*نوري الجراح
لندن – بنبرة رسالية، ميزت صوتها لنصف قرن، تقرع سلمى الخضراء الجيوسي جرس الخطر وبصوت ينزف أسى تتساءل عن سر تلاشي النخب بإزاء انفراط عقد العرب، وتقهقرهم في حاضر مشتعل، وكأنهم في لحظة غروب وجودي. والحوار مع سلمى يذهب في دروب شتى ويتناول موقفها من جملة القضايا الأدبية والفكرية العربية الشاغلة اليوم، ومنمنظور نقدي تتوقف، خصوصاً، عند بعض الأحكام والتصورات النقدية الخاطئة التي شاعت في حياة الثقافة العربية على مدار القرن العشرين، وتعنى بصورة العرب ومكانة الثقافة العربية لدى الآخر الغربي وما يحيط بترجمة الأدب من إشكاليات ومشكلات وبحاضر ثقافة العربية ومستقبلها.
الحداثة والوحدة
الجديد: لماذا تدهورت أحوال العرب حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من انحطاط وعجز وانسحاق أمام أعداء الأمة، وما هو السبيل للخروج من هذه المحن؟
سلمى الخضراء الجوسي: بدأت أحوال العرب بالتدهور عندما عاد الحكم العربي إلى التشرذم. الاتحاد قوة عجيبة وتفتيت الوطن رحلة نحـو التلاشي والانهيار. ها هو العالم، اليوم، يعدّ نفسه إلى صمود أمام عدوان الآخر، لأن عددا كبيرا من بلدانه أدرك أنه لا حَول ولا قوة له إذا بقي معتمدا على مساحاته المحدودة، فوحّدت أوروبا نفسها حتى تتمكن من مواجهة أميركا والصين وهما حيثيتان في منتهى القـوة والضخامة.
أما العالم العربي فهو ماض إلى مـزيد من التقسيم، مع أن الجميع يعرف أن تقسيم أيّ قطعة من الوطن هو خطة استعمارية ترمي إلى إضعاف العالم العربي والتحكم النهائي في مصيـره. ولكننا رأينا كيف يموج هذا العالم وينحني ويتفجر عصبية إزاء الادعاءات الفاسـدة التي ولجت إلى تفكيره دون عنـاء. شيء من الصعب تصديقه ومع ذلك رأيناه يحدث مرة بعد أخرى.
لا بد للعرب من وضع الشرط الأول للحياة العربية المعافاة تحت أنظارهم “كل ما يؤدّي إلى تقسيم ولو شبر واحد من الأرض العربية أمـر لا يحمل إلا الغـدر وقد وجبت محاربته بقوة العقل والقلب”.
الفاجع هو أن العرب لم يتعلموا شيئا من النكبات التي حلّت بهم في العصر الحديث وهو عصر التنوير والعلم في العالم؛ بقوا أكثر تراجعـا وسوء تقدير مما كانوا عليه في مطلع عصر النهضة، خضعوا لفساد كبير في الذوق والمعرفة وكرامة الذات وأهم من كل شيء في موقفهم من الحداثة.
تأمل كيف انثنى الربيع العربي على نفسه وسلَّم أمره لليد الخاطئة، ولم يقـدّم العرب المعاصرون، وقد اجتمعوا على رفض أوضاعهم المتردية، لم يقـدّموا صوتا قويا واحدا حاسم الوقع والإيمان، حكيما لا همّ له إلا الوطن، مطلعا على جميع النتوءات والحواجز والمعوّقات وبريئا منها، يدل على الطريق، صوتا أو عـدة أصوات متآلفـة تجتمع وتحمل الوطن العربي على أكفّها، تكـرّمه وتعتذر منه وتعدّه إلى حقبة جديدة من الحياة الكريمة التي تعرف طريقها. الطريق الوحيد وقد أصبح ينفر منا ويبتعد عنا هو طريق الوحدة والحداثة. كل ما عداه يقود إلى المذلة والتراجع. هذا لا يحدث بالتمنيات بل عن طريق الفكر اللامع الذي يعمل على توحيد هذه الأمة وبرء جراحها.
الأمة العربية ما زالت مستعـدّة ومتهيئـة ولكن تنقصها القيادة. أين خريجو الدراسات السياسية، أين حملـة الدكتوراه في العلوم السياسية والتاريخ؟ أين انكمشوا ولم يتبرع واحد منهم باقتـراح يمهد الدرب لحماية الوطن العربي وأنفسهم معه من تـردّ أكبر؟ ما هذه الأمة المنكوبة؟ أين قادتها ومثقفوها؟ أين العارفون؟
أصابنا الإرهاق
الجديد: لماذا لم يقم الفكر العربي بأيّ مراجعات حقيقية بصدد ما يجري؟ أين اختفى الفكر؟ أين اختفى المفكرون؟ وهل تظنين أن جيلا جديدا يمكن أن يخرج ليغير هذه الصورة الكئيبة للعرب اليوم؟ ولكن من أيّ نسل سيخرج هذا الجيل الفكري؟
سلمى الخضراء الجوسي: لا أستطيع أن أتصوّر أن هذا العذاب المقيم لن يدق أجراس الخطر الداهم في قلوب الشبيبة العربية، ولكنهم في حاجة إلى أصوات جديدة واعية تنير الدرب. كيف يُتّمت هذه الأمة في الفترة الأخيرة وصرنا نتكلم أولا وآخرا عن المذاهب والملل! نحن أمة كبيرة، بلادنا تمتد إلى مساحات كبيرة ولنا تاريخ معقد كثير الأحداث فليس من الممكن أن لا يكون عندنا تنويع في المعتقد الشخصي عبر هذا التاريخ الطويل. إنما المذهبية ليست إطلاقا همنا الأكبر. هل نترك الاستعمار الذي طوّقنا ومؤامرات الاستيطان والتهجير وتداخل الأجنبي في صميم حياتنا وتصميمهم الواضح (يا إلهي كم هو واضح لا تخطئه العين ولا الذاكرة) على تصفيتنا ونلتفت إلى مذاهب الناس حولنا، ونصدق الإشاعات التي يروجها من يريد تفتيت حياتنا وتمزيق شملنا وزرع الفتن في حياتنا؟
والحق إننا كأمة لا نجد حولنا أصدقاء كثيرين. إن انقساماتنا العريقة، وسهولة زرع الشكوك بنا، وغباء تعاملنا الرسمي مع العالم، وذلك الجبن التقليدي الذي نواجه به مظالم حياتنا أفقدتنا احترام الآخرين.
تسألني لماذا لم يقم الفكر العربي بأيّ مراجعات عمّا يجري؟ وأقول لك لقد أصابنا الإرهاق، وهو واضح في كل مجريات حياتنا. الإرهاق بأنواعه وقدرته على امتصاص ما تبقّى من قوة على المجالدة عندنا. ثم دخل عنصر المال إلى حياتنا. لقد كنا أكثر كرامة يوم كنا فقراء.
ولكن الإرهاق ليس عامل موت دائم لأنه قد يميت ليُحيي. وهذه الفوضى وهذا الهبوط لا يمكن أن يستمرا.
عندما قتل الرومان كاليغيولا قيصرهم المجنون وضعوا التاج على أول من لاقوا من الأسرة الحاكمة، وصدف أن يكون هذا هو المؤرخ كلوديوس، وكان رجلا عالما باحثاً، وكانت روما قد وصلت إلى الحضيض، فأوصى كلوديوس بعد تسلم إدارة الدولة أن يعطى حكم روما من بعـده إلى نيرو، (وكان نيرو المعروف بنيرون عندنا مجرما آخر وأسوأ من كاليغيولا) قائلا ما معناه “لن تستفيق روما حتى تموت ومن أقـدر من نيرو ليقضي عليها؟” وأحرقها نيرو.
على المنقلب
الجديد: كأنك، يا سلمى تريدين أن تقولي إننا وصلنا إلى الدرجة الأحط في تاريخنا. وإننا قاب قوسين أو أدنى من الغروب؟
سلمى الخضراء الجوسي: نعم، للأسف، نحن وصلنا هذه المحطة، وصلنا نقطة الخطر يا نوري. كل أسئلتك تومئ بهذا، وكل أحزان القلب. عالمنا العربي يعاني من خطر كبير داهم. لكن بأسنا مازال حقيقة موجودة في مكان ما. وهذا زمن المفكرين. نحن نحتاج إلى تغيير شاسع وهذا لا يقوم من دون فكـر حديث رفيع الثقافة لا يدور إلا حول الـوطـن العربي الكبير ومصلحته الأولى وينسى طموحات الأفراد الشخصية. العرب لم يتخلصوا من طموحاتهم الشخصية، مع الأسف الشديد. دائما المصلحة الخاصة تتغلب.
نديم البيطار
الجديد: سلمى، مادمت تتحدثين عن الفكرة العربية، وهي سراج فكرك وتطلعك وعملك على مدار أكثر من نصف قرن من النشاط اليومي في صلب الثقافة العربية وعلى مفترق علاقتها بثقافات العالم، كأني بك تستعيدين رماد صديقك نديم البيطار الذي أوصى بأن يذرّ رماد جسده هو اللبناني العربي على الحدود المصرية الليبية، كيف يمكننا أن نستخرج من رماد حملة الفكرة طائر الفينيق العربي وقد انفض عن الفكرة أهلها؟
سلمى الخضراء الجوسي: كأنك تسكن في كتابي، أول أمس فقط كنت أراجع بعض كتابات المفكر الكبير نديم البيطار فهالني أن يكون مفكر وحدوي كنديم البيطار اسما منسياً في هذا العالم العربي الواسع. إنه المثل الأعلى للفكر اللامع النقي، بنى فكره على مخطط وحدوي علمي مكين وتحدث لنا عن تجارب أمم متعددة اختارت الوحدة وأصبحت دولا لها شأن. عذّبني كثيرا أن يكون فكره النافذ قد وُضع اليوم على الرف. تعرفت عليه في أواسط الستينات في بيروت في بيت جورج حبش، ذلك الوطني النقي الآخر. وتحدثنا عن أوضاعنا ساعة من الزمن فتحمس نديم وفتح حقيبته وأخرج منها كتابا ضخما قدمه إليّ هدية. كان كتابه الفاتح، “الأيديولوجية الانقلابية”. أخذته إلى بيت أختي وأنا ضيفة عليها فلم أرفع رأسي أياما حتى قرأته، ثم كتبت دراستين عنه وتصادقنا نديم وأنا. والتقينا كثيرا وكان نديم يريدني أن أعمل معه طول الوقت، بذلك التكريس الكامل الذي اشتهر به والذي آنسـه بي. أنا حاولت ذلك كثيراً، فكان تعلقي بالأدب العربي والرغبة في خـدمته تمنع عنّي التكريس الكامل للعمل السياسي. حزنت كثيرا لاكتشافي أن ثمة شيئا آخر يحول دون تكريسي الكبير لخدمة فكرة الوحـدة. فقد كانت مقدسة عندي، أخذتها عن أبي وكان أبي دائما المثل الأعلى لي لمن يكرّس عمره لخدمة فكرة كبيرة يحتاجها الوطن. حـدّثت نديم بذلك فلم يقتنع به، وهل من الممكن أن يقتنع مفكر اعتنق فكرة كبيرة بأن ثمة ما يُعلـى عليها؟
غير أن القضية لم تكن عندي قضية مفاضلة، فلا شيء يعلو على فكرة الـوحـدة وأهميتها، ولكني أظن أن الأمر كان يتعلق بقضية العمل المتقن والتزامي بمحاولته، وإدراكي أن أفضل جهد أقدّمـه هو جهدي في خدمة الأدب. وأظن أن عملي بعد ذلك في مشروع بروتا وتقديمي لعشر أنطولوجيات كبيرة وعدد من الكتب الفكرية وعدد أكبر من الكتب الإبداعية المترجمة إلى الإنكليزية برهن على ذلك. ودوما كان شعاري “كرّس جهدك دائما لما تتقن”.
