في انتصار الشاعر..رحلة البحث عن الشيطان المختبئ في سحابة


*عواد ناصر

يعيش الشاعر في رحلته الكثير من المصاعب، التسهيلات، الإحباطات، التوقعات، الخيبات.. والانتصارات أيضاً.

رحلة الشاعر مسار حياته عبر الزمان والمكان، في اللغة وذاكرة اللغة، التي هي ذاكرته عندما يعملان سويةً. ذاكرتان ترتبطان ببعضهما بعضاً، تغذي كل منهما الأخرى أو تحرم الأولى الثانية من غذائها الغني. أفضل مثال هنا هو العمل على الكومبيوتر: ذاكرة الكومبيوتر محايدة، جامدة، لا تنحاز ولا تحيا إلا بذاكرة الإنسان.. الإنسان الذي يستعين بذاكرة الكومبيوتر عبر ذاكرته الشخصية.
في تجربة كل شاعر، مهما كان عظيماً، قصائد خائبة وأخرى ظافرة، على أن المقياس هنا هو ميزان الشاعر لشعره، ومن الطبيعي أن الأمر نسبي لأنه يرتبط بوعي كل شاعر لتجربته وحساسيته النقدية لعمله، على ضوء شعر العالم، والمقارنة، هنا، ممكنة، بل ضرورية.
في جلسة مقهى، ببيروت، قبل شهر، تقريباً، سألني الصديق عباس بيضون عن سبب قلة كتبي الشعرية فقلت: كل كتاب شعري هو لحظة عري ثقافي وجمالي أمام أنظار الآخرين، وأنا أستحي من، بل أخشى، مثل هذه اللحظة.
علق عباس: إن نشر الشاعر ديواناً شعرياً هو بمثابة وقاحة فعلاً.
فهمت من تعليق عباس أن على الشاعر أن يعد للمليون قبل أن يعمد إلى نشر كتابه (ديوانه) الشعري وسط هذا النتاج الضخم والمدهش من شعر العالم، عبر مسيرة الشعرية الإنسانية في عموم المعمورة.
ماذا يعني أن ينشر شاعر عشرات الكتب الشعرية ولم يبلغ ما بلغه آرثر رامبو في كتاب واحد أو كتابين هزت العالم.. ولم يزل العالم يهتز حتى اليوم؟
لست متأكداً من هذا السؤال/ الاستنتاج. لكن ما أنا متأكد منه هو أن الشاعر، أي شاعر مسيرة مسعى شاقة لتحقيق تلك النبضة النادرة في أقصى كُريّة دم داخل الدورة الدموية في جسم المتلقي.
كتب الشاعر الأمريكي ديفيد بايسبايل (شباط/ فبراير 1964) ويعده النقاد مفكراً كبيراً، يقول: “يقودنا وعينا الشعري، أحياناً، إلى نقطة الحضيض من أنفسنا، ليرفعنا، من ناحية أخرى، إلى ذروة إدراك أنفسنا وقرائنا، أو إلى أبعد كهف في عقلك وقلبك”.
بايسبايل يعدّ هذا، رغم تناقضه، بمثابة نوع من انتصار الشاعر الذي يتمثل بالتغلب على العقبات التي يواجهها عند كتابة الشعر “لأنه يساعدك على أن تكون شاعراً لتنتصر على حافات وعيك الكثيرة” – حسب تعبيره. 
عدا تلك (النبضة النادرة) يزوّد الشعر متلقيه بالمعرفة، فثمة جانب وثائقي في القصيدة يكشف مجريات حدث ما، حكاية حب أو جريمة اغتيال أو تدمير مدينة أو إعادة بنائها. 
ثيمات عدة توفرت في قصائد الشعراء وهم ينظرون إلى العالم بحنان أو غضب، بريبة أو قلق أو عدم رضا.
ربما حملت كلمة واحدة سؤالاً معرفياً حتى لو كان لغوياً محضاً.
سألني صديق: لماذا استعمل شيخنا الجواهري كلمة “طِماح” بدلاً من “طموح” في بيته القائل: “يا دجلة الخير قد هانت مطامحنا/ حتى لأدنى طِماحٍ غير مضمون” مع أن العروض واحد ولا يضطرب؟
اجتهدت بأن قلت: لا فرق في المعنى، لكن ثمة فرق صنعه حس الشاعر بين حرفي الألف والواو.. والحرفان من حروف العلة (المد) لكن كل حرف من هذه الحروف يخرج من منطقة مختلفة في حنجرة المتكلم.
ولأن الجواهري “يغني” قصيدته قبل كتابتها بنوع من الحداء البدوي فهو “يسمع” الكلمة، وتفضيله لـ “طماح” على “طموح” يعود – كما أظن – إلى أن حرف الألف في الأولى يتيح مدى صوتياً أكثر من الواو في الثانية. لاحظ حركة شفتيك عند نطقهما.. تكاد الشفتان تنطبقان عند نطق الواو لتشكلا دائرة صغيرة جداً بينما تنفتحان أكثر عند نطق حرف الألف.
في (لسان العرب) لا فرق في معنى الكلمتين، كلتاهما يعنيان “الارتفاع”:
رجل طَمّاح: بعيد الطرف، وقيل: شَرِهٌ.
وطَمَحَ بَصَرُه إِلى الشيء: ارتفع.
وفرس طامِح الطَّرْفِ طامِحُ البَصر، وطَمُوحه مرتفعه؛ يقال: فرس فيه طِماحٌ؛ وأَنشد الأَزهري لأَبي دُوادٍ: طويلٌ طامِحُ الطَّرْفِ، إِلى مِقْرَعةِ الطلبِ وطَمَحَ الفرسُ يَطْمَحُ طِماحاً وطُمُوحاً: رفع يديه؛ الأَزهري: يقال للفرس إِذا رفع يديه قد طَمَّحَ تَطْميحاً.
وكل مرتفع مُفْرِط في تَكَبُّر: طامحٌ، وذلك لارتفاعه.
والطَّماحُ الكِبْرُ والفخرُ لارتفاع صاحبه.
وبَحْر طَمُوح الموج: مرتفعه.
بعد هذا وذاك للجواهري الكبير أسبابه الشخصية وذائقته الشعرية التي تجعل من شعره “جواهرياً”.
شخصياً، استفدت من تقصي الكلمة في القاموس وبحثي عنها.. أليست في هذا “معرفة لغوية” أمدتني بها القصيدة؟
إن قراءة الشعر أو الاستماع إليه يرفعاننا إلى حال أعلى مما نحن عليه، ويجعلاننا أشبه برواة الشعراء وحوارييهم، سواء في نعمة القصيدة أو نقمتها، أو ما يطلق عليه بايسبايل: “الظروف القصوى للوجود الإنساني” وهذا نوع من المعرفة لا بإجمالية تلك “الظروف” بل بخصوصية كل منها.
للإنصاف، لا يقتصر انتصار الشاعر على ما حققه من مجد أدبي لتجربته، بل إنه (الشاعر في لحظة انتصار) أتاح لنا مشاركته فرح هذا الانتصار، اجتماعياً وجمالياً، سواء حرضنا على الجمال أو وعدنا به أو في حدود لحظة التغيير التي انتجتها قصيدته في عقولنا وقلوبنا، إذ يفترض بالمتلقي أن يتغير بعد قراءة القصيدة أو الاستماع إليها، لأن القصيدة تمثل كشفاً معرفياً “سواء أكانت المواد الخاصة بالشاعر حميدة أم خبيثة” – على وفق بايسبايل أيضاً.
ثمة، أيضاً، مسؤولية المتلقي في البحث وأن لا يبقى سلبياً أمام ما غمض عليه، إذ أن تراكم الأسئلة يولد تغييراً معرفياً، وكلما كثرت أسئلة المتلقي أصبحت احتمالات المعرفة أكثر في طريق البحث عن “ذلك الشيطان المختبئ في سحابة” كما ورد في قصيدة لوليم بليك.
إن مدى اتقان استعارات الحياة المعاصرة يوضح لماذا يصبح المرء شاعراً.
المعرفة، أخيراً، شكلاً من انتصار الشاعر على نفسه – أولاً – هي السعي لاغتنام أكثر ما يمكن من عطاءات الوجود، بما فيها الأحلام والهلوسات والمخاوف.. كل مكابدة تتيح معرفة حتى مكابدة الألم.
مواجهة الخوف من مستلزمات القصيدة المنتصرة.
على أن الخيال أهم مصادر انتصار الشاعر.
________
*المدى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *