(ثقافات)
(أبناء السماء) للروائي يحيى القيسي
غربة الكائن ؛ البحث عن السكينة
*محمد معتصم
الرواية خطاب سردي يقترح رؤية للعالم، ورؤية للذات، بصيغ متنوعة تضمن استمراره، وتمنحه فرصة الدفاع عن مكانته بين الأجناس والأنواع الأدبية وأشكال التعبير المجاورة له. ويمكن القول بأن الخطاب الروائي قد عبر، حتى الآن، محطات كثيرة، وجرَّب أدوات وتقنيات تقلبت بتقلب الأحوال الخارجية المحيطة به، وقد تَنَوَّعَ الخطابُ بتنوُّعِ مَقاصِدِ الكُتَّابِ، وتَغيَّر بحسب تغير مفهوم النص.
هناك أنماط من الخطابات الروائية اختارت تجنب فكرة الكتابة القصصية القائمة على إمتاع القارئ وتسليته في أوقات فراغه، وأخرى اختارت الاشتغال على التكوين الخارجي للنص الروائي، وهناك روايات نحتْ مَنْحَى الرواية الثقافية ذات الأسئلة الوجودية الكبرى التي تبحث في حقيقة الكائن، سواء أكان هذا البحث مرتبطا بالكائن في جوهره كفكرة وكمفهوم، أو كان بحثا خاصا بالكائن في سياقاته الثقافية والتاريخية والسياسية المتغيرة. إن الخطاب الروائي الثقافي الوجودي يقوم على التساؤلِ القَلِقِ: من هو الكائن في حقيقته؟ هل هو وعاء قابل للتشكل والامتلاء أم أنه وجود مكتمل وليس في حاجة إلى زيادة، مكتفٍ بذاته ولا يعترف بالنقصان؟ وهل هناك علاقة ما بين الكائن وبين محيطه الخارجي السياسي والاجتماعي، وبينه وبين موروثه الثقافي وتمثلاته الذهنية الثابتة؟ فما طبيعة هذه العلاقة؟ ومن يؤثر في الآخر؟ هل يتحكم الكائن الكامل في المحيط الناقص أم هل يشكل المحيط الخارجي بظروفه ومتغيراته المتحولة حقيقة الكائن؟
ومن الأسئلة الأساس في الخطاب الروائي الوجودي سؤال الحرية: هل الكائن حر وبالتالي فهو قادر على اختيار مصيره أم أنه مقيد ومستعبد؟ فإذا كان حرا فإنه مسؤول عن مصيره، وهو بذلك قادر على تشكيل ذاته حسب ما يراه هو ذاته لا ما يمليه عليه الآخر في شتى تجلياته؟
+ + + + + + +
في رواية “أبناء السماء” ليحيى القيسي يقع “بطل” القصة المحورية نهب الأسئلة الوجودية القلقة التي تبحث عن أجوبة يقينية ومطمئنة، عن تلك الأجوبة التي تردم الهوة وقد اتسعت بفعل الخواء والحيرة. وفي رحلة البحث عن الطمأنينة تمر شخصية البطل بتجارب واختبارات، وكل تجربة أو اختبار يقوم بإفراغ الكأس من جديد، وعوض إرواء الظمأ تشتد اللهفة للماء ويشتعل العطش إلى المعرفة. يكون بهذه الطريقة الكاتب قد قصد إلى الزج ببطله في تجارب واختبارات لا تقوم على مبدأ التراكم وترسيخ الخبرات بل جعل تجاربه واختباراته تنهض على الخسران وعلى النسيان وعلى المحو. ما يفسر هذه الظاهرة بناء الكاتب شخصيته الروائية بناء اكتمال وامتلاء، أي أن “البطل” في بداية الحكاية كان مقتنعا بالمعرفة التي حصلها خلال مراحل التعلم، واطمأنَّ للحياة التي اختارها أو انتهى إليها، وهي حياة كما قال عنها السارد:” كنتُ معلما أدرِّسُ القيم الفضلى للطلبة في النهار، وصيادا للكنوز في الليل، وكانت حكايات جِرار الذهب والكهوف الملأى بالجواهر الرومانية واليونانية تلهب خيالي!” ص (13). لقد درس بطل الحكاية الإطار في الاتحاد السوفييتي السابق وتخصص في هندسة الطائرات، وتشرب الفكر الشيوعي وآمن به، لكنه عند عودته إلى بلده الأردن تم توظيفه معلما “للعلوم في مدرسة ابتدائية في إحدى قرى صحراء المفرق الحدودية.” ص (18). وهي الطريقة المثلى لتعطيل طموح أية إرادة متنورة تسعى إلى توعية أهلها وتنمية وطنها وخدمته بنشر معرفتها وخبرتها المتحصل عليها.
لعل استسلام الشخصية الروائية لمصيرها واقتناعها بحياة التعليم وسقوطها في فخ البحث عن الربح السريع والاغتناء السهل مما يدل على أن الثقة والاقتناع المتحدث عنه أعلاه ليس إلا صورة مبدئية خادعة تتستر على قلق داخلي، وحيرة، وارتجاج سينهار مع أول اصطدام بتجربة جديدة مختلفة، وهو الاصطدام الذي سيزعزع اليقين بالفكر المادي وبالشيوعية، يتمثل ذلك في قول صديقه المصري أحمد الحسيني الذي درس بدوره بجامعات الاتحاد السوفيتي سابقا وتخرج منها طبيبا، وتزوج إحدى بناتها “أولغا“:” أعتقد أنني فقدت إيماني بالشيوعية بمعناها المادي المجرد وأفكارها الجافة، وأن ثمة أملا من نوع ما ينتظر البشر، وليس التراب والفناء، والعماء الأبدي!” ص (98).
كيف يفقد الإنسان اليقين في قيم آمن بها وتشربها مع الهواء وانتظمت سكناته وحركاته بحسب نبضها؟ لا بد من وقوع صدام قوي في داخل معتقده، وفي طريقة تصريفه الأمور. إن الجري وراء الكنوز المطمورة أمر طبيعي ما دام الفكر المادي لا يؤمن إلا بالمنفعة ولا يفكر في الطريقة التي يؤتى بها، لكن كيف يتحول التفكير مادي إلى تفكير غيبي أو خرافي بالأحرى؟
يبدو أن الرسالة المتضمنة هنا أكبر من بناء شخصية روائية أو تشكيل فضاء متخيل، والرسالة تكشف عن التحول الذي شهده العالم بعد انهيار أحد أهم الأقطاب التي كان يحفظ توازن القوى في العالم، والأمر الذي أدى إلى “الخراب” الحالي، وتوالي الفجائع الإنسانية، وتبدل الخرائط الجغرافية، وانتشار الفكر الانتهازي، وارتفاع رصيد المنفعة الشخصية، وتقلص هامش الحريات الشخصية: التفكير والتنقل، والاعتقاد.
لا تحدِّدُ حيرة واضطراب حياة وفكر الشخصية الروائية الرسالة المتضمنة في الخطاب الروائي، ولكنها تبين “غربة” الكائن المعاصر، الحائر والتائه في صحراء اللا معنى، الفاقد للموجه والهادي والمقصد. إن رواية “أبناء السماء” للكاتب الأردني يحيى القيسي، كما سلف، رواية ثقافية تخوض في قضايا جوهرية تمس حقيقة الكائن المعاصر وهو في قلب أتون الحياة القاسية المتحولة القاحلة، وتتطرق لقلق الكائن المحاصر من جديد بأسئلة شروط وجوده الجديدة التي في ظل واقع لم يعد يؤمن بأي شيء، فقد تحطمت جميع الأصنام وتحطمت معها كل منظومة القيم التي أزهرت حدائقها في نفوس الكثيرين، وملأت الأذهان والقلوب بالفرح الحاضر والأمل المستقبل.
لقد اهتز الكائن وتزلزل يقينه، وبات أقل ثقة في الحاضر، أما المستقبل فمجرد نفق طويل لا أحد يعرف متى يرتفع ضوء المشعل. لكن خبرة الكائن السابقة بالرغم من تصدعها فإنها تسعف في طرح الأسئلة من زوايا مختلفة وجديدة من قبيل السؤال حول البديل الفكري، والخلاص الجديد، والسند الداعم للنهوض من جديد، وهو ما ستسعى نحو بنائه الشخصية الروائية المحورية في قصة رواية “أبناء السماء“.
+ + + + + + +
في رحلة البحث عن اليقين والخلاص وخروج الكائن من “غربته” المعاصرة رسم السارد خطة تتألف من المحطات المتتالية:
-
البحث عن الكنوز المطمورة والمرصودة سعيا إلى الاغتناء السريع والبحث عن الثراء السهل.
-
اللقاء بأحمد الحسيني والتعرف على تجربة “الصاعدون” والعوالم الخفية والمبتلعة.
-
التعرف على كاثلين ومجموعتها، ةجاذبية الطاقة الداخلية للذات.
-
اللقاء بالأب يوحنا الناصري واكتشاف العوالم الخفية للذات والطاقة الكهرمغنطيسية للجسد.
-
مجالسة شيخ الطريقة الصوفية نور الدين في مدينة حلب السورية.
-
البحث عن المعلم “المحب”، ولقائه الباهر.
تبدأ الحكاية في رواية “أبناء السماء” من حالة الاضطراب عكس الروايات التقليدية والواقعية التي تقوم على الاطمئنان وحالة الثبات وغالبا ما كانت هذه الروايات تُفْتَتَحُ بوصف المكان الذي تجري فيه الوقائع، أما سارد الحكاية في “أبناء السماء” فقد بدأ بوصف الوقائع والأحوال التي مرت بها الشخصية المحورية، وهي أحوال تستلهم في بنائها منطق الحلم أو الكابوس، ذلك الحلم الذي يراه كل إنسان وهو يركد خوفا من وحش يلاحقه فتخذله قوته الخائرة، هكذا تفتتح الرواية:” كل ما أذكره أنني كنت مطاردا من قوى خفية، تتربص للفتك بي…!” ص (9)، ويضيف في الصفحة التالية:” لكنني مثقلٌ بالشراب والغثيان، ومطاردة من مجهول..!” ص (10). هذه البداية تعتبر عتبة نصية داخلية هامة لأنها تؤشر على المسار الذي ستختاره وقائع الأحداث وهو مسار الكتابة ذات البعد الأسطوري أو الكتابة التي لا تطمئن إلى المعرفة اليقينية والمطمئنة إلى النتائج. ولهذه العتبة النصية وظيفة سردية أخرى تتمثل في التأثير على الأحداث، والانحدار السريع نحو القضية المحورية في الرواية، وهي استدعاء الحكاية الموازية للحكاية المحورية والأساس، وتتجلى في الزج بشخصية أحمد الحسيني الطبيب المصري المقيم بمدينة عَمَّانَ في صلب الحكاية.
بعد حالة الاضطراب يعود المحكي إلى مساره الخطي عبر الاسترجاع والتذكر من أجل ترميم محكي الشخصية المحورية “بطل” القصة. ضرورة هذه الخطوة تبرز في تدوين سجل معلومات سيستفيد منها السارد في رواية الوقائع الغريبة القادمة، وهي من جهة أخرى عبارة عن ميثاق تعاقدي بين السارد القارئ من أجل بناء موحد ومشترك للمعنى العام للقصة، وسيسهم بناء معنى موحد ومشترك في الحد من غرابة الوقائع وجَعْلِهَا مقبولةً، وسيقود إلى الفهم المشترك، ومنه إلى تصديق مضمون المحكي والتأكيد على قصديته، لأنها قصديةٌ مشتركة قدْ ساهم في إعلاء صرحها المتخيل السارد والقارئ معا.
من المسلمات التي يتعاقد حولها السارد والقارئ نصوغها كأسئلة، لأن بدون التسليم بها لا يمكن للمحكي الغريب أن يصدَّقَ:
-
ما حدود الواقعي والغرائبي في السرد والحياة؟
-
هل القديم تقليدي ومتخلف والحديث معاصر ومتقدم؟
-
ما حقيقة الإنسان؟ ما حقيقته طاقاته الخفية التي تظهر عند الشحذ؟
-
هل يمكن لِمَنْ آمن بفكر أو مذهب أن يتخلى عنه؟
-
هل هناك طريق واحد للمعرفة أم هناك طرق شتى؟
-
هل تلك الطرق متضافرة أم أنها متفرقة والمنفصلة؟
هذه بعض الأسئلة التي تؤرق “بطل” قصة “أبناء السماء” ومحاولة الإجابة عنها هي ذاتها مسار المحكي الإطار، الذي يبدأ بمحفزَيْنِ: لقاء أحمد الحسيني والتعرف على تجربته الخاصة، وحقيبة أسرار الحسيني التي أمنه عليها قبل عودته إلى بلده مصر الأخيرة. يُسْهِمُ المحفز الأول في عرض تجربة فريدة ستزعزع يقينية معتقد “البطل” وتطوح به في مجاهل العوالم الخفي المدركة بغير الحواس الظاهرة، أو الآليات المتعارف عليها أو الآليات التي تمتلكها شخصية “البطل“. هناك عوالم أخرى آهل بسكان مختلفين وعلومهم متطورة تفوق ما توصل إليه الإنسان المعاصر بحضارته وعلومه وتقنياته المتطورة. من هنا جاء السؤال السالف؛ هل العصر الحديث أكثر تطورا من العصور السابقة والقديمة التي تعرف عندنا بأنها متخلفة وعصور جهل معرفي (جاهلية مثلا)؟ والجواب من خلال التجربة الفريدة لأحمد الحسيني الطبيب المصري ذي التخصص المناسب لمثل هذا الجنوح الماورائي، يقول:” لقد عرفت بحكم بعض صلاتي شيئا من ذلك، إضافة إلى تخصصي في “الباراسايكولوجي” جعلني على معرفة بما يجري ولو قليلا…” ص (72)، وعلم “الباراسيكولوجي” يعرَّفُ بأنه “علم الخوارق” – لا يعتبره البعض علما حقيقيا- ويدرس الظواهر التي لا يصدقه عقل الإنسان ومن بينها الظاهرة الشائعة والمعروفة ﺑـــِ”توارد الخواطر“. ويضيف إلى علم الخوارق منطق الاحتمالات الرياضي.
بمثل هذه العلوم التي تقع في المَابَيْنِ، وباستحضار العوالم المبتلعة (قارة أطلنطيس) والافتراضية، وبوقوفه بتأملاته الشخصية حول عجائب الدنيا العمرانية مثل أهرامات مصر أو المايا، وكذلك عمارة البتراء المدينة التي بناها الجن، وباستشهاده ببعض ما جاء في القرآن الكريم من أفعال خارقة قام بها الإنسان، أثث السارد فضاءه المتخيل والمحتمل. وبتنقله بين محطات تختلف من حيث التجربة الروحية في الارتقاء والسمو النفسي والذهني، ومن حيث موضوع التدريب والتمرين كالتأمل والتنفس العميق، وكذلك التفريغ عبر الحركة والكلام، واكتشاف الذات بتفجير طاقاتها الداخلية الخفية المجهولة والكامنة أو من خلال تحفيز الجسد على التحمل…إلخ، يكون السارد قد أدخل الشخصية الروائية في تجارب واختبارات الغاية منها البرهنة على أن للإنسان طاقات خفية لا تدركها العلوم المادية ولا تلمسها الحواس الظاهرة، وللتدليل على أننا لسنا وحدنا في هذا العالم الممتد. لكن تبقى كل تجربة وردت في سلم ارتقاء الذات نحو المعرفة الصافية لم تقد نفس “البطل” نحو الاطمئنان والسكينة بل كانت تلقي به في لجة الشك والريبة والحيرة، يقول:” فما عرفته لا يمكن أن يجعل المرء مطمئنا أبدا.” ص (107). بمثل هذه العبارة يكون السارد واصفا الحالة والتجربة والاختبار دون الغوص في التجربة ذاتها كما نجده مثلا في كتابات نحت هذا الاختيار وأذكر من بينها رواية نيكوس كازانتزاكيس “القديس فرانسيس الفقير إلى الله” التي يعايش فيها السارد تجربة القديس وهو يرتقي “الطريق الصعبة نحو الفضيلة“.
+ + + + + +
الحقيبة التي أودعها أحمد الحسيني أمانة عند “البطل” تبرز أهميتها على مستوى بناء الخطابات المتخللة للنص السردي، وهي كثيرة منحت النص السردي هوية غير متجانسة من حيث نوعية الخطابات التي ترادفت على نقل الوقائع الغريبة وتضافرت من أجل بناء الحبكة، منها:
-
الخطاب التاريخي الذي يقول عنه جون مشيل آدم بأنه يميز بالدرجة الصفر في التخيل، والمقصود من ذلك أنه خطاب ينقل الأحداث والوقائع بكثير من الصرامة ولا تتخلله تدخلات السارد (المؤرخ)، إلا أن دراسات جديدة وخاصة الدراسات التأويلية ونظرية التلقي والقراءة لم تعد تؤمن بذلك الزعم لأن قصدية الكاتب (السارد أو المؤرخ) تظل شديدة الحضور وتلعب أدوارا مهمة في توجيه مسار سرد الوقائع بالانتقاء والترتيب وتنظيم اشكال الخطاب. ويبرز الخطاب التاريخي في رواية “أبناء السماء” في المجتزأ الآتي:” وأحسست بأن حكاية هذه المدينة ومن بناها وحضارة سكانها، تشبه الأهرامات ما تزال لغزا لم يكتشف بعد تماما، منذ جاءها الرحالة السويسري جون لويس بيركهارت عام 1812 حاملا “شاة” فوق رقبته لتقديمها أضحية في مقام هارون، مقنعا البدو الذين كانوا يسيطرون على المنطقة بأنه مسلم، وقطع مسافات طويلة ليوفي بنذره، وهم يحاولون إقناعه بالعودة، قائلين له بأن الجن هم من بنوا هذه المدينة!” ص (160). هذا المقتطف يمتزج فيه المحكي السردي التخيلي مع الخطاب التاريخي الذي يستمد خصوصيته من اعتماد المعينات الزمكانية غير اللسانية المشار إليها أعلاه (العبارات المضغوطة) واعتماد أسماء العلم.
-
خطاب الرسائل الذي يتميز بمحكيه الذاتي حيث يصبح التخييل أقل درجة كما في الخطاب التاريخي، لأن الرسائل غالبا ما تتضمن معلومات وأخبارا شخصية حميمة أو عامة، ومن الرسائل الواردة في رواية “أبناء السماء” نجد رواية أولغا ثم رسالة سيرجي التي تجتزئ منها النموذج التمثيلي الآتي:” … أعرف أنكَ متعب منذ رحلت أولغا عنك، ليس باليد حيلة، لقد حاولت معها كثيرا، لكنها أصرت على البقاء هنا، تصور أنها اتهمتني بإفساد حياتك بالأفكار الغريبة! أصبحت تفكر خلال الأيام الأخيرة بالعمل في مدينة أخرى بعيدة عنا، لقد غدت غريبة الطباع بعض الشيء، وها هي قد مضت ثلاث سنوات وأنتما في هذه الخالة من الانفصال…” ص (89). ويضيف في سياق الرسالة ذاتها:” لا أكتب إليك تحديدا عن هذا الأمر بل لأخبرك بأنه آن الأوان لأزور مصر، لقد اشتقت حقا إليها بعد نحو عشرين عاما من البعاد، إضافة إلى أمور أخرى استجدت سأخبرك بشانها حين قدومنا…” ص (89). يبقى “الخبر” خطابا مميزا بالقصر والقصدية البارزة، وتحجيم تدخل الذاتية والتخييل، أما الرسالة (فن الترسل) فيستمد أهميته من تقليص المسافة بين السارد (المرسل) والمتلقي الذي يخبره بمعلومات شخصية وترقى في كثير من الأحيان إلى إفشاء الأسرار التي تثير اهتمام وتلفت انتباه القارئ الفضولي الطامح إلى تجميع المعلومات والأخبار. لكن قيمة خطاب الرسالة في رواية يحيي القيسي تتمثل في إضاءة جوانب خفية من حياة (الورقية والمتخيلة) الشخصية الروائية المحورية (أحمد الحسيني) أو الثانوية (أولغا)، وتقوم بترميم جوانب من الحكاية المركزية، وتسعى أيضا إلى التحفيز ودفع السرد نحو تحول جديد كما في رسالة سيرجي التي ستتولد عنها متواليات سردية مشوقة كانشغال الصحف المصرية بخبر اختفاء سائحين روس في ظروف غامضة، وكتصوير أحمد الحسيني لظاهرة خارقة لا يقبل بها العقل والمنطق المتعارف عليه حيث سيرحل السياح (الصاعدون) إلى فضاء آخر أرقى وأجمل وأبهى من العالم الذي كانوا يحيونه وهم متدمرون من الخراب المحيط به على مستويات عدة أبرزها تدني القيم واشتعال نار الحروب بين بني الإنسان الذين بخسوا بدورهم…
-
خطاب المذكرات الذي يتميز بالتوثيق وهو أيضا درجة التخييل فيه محدودة ويكاد يكون تلوينا على الخطاب التاريخي العام والمهمل (الشعبي والشفهي)، لكنه ورد عند يحيي القيسي تلوينا على الخطاب السير ذاتي وهو ما نلمسه في المقتطفين القصيرين:” ….. لم أستطع استيعاب ما أفشاه سيرجي لي من أسرار!” ص (70)، ويضيف:” لقد عرفت بحكم بعض صلاتي شيئا من ذلك، إضافة إلى أن تخصصي في “الباراسايكولوجي” جعلني على معرفة بما يجري ولو قليلا، تصور أن بيننا من يعتقد بأن الأمريكان طوروا أطباقا طائرة سريعة جدا، وهي التي نراها…” ص (72). هذان المقطعان القصيران يبرزان طبيعة السرد في النصوص المتخللة وهي دعامات تقوي المتن القصصي في رواية “أبناء السماء” وتقوم بإجلاء السرد المهيمن على السرد في رواية يحيي القيسي الذي تدل عليه الكلمات المضغوطة التي يصدر عن المتكلم المحيل على ذاته. أي أن السرد في رواية “أبناء السماء” ينحو جهة المحكي السير ذاتي بالرغم من الوقائع الغريبة التي يحيل عليها. وأن موضوع البحث في الحكاية الإطار والحكايات المجاورة لها ليس سوى بحثٍ في الذات، وسؤالٍ حول مصيرها، وسؤالٍ عن ماضيها وموروثها وتاريخها الذي تكون عبر الطفولة وسنوات التمدرس بجامعات الاتحاد السوفيتي السابق.
-
خطابات (قصاصات الجرائد والتعليق على الصور وسرد ووصف أحداث الفيديو) كلها تدل على أن الخطاب الروائي في “أبناء السماء” اختار التعبير عن محتوياته السردية عبر تنويع الخطابات لتغيير زوايات القول، أي قول الحقيقة (السردية) بإمكانيات متعددة، وبأن هناك طرائق متنوعة وكثيرة لقول الحقيقة أو التعرف عليها، وتعدد الخطابات بالإضافة إلى ترميم الحكاية وإضاءة جوانب غامضة من المحكي ومن بنية الشخصية الروائية فإنها تسعى وعبر رواية “أبناء السماء” إفشاء حقيقة أخرى هي أن المعرفة ليست واحدة وليس ما نراه وما تعرفنا عليها بالطرق العلمية هو الحقيقة الواحدة الممكنة بل هناك حقائق أخرى خفية لإدراكها ينبغي تغيير أدوات البحث.
+ + + + + +
تقوم رواية “أبناء السماء” على تعدد المحكيات وتنوع الحكايات المروية، لذلك نجد كل شخصية في كل محطة من محطات توقف رحلة “البطل” تروي حكايتها الشخصية أو تروي جزءا منها، وأهم المحكيات الواردة في الرواية تختصرها في العناوين الآتية:
-
محكي “البطل”، قوام الحكاية الإطار.
-
محكي أحمد الحسيني، الحكاية المهيمنة والمحكي الموازي لمحكي “البطل”.
-
محكي سيرجي، الجسر الرابط بين عالمي المادية والروحاني الخفي.
-
محكي كاثلين، والطريق إلى اكتشاف الطاقات الخفية للنفس.
-
محكي الأب يوحنا، الطريق إلى اكتشاف الطاقة الكهرمغنطيسية للجسد.
-
محكي آمنة، الانفتاح على التجربة الصوفية.