بعد ذلك بسنوات عندما كنت أدرّس في جامعة الخرطوم جاءني الشاعر محمد المهدي المجذوب كبير شعراء السودان يومئذ، جاءني متحمسا وقال لي “أريدك أن تتعرفي على شخصية فـذة، رجل يحاول تغيير العالم” أخذني إلى مجلس محمود محمد طـه، فدخلنا إلى ديوان ضيق عامر بالبخـور لم أستطع فتح عينيّ فيه كما يجب لكثافة جـوّه. وتحدثنا عن الحياة العربية طويلا. بعدها بثلاثة أيام جاءني المجذوب وأصر على أخذي مجدداً لمجلس ذلك الرجل الفذ الذي كانوا يلقبونه بالأستاذ “الأستاذ يريد أن يراك مرة أخرى”. فدخلنا إلى المكان نفسه العامر بالبخور وتحدثنا طويلا. وفي نهاية الجلسة قال لي الأستاذ محمود “تعالي واعملي معي. أنا أعرف عن حبك للأدب، ولكن ثمة مئات المختصين به، أما عملنا السياسي فقلة يستطيعونه. تعالي اعملي معي”، وكرر دعوته في لقاءات متعددة لاحقة: لا أذكر الآن كيف كنت أجيبه فأنا لا أراوغ أبداً، ولا أتقن فن المراوغة. وكنت أكرّم دعوته لي كثيرا وأكتب عنها لابنتيّ لينة ومي براحة ضمير، وكنت دائما تحت أنظار المجذوب التي كانت تلاحقني حذِرة متأهبـة تخاف عليّ آن أقع في “مطب” لا أستطيع التخلص منه. فأقول للمجذوب “تظلون ذكوريين لا تعرفون إمكانات المرأة” ويضحك المجذوب ويتابع ترقبـه.
تجربة السودان
تجربتك الأكاديمية في السودان كانت مؤثرة في جيل كامل من المثقفين. خلال عملي مع أكاديميي جامعة الخرطوم في 2005 أثناء تحضيري لندوة “الرحالة العرب والمسلمون” التي أشرفت عليها يومذاك، حدثت حوارات لي مع عدد من كبار أساتذة الجامعة ولم أدهش أبداً، ولكنني اغتبطتُ، مراراً، بينما كانوا يتحدثون لي عنك، وعن تجربة الثرية والمؤثرة هناك.. كيف تستعيدين تلك التجرية؟
سلمى الخضراء الجوسي: يهمني، الآن، لاعتبارات حديثنا أن أسترجع خلال إقامتي في الخرطوم كيف تكررت لقاءاتي بالأستاذ محمود محمد طـه، كنت أتحـدّث معه عن إيجابيات مشروعه وأهمها محاربته للاستعمار وللخنوع لبريطانيا التي آمن بعض السودانيين بأهمية الارتباط السياسي بها. محمود محمد طه كان يرفضها ويؤمن بوحدة سودانية تحت نظام جمهوري وهذا تحمست أنا له. على أني كنت أرفض بعض أفكار مشروعه الاجتماعية وأحدّثه عنها، وهو يأمل طيلة الوقت أن يقنعني بوجهة نظره. ولكن حماسته الدائمة يوم إقامتي في الخرطوم لكي أعمل معه وتدخّل الشاعر المجذوب ليحميني من أيّ ارتباط كهذا، كان المجذوب يعرف بدقة حدسه أني لن أطيقه، كلاهما بقيا في ذاكرتي بقوة متوهجة حتى اليوم.
في علاقتي الفكرية مع الأستاذ تأكّـد عندي بقناعة كبيرة أن بإمكان الإنسان أن يحترم من هو مختلف عنه، فقد كان تفكيره يؤول إلى الدين، وكان تفكيري دائما علمانيا. ولكننا بقينا على أخـوّة جميلة.
هذا أتذكره دائما هذه الأيام عندما أواجه أمواج الكراهيات المذهبية والسياسية عند الآخرين وأناقش، بصبر نافد، كل الآراء المجهضة التي أصبحت تعمر بها اجتماعاتنا بالناس.
حزنت كثيرا لإعـدام طـه، جزء من بربرية متخلفة تحاصر الفكر وتمنع الكلام. ولما كنت أعد كتابي الكبير عن “حقوق الإنسان في الفكر العربي” بحثت عن ورثته كثيراً إيفاء وتقديرا لجهده الفكري حتى تمكنت من الوصول إلى ابنته، وقادني الاتصال بها إلى الدكتور نور حمد، وبينه وبين الأستاذ مصاهرة، فكتب لي دراسة عن فكـر محمود محمد طه السياسي لكتابي عن حقوق الإنسان الذي نشرتُه باللغتين وصدرت طبعته العربية سنة 2002 وطبعته الإنكليزية سنة 2009.
الديني واللاديني
الجديد: سقطت نظريات كثيرة في العالم وسقطت معها الأيديولوجيات الكبرى، فتقهقر البشر إلى السرديات الدينية يملأون بها الفراغ الفكري. والنتيجة صراعات دينية في المنطقة، والصراع الحقيقي تحت قشرة الواقع هو صراع بين العقل والخرافة وبين العلم والجهل وبين الحرية والاستبداد. كيف يبدو لك هذا التقهقر قياسا على نشأتك وتربيتك وملاحظاتك المبكرة؟
سلمى الخضراء الجيوسي: دعني أعود لاستحضر أيام الصبا في القدس والتي لا أستطيع أن أنساها. كانت القدس في صباي تسير نحو حداثة أكيدة، منفتحة، عامرة بالخير والأمل. لم تكن تعتمد التفسير الديني لكل شيء ولم تكن تعتمد على مشيخة الفكر وإخضاعه للخرافة والتكفير وتحريم كل ما هو حديث. كان كل شيء في مكانه، أمينا على زمنه، يحترم حتى المتدينون جدا الحرية الشخصية في تبنّي الفكر الحديث وأساليب الحياة أو عدم تبنيهـا. كان عمّي متدينا جدا، زوجته ترتدي الملاية، وكنا نحن سافرات، ولم نصطدم قط معهم، فلا نحن انتقدنا أسلوبهم في الحياة ولا هم انتقدوا أسلوبنا. كان عند الجيل الصاعد شوق كبير إلى الدخول إلى العالم الحديث. وما كان ممكنا أن تعيش بيننا الأفكار التكفيرية والخرافات الدينية والمعتقدات الخالية من العقلانية. لست أذكر أني شاهدت مرة واحدة صراعا بين الناس على مذهبهم. فهذا شيعي وهذا درزي وهذا سني وهذا مسيحي وهذا إيراني وكل شيء في مكانه.
جميع هذه المذاهب تواجدت مرة في غرفة استقبال واحدة في حي النمامرة في القدس، البقعا التحتا في بيت سيدة مسلمة من أصل يهودي. وكنت أنا قد ذهبت بخبر إلى أمي وهي تزورهم، وشاهدت كيف استقبلت جماعة النساء قصة حادث لم أعد أذكر تفاصيله بطلته امرأة اقترفت جرما ما.
قالت راوية القصة إنها كانت مسلمة سنية، فشهقت بعض النساء، فقالت الراوية “العفو، كانت شيعية”، فشهقت سيدة أخرى، فقالت الراوية “عفوكم يا جماعة، كانت مسيحية”، فشهقت سيدة ثالثة، فقالت الراوية “عفوكم، الكَبر ينسّي، تلك السيدة كانت درزية”. فشهقت جميع السيدات احتراما لوالدتي، لأن والدتي كانت من عائلة لبنانية درزية، وانفجرت الغرفة بالضحك.
فانظر كيف تقبلت السيدات ذلك التنوع في المذاهب بطيب خاطر، وكيف انفجرن بالضحك على تعايش كل هذه المذاهب معا بسلام ومحبة في غرفة واحدة. انظر إلى طيبة القلب وتقبّـل الآخر. وما يحدث الآن يدل على تراجع مخيف.
خطوط حمراء
الجديد: هل هناك حقا سبيل لتخليص الفكر من الوقائع التراجيدية وعزله عنها، وتخليص أسئلة الثقافة من المأساة الجارية؟ هل هذا شيء ممكن؟ علميني يا سيدتي أعطيني الضوء لأعرف كيف افصل بينهما. أو أجيبي عن الأسئلة الجارحة.. كيف نخرج من الحفرة؟
سلمى الخضراء الجيوسي: الـوضع صعب جدا يا عزيزي نوري والحفرة التي وقعنا فيها عميقة ومحاطة بالشوك. ولكن يجب أن نخرج منها. لا مجال لتأجيل ذلك. السقطة الخطرة تعيد تركيبة فشلها إذا لم نلتفت إليها. ولكن لكي تنجح أيّ محاولة علينا إعمار هذا الخراب بأن نكون مجهّزين فكريا لما تحتاجه هذه الأمـة. لا بديل عن الاستعداد الفكري المدروس الواعد الحكيم الذي يعنى بالأمة لا بالأفراد، الذي يرفض التقسيم في أيّ مكان من الوطن العربي، الذي ينكر العداوات المذهبية، الذي يعامل المرأة كشخص مستقل كامل، الذي يقرأ الخطوط الحمراء. دعنا هنا نعيد قراءتها:
1- كل ما يتحدث عن الإقليمية وكأنها وضع نهائي: خط أحمر.
2- كل ما يتحدث عن أيّ تقسيم ولو لشبر من الوطن: خط أحمر.
3- كل ما يتحدث عن المذهبية: خط أحمر.
4- كل ما يعيق المرأة العربية عن دخول الحياة الحرة: خط أحمر.
5- كل ما يعيق الإنسان عندنا من الرؤيا الحداثية على كل صعيد: خط أحمر.
ولكن حتى لو حرصنا على هذه الشروط سيظل وضعنا مقلقلا حائرا ما لم يرفدنا الفكر السليم النافذ الذكي الراجح المبني على العلم وعلى حداثة الـرؤيا بمخطط فكري شامل يرفدنا، ولن يصلح شيء سواه. بهذا يمكننا أن ننفذ من الويل الهاجم علينا.
قضية الإرهاق
الجديد: لنتحدث في انجازاتك من بينها أنطولوجيا شعرية عربية بالإنكليزية تغطي قرنا من الشعر العربي هل تشعرين أننا في حاجة إلى أنطولوجيا جديدة تغطي شيئاً جديداً في الشعر وتكشفه للعالـم؟
سلمى الخضراء الجيوسي: العصر الأدبي الحديث عندنا يتميـز بتلاحق الإبداع ومحاولة دائمة لابتكار الجديد ولذا فإن القيام بترجمة متتالية للإبداع العربي يبـدو أمرا جديـرا بالمتابعة. ما يجب الحرص عليه هو دقة الانتخاب فلا يعرض على العالم (بما في ذلك على العالم العربي نفسه) إلا الجيـد. في منتصف القرن الماضي كان الوضع أكثر دقة وحرصا على مناصرة الأجـود، ثم انفتح صنبور الاختيار على شعث، ولم يعد الذوق الأدبي على نفس المستوى، لسبب أو لآخـر. لعل أحد الأسباب هو انقسام العالم العربي إلى حيثيات متعددة فتتشبث الأقطار بمن تعتقد أنهم أهم مبدعيها وتفرضهم على القارئ العربي عامة.
من المهم أن يدرك المهتمون بقضية الإبداع العربي أن الأدب عندما يكون معافىً، يخضع، في كل أجناسه الأدبية، إلى القانون الفني الذي يتبطّن جميع التغيّرات في الفن والحياة وهو قانون الإرهاق الذي يصيب جميع التجارب. كل شيء عرضة إلى الإرهاق. فحتى النبات والحجر عرضة له فهو لا ينحصر بالإنسان. الإرهاق يكمن وراء كل تغيير. فنحن نخضع له خضوعا خارجا عن إرادتنا لأنه يهاجم عافيتنا الداخلية ويبدد قدرتنا على الاستمرار ويتمكن، دون أن نلحظ نحن، من إدخال الضجر إلى نفوسنا من الشيء المعيّن فنبتعد عنه عفويا. السؤال الذي استبـدّ بي عندما أدركت ما يفعله الإرهاق في النفس هو: كيف استمرّ الشعر العربي قرونا طويلة خاضعا لشكل معين هو شكل الشطرين وكيف بقي ألق هذا الشكل في النفوس دون أن يدخل الإرهاق الجمالي إليها؟ فحتى الآن وبعد أن وجد الشعراء العرب أشكالا جديدة لشعرهم، يظل ثمة افتتان بهذا الشكل وقافيته الموحّـدة ولذة في سماعه. وأظن أن الإجابة على ذلك هي أن لهذا الشكل جمالا فنيا من ذلك النوع الذي لا تتلاشى جمالياته وتأثيرها في النفس مع الـزمن. وهو أمر ملازم للفنون الرفيعة جميعها والكامن وراء استمرار الإعجاب بها عبر القرون.
الشعر العربي في تاريخه الطويل خضع، بدرجات متفاوتة، لشروط الإرهاق في عناصره المتعددة وأهمها المعنى، واللغـة، والصـورة. هذه حدث فيها تغيير مستمر على مر الزمن ولكن الشكل بقي محافظا قرونا طويلة على جماله وقدرته على التأثيـــر على المستمع دون أن يصيبـه الإرهاق الجمالي.
البوكر العربية
خذي مثلا جائزة البوكر العربية (ولا أعرف ما حسن الابتكار باستعمال اسم جائزة غير عربية لأرقى جوائزنا؟ ألم يعـد لدينا أي اسم يصلح لهذا المقام؟). لقد وجدت انتقاء الفائزين غير موفق أحيانا. ووجدت الميل لتفضيل الكتابة الحافلة بالكآبة أو بتصوير الهجين والملوّث والحياة المضطربة والشخصيات الهشّـة والعلاقات المارقة يتغلب على كل ما هو منعش وواعد ونقي.
الحياة العربية المعاصرة، على إشكالاتها الكثيرة، وبسبب هذه الإشكالات، تحتاج إلى نوع جديد من الإيمان بإمكان الخيـر والصفاء التغلب على كل هذا الخراب. لقد بدأ نجيب محفوظ بعض رواياته بهذا النهج المعتم فلا تحتوي هذه الروايات ومنها “ثرثرة فوق النيل” على شخصية رئيسية واحدة عامرة بالخير ولا نرى في جلّها إلا دروب الشر وتهافت البشر. صحيح إن محفوظ خدم قضية الرواية خدمة سبّاقة فهو الذي أرسى قواعدها كفنّ لم يكن قبلـه قد وجد له قاعدة في الأدب العربي الحديث، وإنه على هذا الإنجاز الكبير لا على محتوى رواياته استحق جائزة نوبـل. إلا أنه أرسى أيضا هذا الاتجاه السلبي نحو ما هو متهافت حد الجريمة أحيانا فتغلب هذا المنحى حتى اليوم على عدد كبير من الروايات العربية.
ترحيب كبير
الجديد: ما طبيعة المصاعب التي واجهتك في نشـر الأعمـال التي قدمتها بالإنكليزية، لا سيما في ظل جهل عالمي كبير بقيمة الأدب العربي؟ وهل كان من السهل عليك العثـور على ناشرين؟
سلمى الخضراء الجيوسي: أعترف أن النشر في أميركا كان بالنسبة إليّ سهلا كالحلم. لم أبحث قط عن ناشر لأيّ مجموعة أو كتاب أعددناه. كنت أعمل على سـد فراغ واسع وكان العالم يشعر منطقيا بأن ثمة كارثـة حلّت ذات يـوم بأدب هذه الأمـة العربية الكبيرة فاختفـى ألقـه. وساعد على هذا إنكار العرب أنفسهم لأدبهم وتراثهم فضاع منا كل شيء. نشأ جيلي لا يعرف أبعاد هذه الجريمة بل صدّق أغلبنا هذه الأقاويل التي شاعت حول التراث ولم يدهشه غيابنا الأدبي والثقافي عن العالم.
نعم، كان النشر سهلا، وكانت أعمالنا مطلوبـة ولم أعـانِ قط من قضية النشر. مما يدل على أن الشيء الذي تحتاج إليه المكتبة العالمية سيجد دائما طريقا إليها إذا كان الانضباط الأسلوبي واختيار الموضوع موفّقين. المهم في مـادة النشر أن تكون ذات قيمة فنية وإنسانية ولا تخضع لشيء آخر.
صقلية العربية
الجديد: أعرف أنك تعـدين عملا موسوعيا مهما عن صقلية العربية. حدّثينا عن هذا العمل؟
سلمى الخضراء الجيوسي: لا بـد أنك تعرفين كتابي عـن الأندلس (الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس). هذا الكتاب الذي صدر سنة 1992 لتكريس مرور خمسمئة سنة على سقوط الوجود الإسلامي الرسمي في الأندلس نال نجاحا كبيرا. وعملت بعده على كتاب صقلية بمساندة من مؤسسة محمد بن راشد في دبي وأنجزته منذ أكثر من سنتين. والكتاب يتحدث عن جميع مرافق الحياة في صقلية الإسلامية فكما تعلمين أنا لا أترك، إن استطعت، منحىً من مناحي الحضارة العربية السامقة دون إبرازه.
هذا الكتاب عن صقلية الإسلامية تعبت عليه كثيـرا وهدفي أن ينال النجاح الذي ناله كتابي عن الأندلس. إذ أن على هذا الكتاب طلبا مستمرا لشمولية معالجته ومشاركة أفضل المختصين بالمواضيع المختلفة التي تناولها. كتاب صقلية جاء مثله بعد تعب كبير، لأن المختصين بصقلية كانوا أقل بكثير من أولئك المختصين بالأندلس.
انتهيت من العمل على كتاب صقلية منذ أكثر من سنتين، ولكن العمل ما زال لم ينشر مع أن الناشر الكبير نفسه الذي نشر كتابي عن الأندلس كان وما زال بانتظاره، ذلك لأني حسب العقد مع الرعاة سلمتهم الكتاب لدى الانتهاء منه لينشروه، ولكنهم ولكونهم في ظني يرعون، عدديا، مشاريع كثيرة تـأخر كتاب صقلية، وأصبحنا الآن مهددين بخسران كبير إذا سحب عدد من الباحثين العرب والأجانب الذين كتبوا لنا فيه دراساتهم ونشروها عند ناشر آخر، وهم يطالبون بنشره باستمرار.
لقد أوجد هذا التأخير فيّ حـذرا جديدا لم أعرفه من قبل من الاستمرار بهذا العمل الملزم، أنا التي بدأت به وأعلنته ووجدت أكبر سند معنوي له من كتابنا ومبدعينا.
والواقع أنني دخلت إلى هذه المعركة وحدي في البـدء، وعملت بقوة وثقة ونشاط وعفوية لا تعرف التردد، وكل غايتي هي أن نسـدّ فجوة كبيرة في الثقافة العالمية، التي لم نكن قد انتزعنا لنا فيها مكانا في العصر الحديث.
جهل وإنكار
الجديد: لكن كيف تنظرين إلى طبيعة علاقة أهل الثقافة العربية بفكرة الحضور في العالم، وأعني بهم المؤسسات والمرجعيات الثقافية القادرة أو التي يفترض أن تكون قادرة على دعم النشاط الفكري والثقافي والأدبي العربي على مفترق اللغات الأخرى، ما الذي تفتقر إليه هذه العلاقة؟
سلمى الخضراء الجيوسي: أشد ما يعكر صفوي هو جهل العرب بتاريخهم الحضاري. إنه ليس حيا في ضميرهم ولا يدركون أن الحضارة العربية كانت هي القوة المشرقة في عالم القرون الوسطى غربي الهند وعنها أخذت أوروبا.
حضارة القرون الوسطى غربي الهند كانت حضارة العرب المسلمين والنهضة الأوروبية بدأت في قرطبة العربية، مركز المعرفة والفن والعلم يومئذ ولقرون طويلة. وقد شاركت صقلية الإسلامية كثيرا في تمكين هذه الحضارة واستيعابها لدى الأوروبيين.
ما حدث هو أن الأوروبيين حاولوا التعتيم على دورنا الأمثل في نشر حضارة الإنسان. ولكننا لا نعرف تاريخ صراعنا معهم وكيف نبع من كراهيتهم لنا لأسباب دينية وعرقية ومن إصرارهم على دحرنا.
عندك أولا الحروب الصليبية ثم خذي قصة صقلية مثلا: حاول الامبراطور فريدريك الثاني 1194 – 1250 الذي حكم صقلية وإيطاليا وامتدت مملكته بعيدا، شرقا إلى القدس وغربا إلى ألمانيا، حاول محو اسمنا بعد أن أخذ الأوروبيون المعرفة والعلم والفن والأدب وإدارة الممالك منا. ولكن فريدريك الثاني عتّـم علينا بشدة ونجح. كانت كراهيته كراهية عرقية ودينية عميقة.
ثم بعد ذلك وقع العرب منذ منتصف الألفية الثانية حتى سنة 1918 تحت الاستعمار العثماني فعانوا من فجاجته وعتوّه أربعمئة سنة. واشترك العثمانيون في عملية التعتيم علينا رغم أن الأتراك اعتنقوا الإسلام. وكانت تلك القرون كافية لضمان فقدان الذاكرة الكبير الذي أصاب العرب وما زال فعالا عند الكثيرين. ليس أسوأ وأخطر على حضارة أيّ أمة من تسلط من كان أقل مدنية منها عليها بحكم قوة السلاح أو المال.
التجربة الإنسانية
الجديد: أنجزت العديد من الأنطولوجيات بالإنكليزية. قدّمت من خلالها الأدبين القديم والحديث. ما الذي أثـار قارئ الإنكليزية في عملك؟
سلمى الخضراء الجيوسي: لا ينجح أيّ عمل أدبي في النقل إلى من هم خارج الثقافة المعينة إلا إذا كان ذا قيمة أدبية جيدة تخطت أبعاد مكانها إلى أبعاد شمولية يتفاعل معها الآخر. وأول شرط هو اختيار العمل الأدبي القادر على مخاطبة الآخر خارج حدود ثقافته المعيّنة ومكانها المحدود. والحق هو أن طريقة معالجة الموضوع لا الموضوع نفسه، هي الأساس الذي ينجح معه النقل من ثقافة إلى ثقافة أخرى. ثمة تجارب يصعب نقلها إلى ثقافة أخرى وأمثّل على ذلك بالتجربة المتعلقة بالتقاليد العشقية من حضارة إلى أخرى. ولكن رغم صرامة بعض هذه التقاليد في قرية يونانية مثلا فإن كازانتزاكيس في رواية زوربا اليوناني أبدع في تصويرها بشكل تمثّلها القارئ الإنكليزي وتفاعل معها كليا. والسر في نجاح كهذا هو قدرة الكاتب على تخطي ما هو محلي وخاص إلى ما هو شمولي يخاطب الأسس المتكررة في التجربة الإنسانية. إن أساس العمل الأدبي الناجح هو قدرته على التركيز على شمولية التجربة وتفاعلها مع القارئ. ويجيء بعد ذلك أولا دقة الترجمة وثانيا قدرتها على نقل الأدب إلى أدب في اللغة الأخرى.
السرديات القديمة
الجديد: أنت تشرفين على مشروع بروتا /شرق غرب في الترجمة ما هي أحدث المشاريع التي هي قيد الإنجاز اليوم؟
سلمى الخضراء الجيوسي: عندي عدة كتب جاهزة للنشر أو تكاد تكون، منهـا كتاب “السرديات العربية القديمة”، وهو الأول من نوعه في أيّ لغة لكونه يتابع نشوء القصة عند العرب وتطورها. كتب لي فيه أقوى المختصين من عرب وأجانب بتشعبات هذا الموضوع الرئيسي المهم. أهم ما فيه أنه يلغي الرؤيا الخاطئة بأن العرب لم يكن عندهم إلا الشـعر، وأننا أخذنا القصص من ثقافات أخـرى. ولعمري أن هذه لفكرة كانت راسخـة في عقول العرب الحديثين رغم معرفة جميعهم، على ما أظن، بوجود القصة عند العرب من الجاهلية.
عندما كنا صغارا كان يمر قرب منزلنا صاحب “صندوق العجب” رخيم الصوت، فنخرج نحن الصغار قروشنا التي خبأناها في مكان أمين في البيت انتظارا لمروره، فإذا سمعنا صوته يغني “أمّا اتفرّج يا سلامْ” أتينا بقروشنا إليه ثم جلسنا على المقعد الطويل أمام صندوقه وتفرجنا على الزير سالم وكليب وعنترة وعبلة إلخ يتخاطبون أو يتقاتلون وقلبنا يخفق متعة ولذة. ليس من ثقافة إلا وعندها حكايات وقصص. الكتاب الذي أشير إليه عن السرديات العربية القديمة يروي تاريخها.
القص القديم
الجديد: آخر ما قرأت لك هي مقدمة عظيمة عن القص العربي القديم. ما أكثر ما يمكن الاعتداد به في هذا القص؟
سلمى الخضراء الجيوسي: هناك الكثيـر. ولكن لنبدأ أولا بسلبيات ما أحاط بتاريخنا القصصي من عدوان وجهل وسوء تفسير! شيء لا يصـدق. ما يدهشني هو أمران رئيسيان: الأول هو الببغاوية النقدية، والثاني هو الجرأة على الحكم دون أيّ تمحيص أو دراسـة، دون أيّ معقولية. كانت المعلومات التي قررها وسجلها بعض مؤرخي الأدب العربي تنص على أن العرب لم يعرفوا القصص وكان كل همهم هو الشعر، كلام تبسيطي خال من أيّ معرفة طبيعية بنمو الآداب وتفرع أجناسها.
كنت في مكتبة هارفارد ذات نهـار لمراجعة “كتاب التيجان في ملوك حميـر”، وهو كتاب مشهور ومرجع لا غنىً عنه لدارسي الأدب العربي القديم منذ مطلعه. وإذ أقلبـه للمرة الأولى فوجئت باكتشاف عدد كبير من القصص من مختلف البُنـى والأجناس تملأ صفحاته. “ما هذا؟” و”من أين جاء كل هذا القص العجيب الذي ينتمي إلى عصور متعددة من تاريخ القصص العالمي ومن بينها قصص جاهلي على ما يبدو”. قررت استعارة الكتاب ولم أنم تلك الليلة. أضـد هذا يتفوه المنكرون؟ لم أصدق عيني. وجدت فيه قَصَصًا متنوعا ينتمي إلى عصور عديدة من الأدب فمن قصص الأساطير والأحداث العجائبية التي تنتمي إلى عصر البدايات القصصية في تاريخ القصة العالمية إلى قصص الحب العادي التي تكاد تكون قصصا من زماننا. كتاب مليء بالمدهش يمر على أجيال متعاقبة من القصاصين، مـدى قرون طويلة. كنت قد قرأت كتابا مهمّا حول نشوء القصص الغربي وتطوره هو كتاب “تفصيل قواعد النقد” لنورثروب فـراي Anatomy of Criticism” by Northrop Frye.
كيف يصح؟ هل هذا ممكن ومعقول؟ صحيح أن الشعر هو الأقوى في الذاكرة ويأخذ المكان الرئيسي في زمن شفاهة القول قبل معرفة الكتابة ولعل العرب سبقوا غيرهم في رقيّ إنتاجهم الشعري عبر العصور الشفوية الطويلة وتغلب الشعر على سواه من محفوظات الذاكرة للسهولة الأكبر في حفظه ولكن هذا يجب أن لا يعني أن كل موهوب أدبيا كان يحيل إلى الشعر وكأن الانتقال من النثر إلى الشعر أمر يتحكم به الإنسان! وكأن القص لم يكن جزءا طبيعيا من الحياة الأدبية، ومن الموهبة التي تولـد مع الإنسان.
وعودة إلى تقوّل مؤرخي الأدب عندنا في القرن العشرين بأن القصة كانت معدومة عند العرب: برز في مصر كتّاب شهيرون على صعيد مصر والعالم العربي منهم أحمد أمين في كتابه “فجر الإسلام” وأحمد حسن الزيات في كتابه “تاريخ الأدب العربي” وسواهما ممن حاول دراسة التراث الأدبي العربي الضخم على ضـوء أفكار سلبية غير مدروسة. هذه الأفكار قررتْ أن العرب القدماء لم يبدعوا القصة أبدا لأن العقل العربي لم يكن مهيأً للتفكير وتنظيم مادة الكتابة بل كان ارتجاليا صالحا للشعر فقط (وكأنّ الشعر هو حقا ارتجالي خال من أيّ فكر أو تنظيم! هل من الممكن وصف المعلقات نفسها بالارتجالية؟). وتعلّم كتابنا هذا منهم وكرّروه. وكان أغلبهم يؤمن بفقر الأدب العربي في مجال القصة رغم وجود القصص الجاهلي والإسلامي وقصص القرآن أمامهم.
محطات أساسية
الجديد: ماهي المحطات الأساسية في مشروع الترجمة الذي نهضت به حتى الآن وهل تعتبرين أنك أنجزت ما طمحت إليه من ترجمة وتقديم الأساسيات إلى مكتبة الثقافة العربية في الإنكليزية؟
سلمى الخضراء الجيوسي: لم يكن ما قدمناه قليلا، وقد عملنا حول خطة مدروسة أن نمثل جميع الأنواع الأدبية والمبدعين العرب أينما كانوا. كان مشروعا عربيا بامتياز. ولم نبخل بالعمل الضروري قط على أيّ من كتبنا ولذا فقد جاء أغلبها كبيرا جدا ولكن الناشرين الأجانب لم يترددوا في أخذ هذه الكتب ونشرها. كانت أغلب مجموعاتنا المترجمة لا تقل عن 500 صفحة وبعضها كمجموعة القصة العربية الحديثة وصل إلى الألف.
أنجزنا في النهاية في ظل مشروع بروتا عشر مجموعات مترجمة في الشعر والقصة والمسرح جلها أكثر من 500 صفحة. كما أنجزنا في ظل “رابطة الشرق والغرب” أكثر من ستة كتب حضارية على الأقل أذكر منها الآن “حقوق الإنسان في الفكر العربي”، و”الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس″ و”السرديات العربية القديمة” و”الحضارة العربية الإسلامية في صقلية” و”المدينة الإسلامية” في جزأين. و”القدس مدينتي”، وكان هذا العمل يستحق التزام القائمين على الثقافة العربية به لا وضع عراقيل لا معنى لها أمامنا. ولكني لا أظنهم توقفوا لحظة لتـأمل العمل الذي قمنا به وخططنا له بدقة بل صرفه، أولئك المسؤولون عن الثقافة العربية، دون دراسة أو تـأمل. ومضت السنوات. ولم أتمكن من إقناعهم بضرورة إنشاء مركز للتـرجمة من العـــربية نتواصل فيه بعـدد من الثقافات الرئيسية فننقل ثقافتنا إلى عشر لغات عالمية.
كنت قد درست الوضع جيدا واتصلت بعدد من المترجمين العالميين الذين كانوا يقومون بترجمات من العربية إلى لغاتهم وكان حماسهم لهذا شديداً، ولكن المسؤولين عن الثقافة العربية صرفوا نظرهم دون دراسة أو تمحيص، مع أن كتب المشروع موجودة على رفوف المكتبة العالمية يعتمدها أساتذة العربية والدراسات الإسلامية في الجامعات الأجنبية بقوة. ولكن العرب صرفوا نظرهم عن فكرة المشروع دون تلكـؤ ودون أن يدرسوا الخلفية الناجحة التي تكمن وراء فكرة المشروع، بل صرفوها، جميعهم، دون دراسة او اهتمام.
المريع جدا في الأمر هو أنني لم أتلـقّ كلمة اعتذار واحدة من أيّ منهم على الإطلاق، كلمة واحدة تكشف أنهم، أولئك المسؤولين، يعرفون شيئا عن الانقلاب في وضع الكتاب العربي في الخارج الذي حققه مشروعنا.
لم يعد الآن ثمة فرصـة لي لعمل كهذا على ما أظن. لو قمنا به في وقته لكنا أسسنا علاقات ثمينة مع العالم وأنجزنا كثيرا. أظن أن عـدم استجابة المسؤولين لدعوتي كانت تنطلق من أمرين: الأول هو ذكورية طاغية يصعب عليها الاعتراف بأن أمرا كهذا يمكن تسليمه لغير الرجال رغم وضوح عملي وما حققه من تغيير ونجاح وإعلام مبني على صدق الخبر وموضوعيته ودقة الاختيار، والإصرار على الجودة، والاجتهاد الدائم في إعطاء أفضل مـا يمكن إعطاؤه، والثاني وهذا من أخطر المواقف، عدم إيمانهم بقيمة الثقافة العربية وأهمية تاريخها.
كانت هذه الرؤيا المزدوجة الجارحة منغرزة في العقول ولا بد من قلقلتها ثم تحويلها إلى رؤيا نقيضة، ذلك لأن العرب كانوا هم قادة الثقافة والأدب في جزء كبير من القرون الوسطى وقد حان الوقت أن يعرفوا ذلك.
ولكن الزمن أصبح عدونا نحن العرب الآن. لقد وقعنا في مصيدة التاريخ ولن ينجّينا إلا معجزة كبيرة. كل شيء جميل ومعافىً يتفلّت منـا. وأرجو أن أكون مخطئة لم أقرأ تاريخنا المعاصر جيدا. أرجو ذلك من كل قلبي.
__________
المصدر: “العرب” /ينشر بالاتفاق مع مجلة “الجديد” الشهرية الثقافية اللندنية