المقعد الخائن

(ثقافات)

المقعد الخائن 

قصة قصيرة

*صفا حسين*

 

أقلت كان لقاء عابراً على مقعد واسع في حديقة عامة والمقعد يشهد على ذلك؟

تأملت المقعد بعدما تأكدت مراراً من موقعه، إنه هو، كل ما فيه جميل وجذاب يغري للجلوس عليه. منذ سنين طويلة لم أدخل إلى الحديقة كنت أعتقد أنها للأطفال فقط فمن حقهم اللعب والتنزه والتعرف إلى الطبيعة المحصورة للأسف في هذه الحديقة ومثيلاتها الأبعد عنها.

 

أتلمس المقعد، تعبره أصابعي ببطء شديد ممزوج بالكثير من الشك، نظيف، أنيق، خشبي، متين، استطاع الصبر والصمود أمام عوامل الطبيعة، لونه الأنيق الاخضر – لون ابنتنا المفضل – مستوحى وينسجم مع لون الشجرة الشامخة خلفه، فللأشجار شموخ يتواضع فقط لثمارها وربما لأعشاش العصافير وهذا ما لا تعرفه الأعشاب الصغيرة الغضة ولها أيضاً خيانات لا نعرفها النبتة الصغيرة أيضاً، إذ كيف تفئ للجميع، أليس توزيع فيأها عشوائياً خيانة ؟ لماذا لا نستطيع التمييز في أحقية الفيء؟ هل فيؤها للخائن الذي استتر بظلها كفيئها للمتعب الذي التجأ إليها؟

أُخرج منديلاً أمسح به المقعد من بقايا غبار حملتها نسمات الهواء ربما في محاولة منها للهجرة عن الأرض والاستيطان فوق المقعد الذي فشلت في الانتماء إليه أمام رفض المستخدمين للمقعد ومع ذلك تكرر محاولات الاستيطان دائماً بلا تعب، أجلس عليه راضية في محاولة لتبرير شكوكي، يطالعني في طرفه مسمار كبير صدئ تعب أو ملَّ من عناق الخشبة المتصابية فانسلخ عنها قليلاً موجهاً دغدغته إلى من يحاول الجلوس فوقه، أبتعد عنه باتجاه الوسط فلا حاجة لي في مزاح مع مسمار لا يفقه ألم شكي وظنوني، في مكاني الجديد على بُعد عدة سنتمترات ثمة خلاف آخر بين دفتي ظهر المقعد جعلهما كالحراب المدببة في ظهر الجالسين عليه، سأبتعد قليلاً عنهما فما جئت لحل مشاكل السنين المتراكمة فوقه متسائلة ًكيف تختلف مكونات المقعد الواحد فيما بينها وكيف يصل الخلاف إلى هذه الدرجة؟

 

على بعد عدة سنتمترات أخرى انتقلت إليها بل انسحبت إليها في محاولة أخيرة مني لاستجرار ندمي على سوء ظني، كان قد تدلى غصن قوي قاس كاد ارتطام رأسي به يصيبني بدوار بعدما أفقدني توازني من هول المفاجأة، أيها المجرم ! منذ متى وأنت هنا، ربما قضيت شطراً طويلاً من صباك وأنت متكئ على المقعد حتى نسيت أنك تنتمي إلى الشجرة لا إليه؟!

 

أنسحب قليلاً سنتمترات أخرى صرت في وسط المقعد تماماً حيث المكان الوحيد الصالح للجلوس فلا يتسع إلا لشخص واحد فقط أو ربما لشخصين متلاصقين، متلاصقين أكثر مما ينبغي، ربما متلاحمين أو متحدين أجل، هذا حقيقي، كما رأتهما عيناي، لا مجال للشك ولا للندم لأجلهما، لقد تأكد الأمر لي فليس المهم مساحة المكان بل المساحة المستخدمة فيه وكيفية الاستخدام، أيها المقعد الخائن كيف سمحت لهما بالجلوس كيف تجاورا؟ كيف تلاصقا؟ كيف تهامسا؟ أنت شريك بالخيانة، أنت صانع الخيانة وسببها، أنت خائن أيضاً.

 

لست بجميل لست بنظيف لست بأنيق، لونك الباهت لا يعجبني، لا تحبه ابنتي، تستحق غباراً أكثر ووحلاً أكثر ومطراً أكثر وتحتاج تنظيفاً أكثر، بل إنك عصي على التنظيف، رائحتك من رائحة العفن الذي يعشش حولك وينبت فوقك بل إنك العفن ذاته، أجل أنت العفن لست مقعداً في حديقة عامة فما أنت، ما أنت، ما أنت؟

 

أنفضُ ثيابي لقد اتسخت منك واتسخت كثيراً صارت تشبهك رائحتها مثلك، هل أنت حاوية قمامة، الدماء تنزف من جرح رأسي ومن قلبي أيضاً، مضخة دماء وألم أنا، نافورة دماء، شلال دماء وأنت ذابحي رائحة عفنك تشرخ رئتي تقتلني، أنت خائن، السهم الذي يخترق قلباً رُسم على ظهرك، هو لا يخترقه بل يخترق قلبي الحي الآن والذي صار مذبوحاً، لست مقعداً للمحبين ولا لطالبي الهدوء والتأمل بل ملجأ للخيانة أنت.

 

أتمنى اقتلاعك أيها المقعد القذر فمكانك ليس هنا، سأنتزع مساميرك الخائنة التي هجرتني، سأكسر دفتك الناتئة التي حاربتني، أيها المقعد لماذا صرت طرفاً في الخيانة؟ كيف سمحت لمكوناتك أن تخرج عن سياق عملها فتجعلك ساحة شاسعة للخيانة؟

 

وحدي في الحديقة لا مارة ولا مصابون مثلي، ربما لست في حديقة فالخيانة غيرت كل المعالم، لعلي في مكان آخر.

————————————————

* – صفاء حسين قاصة سورية من طرطوس، مدرسة رياضيات، صدرت لها مجموعة قصصية بعنوان “ثمار الهجير”، دار حوران، سورية،  ٢٠٠٧، وأخرى بعنوان “ريمي تحب وسيم”، دار الهندسة والأدب، سورية،  ٢٠١٧.

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *