر الصغير)، قاوموا حتى استشهدوا.

وعن حكمها بالإعدام في يوليو (1957م) بخمس تُهم، كل واحدة حكمها الإعدام، والقاضي الفرنسي يقرأ الحكم في قاعة المحكمة، التفتت (جميلة) لرفاقها المحكومين بالإعدام ضاحكة (كل واحد فيكم عنده تهمة وحدة أو زوج، وأنا راني خمس تُهم زيادة عليكم وضحكوا جميعاً، ونظرت إلى هيئة المحكمة بنظرة حادة وقالت (تحكمون علي بالإعدام، ولكن لا تنسوا أنكم بقتلي تغتالون تقاليد الحرية في بلدكم، ولكنكم لن تمنعوا الجزائر من أن تصبح حرة مستقلة، تحيا الجزائر حرة مستقلة، الله أكبر)، وردد معها رفقاؤها المحكومون بالإعدام، تحدياً للاستعمار الفرنسي.

كان مقرراً تنفيذ الإعدام في (7 مارس 1958م)، لكن حملة دولية بينهم رؤساء دول، ضغطوا على فرنسا لإطلاق سراحها، فخفف الحكم إلى السجن مدى الحياة. قضت عامين ونصف العام في سجن سركاجي بالجزائر العاصمة (تحول حالياً إلى متحف)، ثم رحّلتها السلطات الفرنسية إلى سجن بباريس، حيث بقيت إلى إعلان الاستقلال، وخرجت عام (1962م).

جميلة شعلة نور تضيء الليل العربي، بما تحمله من أحلام وثقة بقدرة الشباب العربي على نهضة وطنهم. لم تتأخر عن المشاركة في المظاهرات السلمية للحراك الشعبي، وحدثتني (عندما أحاط بي شباب الحراك، شعرت بقبس نور امتد بيني وبينهم أشبه بسلك كهرباء صعق دواخلي وأضاء روحي، أعطاني الأمل بغدٍ أفضل لهؤلاء الشباب أحفاد ثورة نوفمبر، كنا بأعمارهم في الثورة، رسالة نوفمبر وصلت لجيل اليوم، ليكمل ما لم نستطع نحن القيام به).

إيمان المناضلة الرمز (جميلة بوحيرد) مطلق، بأن العلم والثقافة هما السبيل الوحيد ليحقق الشباب العربي حلمهم  بوطنٍ حرٍ قوي، وهي مثقفة، نهمة القراءة، وتطالع الصحافة حتى اليوم، لتعرف الأخبار الوطنية والعالمية، وهي من مواليد حي القصبة (1935م)، واهتمامها الأول الشأن الثقافي لاعتقادها (شعب بلا ثقافة لا مستقبل له)، كما تؤكد في كل لقاء، وفي أحد لقاءاتنا سألتني عن الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة، أجبتها هل تعرفينه؟ قالت (عرفته من أعماله، قرأتها في المجلات والصحف الفرنسية، والله اندهشت للحركة الثقافية في إمارة الشارقة ، ليست عاصمة الثقافة بدولة الإمارات العربية المتحدة فحسب، بل أصبحت عاصمة عالمية للثقافة عام (2019م)، ومعرض الشارقة للكتاب عالمي، إنها منارة ثقافية عالمية بجهود حاكمها الدكتور سلطان القاسمي، باركه الله، فهو مثقف ويدرك أهمية الثقافة في تطور الشعوب، يستحق التقدير لما يبذله من جهود لرفع مكانة الثقافة العربية في العالم، له مني كل الشكر والتقدير والعرفان فهو مناضل بالثقافة).

عبر هذا المنبر نوجه تحية إكبار للمناضلة الرمز المثقفة (جميلة بوحيرد)، ماسة مشعة في الوجدان الإنساني، سكنت قلوب العرب وأحرار العالم. يصعب الكتابة عن (جميلة) المناضلة الإنسانة، فكلما كبرت المحبة ضاقت مساحة الكلمات، تسمو بنضالها عن الكلمات، ملأت سماء الوطن العربي اعتزازاً بكفاحها من أجل الحرية، ومازالت تدافع عنها بحماس بنت العشرين.

لم تحظ سيدة بالعالم بالتكريم، كما حظيت المناضلة جميلة بوحيرد، منذ صباها، بعد خروجها من السجن الفرنسي في باريس عام (1962م) وحتى اليوم. كرّمها الزعيم الصيني (ماو تسي تونغ) عند زيارتها للصين، وتتذكر نصيحته عندما رفضت الرد في مؤتمر صحافي على سؤال عما قامت به إبان الثورة (أنا لا أتحدث عن الثورة ، فهي ملك للشعب الجزائري)، فقال لها ماو (اسمعيني يا رفيقة، أنا أكبر منك وعندي تجربة سياسية، أنصحك أن تتكلمي عن الثورة الجزائرية لآخر يوم في حياتك، وإذا بقيت ساكتة سيأتي من يتحدث عنها  بدلاً عنك، ولم يشارك بالثورة وربما يتهمونك  كنت ضد الثورة)، والرئيس جمال عبدالناصر دعاها للعشاء مع عائلته في منزله، والسوري ناظم القدسي، والعراقي عبدالكريم قاسم، وأمير الكويت عبدالله السالم الصُباح، في إطار حملة إغاثة دولية لإعمار الجزائر بعد الاستقلال، كلفتها بها جبهة التحرير الوطني، وآخر تكريم لها كان من الرئيس التونسي قيس سعيد، بتقليدها أعلى وسام للجمهورية عام (2020م) عرفاناً بنضالها، فضلاً عن تكريمها في مهرجانات دولية، منها مهرجان أسوان الدولي لسينما المرأة في دورته الثانية ( دورة جميلة بوحيرد 2018م)، وغيرها كثير، واعتذرت عن بعضها لأسباب تراها تتعارض مع مبادئها.

أطلق اسم جميلة بوحيرد على مدارس وشوارع ومؤسسات ثقافية، ومعالم أخرى في الوطن العربي، وقرأت أجيال في كتب التاريخ قصة كفاح (جميلة بوحيرد) ضد الاستعمار لأجل استقلال وطنها الجزائر، وكانت ملهمة لأكثر من (70) شاعراً عربياً، من بينهم نزار قباني، سليمان العيسى، نازك الملائكة، بدر شاكر السياب، لتبقى المناضلة جميلة بوحيرد أيقونة الثورة الجزائرية، ورمزاً للكفاح الإنساني لأجل الحرية. وصُنفت واحدة من أبرز خمس نساء مناضلات في القرن العشرين.

  • عن الشارقة الثقافية

شاهد أيضاً

أقنعةُ الهُوية والتّيه قراءة في «قناع بلون السّماء»

أقنعةُ الهُوية والتّيه قراءة في «قناع بلون السّماء» واسيني الأعرج   على الرغم من الضباب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *