حلب تنهض كالعنقاء

حلب تنهض كالعنقاء

نبيل سليمان

حلبٌ وانثنى الزّمان رضيّاً

ساحباً مئزرَ الخلودِ شهابا

أنتِ من صدرِك الحنونِ سقيتِ

الـدهرَ مجداً ودمتِ فيه شبابا

مُدنفٌ آخر بها، باحث وكاتب ومؤرخ وشاعر..

 حلبيٌّ كابراً عن كابر، هو (محمد قجّة)، وهي التي نيّفتْ على أربعة عشر ألف سنة، وفي نسغها ثلاثون حضارة تمثل قارات العالم القديم الثلاث، فلنعدّدْ: السومرية، والأكادية، والعمورية، والحثية، والفرعونية، والآرامية، والآشورية، والكلدانية، والفارسية، والإغريقية، والرومانية، والبيزنطية، و… والإسلامية التي تناسلت إلى: الأموية، والعباسية، والحمدانية، والأيوبية، فالمملوكية فالعثمانية: حلب المحروسة، كما يحرص محمد قجة على أن يقول.

لكن الزلازل لا تفتأ تضرب حلب المحروسة، وها نحن لم نفق بعد من كابوس زلزال السادس من شباط (فبراير) الماضي، الذي زلزل حلب واللاذقية وجبلة، وداعب حماة وطرطوس، ومحمد قجة يعدد ما زلزل حلب: زلزال (1822م)، الذي دمّر أكثر من نصف مبانيها، وأودى بمن يتراوح عددهم بين (20000-30000) إنساناً، وقال فيه الشاعر الحلبي الشيخ محمد تقي الدين المطلبي:

(تزلزل العقلُ منا والقلوبُ ذوتْ/ والروحُ ماجتْ وفي بحر الهموم هوتْ/ وجمرةُ الحرب في وسط الفؤاد ثوتْ/ أخنتْ ضلوعي، وعينيّ الغزارُ كوتْ/ فسال دمعي من عيني ليطفيها).

ويقول المطلبي أيضاً، كأنه يبكيها اليوم:

(انظرْ إلى حلب آهٍ على حلبْ /أفناهم الدهر بالزلزال والعطبْ /تبكي عيوني إذا نظرتك يا حلبْ /دماً عليك ولم يهتزّ بي طربْ).

لكأني بالشاعر الشيخ يخاطب حلب اليوم، في قوله قبل مئتي سنة، فيما هو يتحدث عن الزلزال: (وجمرة الحرب…). فزلزال (2023م)، تولّته الطبيعة بعدما تولّته الحرب سنوات. أما حلب؛ فهي الفريدة بين بابل ونينوى وماري وإيبلا وآشور وبلخ والريّ… وسواها من العواصم التي دمرتها الزلازل والحروب والأوبئة، فبادت، بينما تعود حلب أبهى وأقوى.. هكذا يكتب محمد قجة في المجلد الضخم (حلب في كتاباتي وقصائدي)، والذي جاء في (1200) صفحة من القطع الكبير، وصادف أن صدر بعد زلزال السادس من شباط/ فبراير بأيام، لكأنما هو رد صاحبه على الزلزال، وبخاصة أن ما يتصدر به، هو ثبت المرات التي جرى فيها تدمير البشر لحلب، لتنهض في كل مرة كالعنقاء: في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد على يد ريموش الأكادي.

سنة (1820 ق.م)، أزال الحثيون مملكة (يمحاض) في حلب من الوجود. سنة (853 ق.م) دمّرها سلمنصر الآشوري، وغزاها الكلدانيون، سنة (612 ق.م). وسنة (450 ق.م)، على يد الفرس الأخمينيين، وجاء بعدهم الإغريق، الذين بدلوا اسمها إلى بيروا. وسنة (962م) على يد نقفور فوكاس، وسنة (1260م) على يد هولاكو المغولي، وسنة (1400م) على يد تيمورلنك المغولي، وكل ذلك عدا عن الزلازل والأوبئة.

منذ سنوات بعيدة، حين نشر (محمد قجة) خلاصة أبحاثه عن بيت أبي الطيب المتنبي، وما انتهى إليه من تحديد موقع البيت، هلّل كثيرون لهذا الإنجاز التاريخي الكبير، وشكّك كثيرون فيه وهوّنوا منه.

لا يكتمل ذكر المتنبي إلا بذكر حلب، والعكس صحيح. وكان الشاعر قد أقام في حلب تسع سنوات (948-957م)، هي زبدة عمره وشعره. ومحمد قجة لا يفتأ يتحدث عن ثلاثية (حلب/ سيف الدولة/ المتنبي). وكان قد أمضّه دهراً السؤال: أين أقام المتنبي، وبخاصة أن المدينة دُمّرتْ بعده مرات؟

في كتاب ابن العديم (بغية الطلب في تاريخ حلب)، وقع محمد قجة على الجواب، بعدما نقّب في مصنفات: (راغب الطباخ، وابن العجمي، وابن شداد، وابن الوردي، وكامل الغزي، وسوفاجيه…)، وقد جزم ابن العديم بأن (خانقاه كمشتكين) قد قامت على أنقاض بيت المتنبي، وهذا المكان هو ما يعرف اليوم باسم (سويقة علي). وقد اقترح محمد قجة إقامة متحف للمتنبي حيث كان بيته، وإقامة مهرجان سنوي باسمه، و… ومازال الاقتراح ينتظر.

من ذخائر المجلّد (حلب في كتاباتي وقصائدي)، ما تقدم عن بيت المتنبي، ومثله ما تزدهي به حلب من فنون الثقافة والإبداع.. فهذا أبو العلاء المعري: له بحلب صلة نسب (أمه حلبية)، وقضى فيها فترة الصّبا، وتتلمذ على أساتذة من حلب، بينهم راوية المتنبي عبدالله بن سعيد النحوي. وفي (رسالة الغفران)، أن مطبخ أهل الجنة بيد طباخين من حلب، فازوا بعملهم في مسابقة أجريت لهذا الشأن. ورسالة الغفران جاءت رداً من المعرّي على أسئلة صديقه الأديب الحلبي ابن القارح.

وهذا (الفارابي، والأصفهاني، والبحتري، وياقوت الحموي، والصنوبري، و…) يطرزون بإبداعاتهم أوشحةً لحلب، مثلما سيطرز من المحدثين لها أوشحة في الفكر والرواية والقصة والسينما والتلفزيون والصحافة والنقد الأدبي و…. على يد: عبدالرحمن الكواكبي، وعمر أبوريشة، وفاتح المدرس، ومصطفى العقاد، وسعد يكن، وصباح فخري، وصبري مدلل، ووليد إخلاصي، وعزت عمر.

ويتوقف (محمد قجة) ملياً أمام الوثاق الفني بين حلب والأندلس في شتى تجلياته، فيقدم دراسة لما بين الموشح الأندلسي والموشح الحلبي، ويفصل في (القدود) الحلبية التي أدرجتها اليونيسكو في التراث الإنساني اللامادي. ولمحمد قجة كتاب مهم هو (التصوف والتراث الموسيقي). وكان قد أنعم عليّ وعلى جمال الغيطاني منذ قرابة العقدين، بسهرة موسيقية لا تُنسى في بيته الذي تحتله مكتبته الزاخرة.

إنها حلب؛ المدينة العربية الأولى التي عرفت الأعمال المصرفية على مستوى عالمي. حلب التي قامت فيها المطبعة العربية الأولى عام (1701م)، قبل مطبعة نابليون في مصر بقرن. حلب التي فتحت صدرها في القرن السابع عشر لثمانين قنصلية ووكالة، ونال من مكانتها الاقتصادية العالمية فتح قناة السويس، والالتفاف حول رأس الرجاء الصالح، واقتطاع لواء إسكندرون من سوريا وضمّه إلى تركيا عام (1939م)، وهو الذي كان ميناء لحلب، التي أنجبت في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ثماني وتسعين جريدة ومجلة.

لكن حلب المحروسة؛ زلزلتها الحرب قبل الطبيعة، فكتب محمد قجة (لا تحرقوا حلب)، وبكى بخاصة الجامعَ الأمويَّ، الذي دمرته الفتنة عام (1168م)، فأعاد نورالدين زنكي بناءه، ثم دمّره نقفور فوكاس البيزنطي عام (926 م)، فأعاد سيف الدولة الحمداني بناءه، لكن تيمورلنك لم يدمره سنة (1400م).

في شتاء (1975م)، كان لقائي الأول بمحمد قجة: هو مدير لثانوية الحسن بن الهيثم، وأنا مدرّس فيها. وإذا كانت سنواتي الحلبية (1972-1978م) قد حمّلتني وشم حلب، ففي صلب هذا الوشم صداقة محمد قجة، الذي يطلّ اليوم بهذا المجلد (حلب في كتاباتي وقصائدي)، فوجبت التحية أيضاً إلى (رحى للمدن القديمة)، التي يسّرت ظهور هذا المجلد، وهي متخصصة بتوثيق التراث اللامادي والتطوير المتحفي والترميم.

+ عن مجلة الشارقة الثقافية

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *