(ثقافات)
البترا …جمال الحضارة
صفاء الحطاب
حضارة البترا مدهشة في كل تفاصيلها الهندسية والعلمية والحضارية المنفذة بجماليات راقية وخالدة.
زائر مدينة البترا هو في الحقيقة ضيف على التاريخ العريق والمشرف للمكان قبل أن يكون ضيفا على الأردن الجميل وأهل المنطقة الكرام.
المكان الذي يخفي عظمة عبقرية الإنسان القديم في التعامل مع بيئته الصعبة ، وتذليل كل المشاكل بمهارة، وتحويل المكان إلى جنة في قلب الصحراء الجافة.
ومن أبرز جوانب تفوق الأنباط تعاملهم العبقري مع
المياه مثلا والقدرة على تخزينها وتوزيعها فوق الأرض ومعرفة صفاتها وخصائصها الطبيعية والكيميائية وتفاعلها مع البيئة والكائنات الحية، بناء على دراسة دقيقة تدل عليها التطبيقات الناجحة التي تم اكتشافها في مدينة البترا،
كما وصف الباحث السويسري( أولي بلفالد) -الذي قضى أكثر من سبعة عشر عاما في البترا- عمل الأنباط في هذا السياق قائلا: “إنه وضْع شبيه جدا بذاك الذي يسود عندنا في الجبال السويسرية، حين يهطل المطر، تصطدم المياه بالصخور على وجه الخصوص ولا تستطيع التسرّب إلى أي مكان، وتتحول في غضون دقائق إلى إعصار لَـوْلَبي ضخم يدمِّر كل ما يعترض سبيله. وللسيطرة على هذا الوضع، شيَّـد الأنباط السدود، وقد استحدثوا نظاما فريدا من نوعه في العصور القديمة”
وقد عمل الباحث بلفالد على إعادة بناء نظام الرّي الذي استحدثه الأنباط. وكان أكثر ما يميِّـز هذا النظام بشكل لافت، القناتان الموجودتان على جانبيْ الوادي والموصولتان بحوض تتجمّع فيه المياه الفائضة. أما الحيطان والجدران المنخفضة العديدة، التابعة للسدود، فتوجد في الأودية الجانبية الوعْرة.
ومن أمثلة التفوق النبطي في هندسة المياه:
أولا: بناء السدود لحماية المدينة من الفيضانات، ومد شبكة قنوات بناء على دراسات علمية دقيقة تسمح للماء بالتدفق في الأنابيب الفخارية نزولا من أعالي الجبال دون أن تنفجر، لتوفير المياه لسكان المدينة ومزارعها وضيوفها وقوافلهم على مدار العام ،
ثانيا: اكتشاف الحمام العربي النبطي من قبل أفراد بعثة أثرية أمريكية عام 2016، أمام أحد المكتشفات في المنطقة الشمالية للمدينة الوردية، على شكل حجرة، تبين أنها عبارة عن حمام بخار، يتم تزويده بالمياه عبر شبكة قنوات فخارية وبنظام علمي دقيق. وحجرة الحمام المكتشفة هذه تزخر بتفاصيل تؤكد أنها كانت ملتقىً، ومكانًا للاستراحة، والتواصل بين الناس، مما يجعل الحمام العربي النبطي منتدىً ثقافيًا بامتياز..يحتاج إلى دراسة أعمق لتحديد سماته كحمام نبطي.
وهو ليس أول حمام نبطي تكتشفه بعثات أثرية، فقد سبق أن اكتشفت حمامات أخرى في البترا، لكن ما يميز الاكتشاف الجديد أنه شيد قبل احتلال الرومان لمدينة البترا عام 106 ميلادية بقرن من الزمن تقريبا، وهو ما يميط اللثام عن حقائق ظلت رمال عاصمة مملكة الأنباط تغطيها قرونًا كثيرة.
أي أن الاعتقاد السائد أن الرومان هم أول من أدخل الحمامات الجماعية إلى بلاد الشرق هو اعتقاد خاطئ ويحتاج إلى إعادة بحث ودراسة للدلائل الجديدة من قبل المختصين، والتي تشير اليوم أن العرب الأنباط قد سبقوا الرومان في هذا السياق الحضاري على أقل تقدير بقرن من الزمن.
ثالثا: اكتشاف مجمع حديقة الزينة وحمام السباحة في البترا
وهو اسم لمجموعة من الهياكل داخل وسط مدينة البترا. قيل في الأصل أنها منطقة سوق تجاري.وقد سمحت الحفريات في الموقع للعلماء بتحديدها كحديقة نبطية معقدة، تضم مسبحًا كبيرًا ونظامًا هيدروليكيًا مائياً معقدًا.
يقع المجمع على سلسلة من التراسات الكبيرة التي يبلغ حجمها 65 × 85 متر. وقد أظهرت الحفريات والدراسة النباتية أن هذه المدرجات قد تحتوي على حديقة كبيرة للزينة. كانت الحديقة متشعبة بواسطة ممرات وهياكل أصغر. وإلى الخلف من حديقة الزينة، يوجد حمام سباحة بطول 43 × 23 متر وعرضه وعمق 2.5 متر.وقد حسب علماء الآثار أن هذا المجمع كان يمكن أن يتسع لأكثر من 2000 متر مكعب من المياه. في وسط حمام السباحة تكشف شظايا من هيكل أن المجمع بأكمله قد تم رسمه باللون الأحمر الداكن والبرتقالي والأزرق الساطع، إلى جانب الماء والنباتات الغريبة، والذي كان سيخلق مشهدًا مذهلاً للزائرين الذين يدخلون المدينة من الصحراء المحيطة. ويوجد خلف الهيكل بأكمله وجه جرف بارتفاع 16 متراً، يحمل علامات على التعديل الهيدرولوجي المحتمل استخدامه من قبل الأنباط لتوجيه المياه إلى المجمع ولإحداث تأثيرات مائية متتالية.
لذلك يعد مجمع حديقة الزينة وحمام سباحة البترا مميزاً وفريداً بما يحتويه من الهيدرولوجيا المائية، والنباتات الغريبة، والهندسة المعمارية، ويبرز دور المياه في عرض الهيبة والقوة النبطية أمام مرتادي المدينة من القوافل التجارية القادمة من الشرق والغرب.
يقع المجمع على طول الشارع الرئيسي في وسط البترا، بين المعبد الكبير وما يسمى «السوق الأوسط».
ملاحظة: تدور أحداث روايتي (نفرتاري الرقيم ) الموجهة للفتيان في البترا المتخيلة وهي متربعة على قمة مجدها الذهبي، يمكن للمهتمين الحصول عليها من موقع وزارة الثقافة الإلكتروني (الكتبا)
مرتبط