الجزائر وبن سنجور – ملامح من تلك المرحلة

الجزائر وبن سنجور – ملامح من تلك المرحلة

سيف الرحبي

 

“الزّمن ليس خطًّا مستقيمًا، بل الأصحّ متاهة. وإذا التصقت بالجدار من موضعٍ صحيح تستطيعُ أن تسمع الخطواتِ العَجلى والأصوات، تستطيع أن تسمع نفسك تمرُّ هُناك في الجهة الأخرى”
توماس ترانسترومر
(نُزُل فاتن الذي يملكه عبّاس القادم من الحُديدة اليمنيّة، كان عاملًا ثم جنديَّا في الجيش الفرنسيّ، حتى مالت الأيَّام لميزان جبهة التّحرير الجزائريَّة، ومال معها عبّاس.
بحسِّ الوعل المطارَد بجفافِ أراضيه في أرض الأجداد، عرف ما ستؤول إليه الريحُ فامتلك النُزلَ الذي نحنُ فيه.
وثمة مطارَدون في الآراء والعُمرِ السّريع من العِراق وتونس وإلخ، يَقْبَلُهم عباس المتزوّج من سميناتٍ أربع، شرط أن يقوموا بالتَّنظيف مقابل الأجر.
القصبةُ التي ترجّها رياحُ الثَّورات
الشبابُ العاطلُ بأناقةٍ أمامَ البُيوت
عيونٌ تلْمعُ في الظُّلمة

كانتْ فيما مضى أشباحَ بحَّارةٍ يقيسون العالم بالصَّرخة والسِّكين..
وكنت أنتِ القادمة من جنوبِ الضِّلع العربيّ
بشعرك الذي كان طويلًا وعينيك الأكثر اتّساعًا من التِّيه
نُزُلًا آخر لمتسكِّعٍ لا يحلُم بشيء)*.

أتذكَّر محمد بن سنجور وأستعيد إحدى أساطير بلاد الرَّافدين؛ حيث تقدم كلٌّ من (دموزي) إله الرعي، و(إنكيدو) إلهُ الزراعة، لخطبة (إنانا) -عشتروت لاحقًا- إلهة الحب، فاختارت إلهَ الرَّعي.
ربما بن سنجور كان قادمًا من تلك الأساطير السّحيقة؛ لكنّه لن يجد عشتروت يقينًا ولا شهرزاد تروي حكاياتها المفارقة الغريبة.

لا أحد يعرف إن كان محمد بن سنجور عرّافًا، أم جزءًا من أسطورة قديمة؛ لكنّ جانبًا من سيرته الواقعيّة، حين كان طالبًا جامعيًّا في الجزائر العاصمة، كان يكتب الشعر ويقرؤه علينا، في حي (القصبة) في الفندق المتواضع الذي كان -ومن باب الصدفة الغريبة- مملوكًا من قبل يمنيٍّ يُدعى عباس، متزوّجٍ من أربع نساءٍ بالتمام والكمال. كان جنديًّا في الجيش الفرنسي، وحين قامت الثورة الجزائريّة انتقلَ إلى صفوفها حتى النصر.
كان بن سنجور يكتب الشِّعر، بجانب حديثِه المُسهب عن طبيعةِ بلاده الخضراء الشاسعة، وحين زارتنا مرة (رفيقة) من بلاد جزيرة العرب، نَظَم في الترحيب بها قصيدةً عصماء. لا أتذكر إن كان ما يكتبه بن سنجور، شعرًا مُقفّى وموزونًا أو حرًّا أو نبطيًّا؛ لكنّي أتذكّر أن شعره يُشبهه، عفويٌّ وتلقائي، ولا يعرف المجاملة والممالأة؛ كأي كائنٍ بريّ.
لا أعرف إن كان ما زال يكتب من غير أن ينشر كالعادة، وهو يسوق قطعان الجمال والماعز الجبلي، في سفوح تلك الجبال والسهوب، التي كان يحلم بالعودة إليها.

للمقيم في العاصمة الجزائرية، أو العابر، لا بد أن يكون مركز المدينة، مقصدًا أساسيًا، شارع ديدوش مراد، والشوارع الموازية له والمُتفرِّعة من أزقَّة ودُروب. ذلك المركز والمدينة، مثل الكثير من مُدنِ الجزائر الشاسعة جغرافيًّا وبشريَّا، التي بُنيت على الطّراز الفرنسيِّ كمحافظة، وجزءٍ من مُجملِ التُّرابِ الفرنسيّ الأم والأب والجدّ.
فهي ليست محميّة منتدبَة مثل المغرب وتونس، وإنّما مُستعمَرَةٌ ضمن النسيج العضويّ لفرنسا وأنسجتها وأجزائها التي تشكِّل وحدتها الشّاملة.
من هنا كان انفصالُها كهويّة ذات سيادة مستقلَّة كمن يروم المستحيلَ وصعب المنال؛ لولا الإرادة الفولاذيّة لشعبها وتلك التّضحيات الجِسام، متقاطعةً مع حِقبة كونيَّة جسّدت إراداتِ الشعوبِ في الحريّة والانعتاق.
في مركز المدينة كنت ألتقي بن سنجور وصحبه، من تلك الوجوه المضيئة التي يكاد النسيانُ يطويها من فرط تراكُمِ الأيّام والسنين. أتذكّر منهم بخيت وسالم. وكان هناك مقرُّ اتِّحاد الشبيبة اللبنانيّة الذي يأتي بالجديد من الصحف والكتب، ومراكز ومكتبات ثقافية كثيرة. كان بن سنجور كائنًا بريًّا بالفعل لم تستطع المدنيّة ترويضه؛ سلاحُه السُّخريةُ من كل شيء، وحنينُه دومًا إلى الأقاصي البعيدة التي لم تعبث بها أيدي المدنيّة وتقنيّاتها المستوردة وخبثها الأخطبوطيّ. يتجول متطلّعًا في الوجوه العابرة في الزّحام والجلبَة.
مرّة قال ها نحن ساعات وسط هذا الموج البشريِّ، ولم أرَ وجهًا ضاحكًا أو مبتسمًا. وقد سألتُ ذات مرَّة الشاعر عبدالإله الصالحي المقيم في باريس، عن العبوس الجزائريّ. أجابني، بأنه عبوسٌ وجوديٌّ وليس سطحيًّا أو استعراضيًّا، مثل الشخص الذي بصدد الحديث عنه.
تلك أمزجةٌ ومصائر وكينونات، لكن هناك ممن عرفتُ من الأصدقاء الجزائريين على جانبٍ كبيرٍ من المَرح والضّحك والنسيان والتذكّر، هناك أواصر صداقةٍ مصيريّة صادقة مُشرقة في القلب والذَّاكرة.

ثورة التحرير الجزائرية على جاري مسار ثورات تلك المرحلة عربيًّا وعالميًّا مع تفاوت النّسبة والمستوى، لم تجنِ، بحجم تلك التضحيات والآلام العاتية، ثمارها المستَحقَّة، إذ دارتْ آلة التّصفيات الدمويِّة بين رفاقِ الأمس وقبل الوصول إلى محطَّة تراجيديا (العشريّة السوداء) المريعة حقًا، كانت هناك حروبٌ صامتة وإقصاءات عنفيَّة حاسمة.
حين ذهبتُ إلى الجزائر والتقيت بابن سنجور وصحبه، والكثير من شباب البلدان العربيّة -فلسطينيين، يمنيّين، لبنانيين، توانسة- وغير العربيّة؛ فقد كانت الجزائرُ ملاذًا لمئات الحركات السياسيّة والطلابيّة من أنحاء القارات الخمس. كانت الفترة الفاصلة بين رحيل (الرجل القوي) هواري بو مدين المفاجئ بصورة غامضة، وتسلّم الشَّاذلي بن جديد سدّة السلطة. وهو أحد جنرالات الجيش الجزائري وإن كان مظهره الوديع مقرونًا بلغتِه العربيّة الركيكة التي تظلّ مصدرَ نُكتة بعد كلِّ خطاب لدى الجزائريين، على نقيض سلفه بقامته المهيبة المهيمنة.
أخبرني عبدالله الضراسي، وهو طالبٌ وصحفيّ يمني أنه حين أوعزتْ إليه صحيفتُه في اليمن الجنوبي آنذاك، تغطية إحدى القمم المنعقدة في الجزائر لم يشعُر بالفزع من الرؤساء والملوك العرب؛ إلا حين اقتربَ من هواري بو مدين؛ كان يوحي بتحفُّز نَمِرٍ برهَة الانقضاض على فريسته. عبدالله الضراسي كان يأتي بالصُّحف اليمنيّة بجانب مجلة (الحكمة) الثقافيّة الصّادرة في عدن.
وحين رأى بن سنجور مرةَ مواضيع واسم الضِّراسي يتكرر فيها، قال (الضراسي يريد أن يثقِّفنا حول نفسِه) كان تيّار الإسلام السياسيّ الرَّاديكالي بدأ في الازدهار تلك الفترة، في الجامعات وبين أوساط الطلبة والمنتديات السياسيّة والثقافيّة. أتذكر أنّي كنت أذهب مع فتاة من الشبيبة اللبنانيّة من بعلبك تهوى السينما، إلى مقر (السينماتيك) وهو دارُ عرضٍ سينمائيّة ثقافيّة يرتادُها المُثقَّفون وهواةُ السِّينما الطليعيِّة، وليست للجمهور والعامّة.
تعرض الأفلام التي لا تُعرض في السّينمات العامة؛ السّينما الإيطاليّة بفكرها العميق وجماليَّاتها المُدهشة، وخاصة سينما (الموجة الجديدة) الفرنسيَّة التي تأثَّر بها عددٌ من المخرجين الجزائريين.
بالأمس مات أحد رموز هذه السينما وربما الأخير (جان لوك جودار) الذي كان مناصرًا لقضيّة الشعب الفلسطيني العادلة.
كنا نحدّق في الشاشة بتركيز، حين انفجر صوتٌ من الصفوف الخلفيّة بغضب وعنف (حْرَام حْرَام كِي تْرُوحُوا لجَهَنَّمْ تَاكُلْكُمْ، تْشُوفُوا هذا الكُفْرْ والإلْحَادْ).
وهناك، شاهدتُ لأول مرة أفلامًا نوعيّة، لم أعرف مثيلًا لها في المشرق، (وقائع سنوات الجمر) الفائز بسعفة كان الذَّهبيّة كأول فيلمٍ عربيٍّ وآخره ربَّما. وتحفة الأخضر حامينا الأخرى (الصورة الأخيرة) الذي يتمحور حول طفولته في تلك القرية الجزائرية والمدْرسة الفرنسية. وأتذكر (أيضًا عمر قَتْلَتُه الرُّجلة) لمرزاق علواش. اللهجة الجزائريّة التي كانت صعبة لمثلي لم يسبق له التعاطي مع مغاربي من قبل، صارت تسهُل وتسلُس تدريجيًّا. بعد الجزائر بسنواتٍ ذهبتُ إلى المغرب، وبعدها بسنوات أكثر زرتُ تونس. ورغم أن هذه اللهجة تخترقها ألفاظ أمازيغيّة وفرنسيّة، تظل العربيّة هي البنية والنسق، مثل معظم لهجات هذه اللغة وأساليب نطقها، التي تشكِّل الرَّوافد للُّغة الأمّ من شبه الجزيرة والمشرق إلى مغارب اللُّغة الشَّاسعة والبلاد.

كان (السُّونتر) وفق النُّطق الفرنسيّ، أو مركز المدينة الكبير المتعدِّد الأماكن والتجمّعات والمحطّات، هو الملاذ الأخير لجلساتٍ أطول تمتدّ حتى الليل، من البريد المركزيّ حيث محطةُ الباصات التي تربط أطراف العاصمة ومراكزها، ببعضها. بعد النزول من حيّ (القصْبة) وفندق (فاتن) الذي يملكه عباس اليمنيُّ الأصل واللهجة والحضور. وكان بن سنجور يرتاح ويطمئن في الحديث إليه وسرد الذكريات المتدفقّة من أعماق اليمني، الجزائري الغائرة، بداية من بلدته في اليمن، وانفصاله عن الوطن الولادي الأول، بركوبه أمواجَ المغامرات السندباديّة عبر البحار والجيوش الكولونياليَّة في الأراضي المضرّجة بالمحن والدماء والمجهول الخُرافيّ، حتى جبهة التّحرير والاستقرار مع الكهولة، والزوجات، والأولاد والأحفاد.
كنَّا جميعًا ننْشرحُ لسرد هذا اليمنيّ الذي قذفت به الصُّدفة أخيرًا إلى قمّة حيّ (القصبة) الذي كان بؤرة انطلاق الاحتجاجات، على الغُزاة منذ الإمبراطورية العثمانيّة، وحتى الفرنسيّة الاستيطانيّة الأخيرة.
ذلك الحيُّ المتدرِّج بسلالمه وكأنَّما تنزل من ذروة جبلٍ عالٍ، رويدًا رويدًا، حتى تُسلمكَ الطُّرق إلى الميناء والبحر، ويبدو تكوين العاصمة الجزائرية الجغرافي، على هذا النَّحو من السُّفوح والأعالي الخضراء. ضمن الجهة الأخرى حين تصعد من حيِّ (ابن عكنون) حيث يسكن الطلبة الجزائريُّون، وطلبةٌ من العالم العربي والأفريقي، ليس من غير مشاكل وصدامات بين الجنسيّات المختلفة، تصعد إلى حيّ (حيدرة) الرَّاقي، تتسلقّ نفس التَّكوين الجبليَّ بانحداراتِهِ ومزالقه، حتى تصل الحيَّ المتربِّع على القمَّة العالية، بمنازله وأسواقِهِ ومطاعمِه ومقاهيه؛ لكن المقصد والمحجّ شبه اليوميّ هو مركز المدينة، وفيه حيث شارع (عميروش) مطاعم كبيرة على الطريقة الفرنسيّة، يؤمُّها الطَّلبة في الأغلب؛ إذ تقدِّم الطَّعام بأسعارٍ رمزيّة بالنسبة للمطاعم التجاريّة والمقاهي. في تلك الفترة المبكرة لم أعرف أدباء جزائريين بعد؛ إلا عبر القراءة والسَّماع. وكانت معرفتي الفعليّة بهم عبر بوّابة الإقامة السوريّة اللبنانية، حين عودتي من الجزائر. ومن تلك البوابة جئتُ إلى الجزائر بكرم منحةٍ من حزب جبهة التحرير الوطني، الحاكم، الذي حظيتُ بعد عقُودٍ، بتكريم من أمينه العام عبدالحميد مهدي، وكان من أواخر ذلك الجيلِ الثوريّ المؤسّس، في الاحتفالية التي أُقيمت في المكتبة الوطنية، حين كان الصديق أمين الزَّاوي مسؤولَها الأوَّل، حضرها أدباء جزائريُّون من جيل الطَّاهر وطَّار، وحتى جيل بشير المفتي، وسمير قيسي، ونصيرة محمَّدي، وكانت المكتبة خليَّة أنشطة ثقافيّة وإبداعيَّة بتجلِّياتها وأجيالها التي تليقُ ببلدٍ كبيرٍ على كلِّ المستويات مثل الجزائر.
في تلك الفترة المبكِّرة بمركز المدينة، كنتُ أذهب إلى مقهى (اللوتس) الذي يغشاه أدباء وسياسيُّون أو طلبة مُسيّسون… مرّةً وأنا أغرقُ في قراءة (الَّلاز) رواية الطَّاهر وطَّار التي كانت حديث الأقسام الثقافيّة واليساريّة خاصة في الصحف بما فيها المشرقيّة، وكنت في السِّياق الجزائريّ قد قرأت قبلها رواية رشيد بوجدرة المُدهشة والصّادمة (ألف عام وعام من الحنين)، وقد عبّرتُ للصَّديق واسيني الأعرج الذي كنتُ ألتقيه في دمشق بشكل شبه يوميّ، عن صدمتي العذبة إثر قراءةٍ لرواية بوجدرة كاكتشافٍ جديد في عالم الرِّواية بتلك الفترة. واسيني هو الذي عرَّفني على دار (الجرمق الفلسطينية) التي طبعتْ أوّل دواويني الشعريّة. وحين قرأ (أبو خالد) صاحب الدار الواقعة قريبًا من جامعة دمشق، مخطوطة الديوان بخط اليد، قال لي: لستُ ناقدًا، لكنّي لاحظتُ ثمّة انفجارًا بين الصفحاتِ يبحثُ عن هاويةِ قبرٍ أو طريق. تذكرتُ بعد زمن هذا التعليقَ الذي يليق بروح فلسطينيٍّ جريحةٍ أيّما جرحٍ ومتاه.
سمعتُ نداءً من الطاولة المُجاوِرة، وحين رفعتُ رأسي باتجاه الصوت الغريب إذا بشخصٍ أسمرَ يلبس بدلةً فعرفته على الفور؛ حين كنا نلتقي في رحاب السبعينيّات من القرن المنصرم بالقاهرة، كان طالبًا إريتريًّا ينتمي إلى اليسار الماركسي الرّائج في تلك المرحلة، وضمن جبهة تحرير إريتريا من نيْر الحكم الإمبراطوري لأثيوبيا هيلا سلاسي. وكانت هناك أيضًا جبهة تحرير الصومال، والصومال أوجادين وجامايكا بلد بوب مارلي، وبورتريكو، والقائمة لا تنتهي عند جغرافيا وحدود؛ لدرجة أن أحد الكتاب الجزائريين تساءل عن هذا الكمّ الهائل من المقرّات والحركات الغامضة، التي تنفق عليها الدولة الجزائريّة! تصافحنا، جلسنا على طاولة واحدة، أحاديثُ ومواضيع ناقصةٌ على الدوام تتأرجح في فضاء المقهى الجزائري الذي سُمي ربما تيمّنًا باسم الجائزة الأدبيّة التي تُمنح لأديب بارز من القارة الأفريقية بما فيها البلاد العربيّة من تلك القارة. لاحظتُ على زميلي الإريتري الكثير من الشكّ والاضطراب في أطروحاته، كمن تخلّى عن صرامته العقائديّة التي عُرف بها في القاهرة حدّ المْسخرة، فكان حين يواجه خصمًا، أقرب إلى الافتراض في ذلك العمر المبكر، يتركه يتكلّم، ثم يقطع نفسَه بقوله (هذا رأيك؛ اللعنة عليك وعلى رأيك وبلدك) ويعلو الصراخ ، وهكذا… تبيّن أنّه في حيرة وارتباك من أمره، هو الماركسيّ اللينينيّ الذي يسكن جنّة اليقين الطفوليّ للنظريّة ولا (يرى شجرة الحياة في اخضرارها واغزرارها) ، وقد عصَفتْ به الأحداث كما عبر، حين تغير سريعًا حكم هيلا سلاسي، إلى العسكريّ هيلا مريام، الذي تبنّى الماركسيّة اللينينية على النمط السوفيتي، كيف عليه أن يتصرّف وقد تحققت وعود النظريّة ونشيدُها الأمميّ في هذه المنطقة؟!

قلّةٌ من النَّدوات الأدبيَّة حضرتُها في فضاء العاصمة الجزائريَّة، كانت السّاحة تحتلُّها المهرجاناتُ الخطابيّة والسياسيّة الزَّاعقة. مرةً اختارتني اللجنة المنظِّمة -وعلى رأسها فلسطينيّون ولبنانيّون تعرفت عليهم في (بن عكنون) وغيره- أن أدير واحدًا من تلك المهرجانات؛ فاعتليتُ المنصة بشيءٍ من الارتباك، بعد استلامي لجدول المتحدِّثين وصفاتهم، صرتُ أُدخِل أبياتًا من الشعر الحديث خاصةً ومقولات فكرٍ وأدبٍ بين الفقرة والأخرى، حتّى انتهت الأمسيةُ بأقلِّ الخسائر فداحةً. حيّاني بعضُ الجمهور من المعارف؛ لكنّ عبدالله الضراسي بادَرَ على الفور بحماس: يا أخي، صوتُك ما كان واضحًا كثيرًا، كنتَ بعيدًا عن الميكرفون، عليك أن تقترب، أن تبلع الميكرفون، أن تفترسه كي تفترس الجمهور. عبدالله الضراسي الذي ينتمي إلى عدن فيما عُرف باليمن الجنوبي ونظامِها السياسيِّ (الشُّيوعيّ) الذي من فرط نقائه العقائديّ لدى مُناصريه، كان كعبةَ أحبارِ اليَسار ومنظِّريه، ومصنعًا فرعيًّا من مصانع العقيدة الطُّوباويّة الآفِلة. لكن ما أتذكرّه إزاء عبدالله، أنّه مهنيٌّ أكثر، فلم يكُن مُغاليًا في هذا الانتماء ولا مُتطرّفًا. إنَّه حالةٌ خاصةٌ في ذلك الوسط شبهِ القَطيعيِّ في التبعيّة للمرجع والتحيُّز، وهو في هذا يشترك مع بن سنجور في الصفة إياها.
في حيِّ بن عكنون، اِلتقيتُ بأخ محمَّد العبدالله، الشَّاعر الرَّاحل الذي صار صديقًا في بيروت وهو يجوب (الحمراء) بلياليها حتى الصباح على تواتُر الأيّام والشُّهور، وهو ابن عم عصام العبدالله وحسن العبدالله، وكان الأخ الطَّيِّب، يأتيني ببعض القصائد والدراسات التي ينشُرها محمد، وأستأنس لنبرتها الغاضبة المفارقة للسائد. وهناك أيضًا، تعرفتُ على بسّام البعلبكيّ، الطَّالب والشَّاعر الطَّبيب، أيضًا الذي عالجني بعد عقودٍ في بيروت، حين اِلْتَوَتْ رِجلي في الشارع المؤدِّي إلى (بلونود) في الحمراء، وأخذني علي بردى إلى العيادة. حدَّقتُ في طبيب الأشِعَّة فراودني الظَّنّ، أنَّني أعرفه، حتَّى تبادلنا الحديثَ وتذكرنا العاصمة الجزائرية ، حين ذهبنا في سيَّارة علي بردى إلى المطعم الأرمنيِّ المُجاور.
قِلَّة هي ندوات الأدب التي حضرتُها؛ لكنّي لا أنسى ندوة الشِّعر، حين دُعي محمَّد علي شمس الدين، واستضافه طلبةُ مركز الشّبيبة -الذي هو على الأرجح تابعٌ للحزب الشيوعيّ اللبناني- في قاعةٍ كبيرةٍ حضرها قلّةٌ مقارَنةً بالمهرجانات الخِطابيّة. ألقى شعرَه، وحاول تحريك الحماس الثوريّ، لكن بسببٍ من تركيب العبارة الشعريّة رغم غنائيتها الرّاشحة، ورغم أنَّه من (شعراء الجنوب) قبل صعود المدِّ الطَّائفيّ الذي أصاب الشَّاعر وغيره مَسٌّ من عواصِفِه الشَّعبويّة أو الشُّعوبِيّة المحدثة الكاسحة، وإن ظلّ الشاعر في أعماقه على شعره الحقيقيّ وأفقه؛ لم يلقَ ذلك التفاعُلَ الحماسيّ. وبعد الندوة فُتِح بابُ الأسئلة، شهد الشاعرُ، الذي رحلَ عن عالمنا هذه الأيام، شبه حصارٍ من الأسئلة حول الغموض وعدم فهم شعره. أتذكّر أنّني قمتُ، بما أتيح لي من معرفة بسيطة بالدِّفاع عن شرعيّة غموضِ الشعر، وعدم مباشرته أسوةً بالخطاب السياسيّ وما يشبهه من شعرٍ وفنّ إذ لا يعكسه ولا يعكس الواقع كمرآة، والذي اعتادت عليه الذائقة. وكذلك فعلت (زينة) بسبب وعْيِها الموسيقيِّ السينمائيِّ المُبَكِّر في الدِّفاع عن مخالفةِ الأدبِ والفنِّ للخِطَابات الأخرى. زينة العاصي المُشعَّة في عالَمِ الطُّفولة ذاك كما في الذَّاكرة، ببياض الثَّلج في أعالي (فاريّا) و(جرجرة) على مدار العام.. كان نموذج (وتريّات ليليّة) لمظفّر النواب، والقدس عروسُ عروبتكم…إلخ، هو المثالُ والمُحتذى.

كانت تلك المرحلة، ما زالتْ على بقيّة باقيةٍ من لَهبِ الحماس والشِّعارات المُستلَّة من ثُكنة الأيديولوجيا اليساريّة اليقينيّة حول حتميّة التعبير وتصويب قِطار التاريخ الذّاهب إلى هاوية التبعيّة للرأسماليّة، في أعلى مراحلها الإمبرياليّة، ولم يكن مصطلح (العولَمة) قد وفد إلى الدِّيار بعد، حتى الوصول إلى محطّته النهائية بتحقُّق الأهداف والأحلام الثوريّة المنشودة في العدالة والمساواة وكافة الحقوق، التي تزخْرُ بهما مبادئ (الاشتراكيّة، العلميّة) وغالبًا ما يشبّه (المنظّرون) حَملة هذه الرسالة الخلاصيّة براكبي القطار، منهم من يترجّل في المحطّة الأولى والثالثة، أو العشرين، وهناك من يواصل حتّى النهاية الحتميّة في الوصول إلى الأرض الموعودة.
وصرامة الرّؤية والخطاب -إن صحّ التَّعبير- لم تكن لدى الزَّميل الإريتري، والتي اهتزت لاحقًا أمام انقلاب (هيلا مريام)، وإنَّما كانت سمة المرحلة خاصَّة تجليها الطّفولي في أوساط الطلبة التي احتلَّها لاحقًا (الأصوليُّون) في الإسلام السياسي، من كل المشارب الطائفيّة ووجهاتها العُنفيّة خطابًا وممارسة، حتَّى لدى أبناء القضيّة الواحدة والهدف الواحد.
مرّةً زارَ الجزائرَ القِياديُّ في حركة فتح ومنظمة التّحرير خالد الحسن، واستُضيف في ندوة عامة. كنت جالسًا بجوار شابّين من الجهة الشعبيّة، حين دخل القياديّ الذي لا تنقصه بلاغةُ الخِطاب السِّياسيّ الذي أخذ يتدفّق على الحضور؛ لكنَّ الشَّابين لم يكونا يُصغيان إلى كلامِه إطلاقًا. كان التعليقُ منصبًّا على مظهره وجسمِه الضَّخم (جيبوله كنَبَة ما بيحمله كرسي، شبعان كثير، متْخم) على هذا النَّحو مضت الأمور. إنَّها التّعبئة التَّنظيميّة والأيديولوجيّة، التي يكون تجلِّيها الطُّلابي أكثر حِدّةً وتطرّفًا بحُكم البَداهة في حداثة العُمر والتَّجربة. والتَّعبئة إيّاها، وجدتُها بعد فترة، معكوسة، حين حضرتُ مخيَّمَ اليرموك في دمشق، وكنتُ بمعيّة (أبو الوليد) يوسف سامي اليوسف ومحمد البخاريّ الموريتاني -رحمهما الله-، والذي كان يقطنُه لفيفٌ من الأصدقاء وقد أصبح الآن أثرًا بعد عين، أسوةً بمخيَّماتٍ وأحياءً في العاصِمَة السوريَّة وغيرها من مناطق ومُدن سوريا، التي دمّرتها أنظمةٌ ونوازعُ وأحزابٌ أو بالأحرى عصاباتٌ وميليشيات، يتواضع أمامها المثالُ والمرجعُ المطروق دومًا بمناسبة أو عدمها، في هكذا سياق، الفاشيَّةُ والنازيَّة وقد لَبِسَا لباسًا عربيًّا وإسلاميًّا، مع الأسف، شديدَ الطائفيّة والوثوقيّة الظلاميّة، يتواضعُ المثال والمرجعُ وسطَ تواطؤٍ دوليٍّ غير مسبوق. حين حضرت المهرجان الخطابيَّ، كان المتحّدث فيه الزّعيم الفلسطيني (جورج حبش) الذي وصفه ذات مرة (أبو عمار) ياسر عرفات بضمير الثورة. لم تشفع له كلمة أبي عمار، أمام شباب، كانوا يستمعون إلى الخطاب الحماسيّ المدوِّي والبليغ حول الوِحدة الوطنيّة التي وصفها بالإسمنت المسَلّحِ أمام العدوّ وتقلّب الأحداثِ والأحوال. أخذ بعضُهم يصَفّق بتفاعلٍ واندماج، حتّى صرخ فيه البعض الآخر (تصفّق هيك، شو بدك من هالحكي الفارغ).
وعلى هذا النّحو التَّعبوي المدرسيّ المبسّط، يتوحَّدُ الخليج الثَّائر مع المحيط الهادر، وفق رَطانة تلك المرحلة التي كانت تُشرف على النِّهايات الحتميّة، لتبدأ عربيًّا مرحلةٌ أكثر فظاعة وقسوةً من كلّ الصّفات الأسطوريّة التي أُغدقت على الجحيم، لتبدأ محطّة جديدةٌ في هذه الأنفاقِ المظلمةِ، لا يَتبدّى فيها طيفُ إضاءةٍ، أو نورُ خلاصٍ يبرُق في الأفق البعيد.

إذا كانت “أصوليّة” الخطاب الطّلابي آنذاك محمولةً على بهجة اليقين والأمل والتمنِّي الذي يحلُّ محلَّ الوقائع والتاريخ، سياقًا طبيعيًّا لا بديل عنه سواء في التعلّق والتأثّر السياسيِّ والفكريِّ، في ذلك العمر الذي لم يختبر الواقع بعد، أو في ميادين أخرى من الحياة يتعلّق بخيال الصِبية والأولاد، في فضول الاكتشاف واختبار الحياة بغموضها والتباسها، الذي يتهادى طيفُه جليًّا واضحًا من غير لبس، في جموح ذلك الخيال البكر: إنه حماسٌ وفضولٌ تلقائيّ غير مصنوع وإن كانت الأيديولوجيا مصنوعة ومصممّة. فكيف نسمّي وننعتُ “أصوليّة” الكبار في التيّارات والأحزاب والاتجاهات، ذات الطابع الحداثي للفكر وفق تشخيص المفكر الأردني فهمي جدعان ضمن مفكّرين آخرين، الذي حلّل أصوليَّاتِ الخطاب والممارسة، التي انتهت إليها اتجاهات أو أحزاب وتكتلات عربيّة، موسومة بالعلمانية واليساريّة، من قوميّة بكل أجزائها إلى ماركسيّة، وحتى الوجهات (الليبراليّة) التي من المفترض ضمن تركيبتها البنيويّة، الانفتاحُ والديمقراطيّةُ وقبولُ الرَّأي الآخر، من غير عُصابِ ردَّة الفعل العنفيّة. عصبياتٌ طائفيّةٌ وأيديولوجيّة تتسلّلُ وتستحوذُ على ما يُفترض أنه النَّقيض لماهيّة تكوينِها وأفقها الضيِّق، الذي لم يعُدْ صالِحًا أو مواكِبًا للأزمنة الرَّاهنة الحديثة؟

وبما أنّي أنحدرُ من عُمان كولادة ومنشأ، سمعتُ في طفولتي بتكوينها الدينيِّ الإباضي كثيرًا عن منطقة (وادي ميزاب) في الجزائر وعن علماء فيها تربطهم صلاتٌ عميقةٌ بمناخ المَعرفة الدينيّة في عُمان مثل الشيخ (إبراهيم اطفيش) وغيره، وثمّة نفرٌ من العُمانيين ذهبوا إلى تلك المنطقة في زيارات مُتبادلة لم تنقطع أواصرها حتى اللحظة. لكنّي رغم إقامتي في الجزائر التي امتدّت إلى العام، والتي زرتُ فيها -انطلاقًا من العاصمة- الكثير من مدُنِ الجزائر كـ(وهران) إحدى لآلئ مدن البحر المتوسّط، التي ينتمي إليها أمين الزاوي وربيعة جلطي وأحمد يوسف ومحمَّد اسطنبول، وغيرهم من الأدباء والأصدقاء، و(تيزي وُزُّو) وتعني باللغة الأمازيغيّة الجنَّة الخضراء. وهي فعلًا كذلك، تتوسَّطها جبال (جرجرة) العالية الكثيفة الخضرة والثلج والشجر، سيّما أشجار الأرز. وغيرها من مدن الجزائر، لكنّي لم أزرْ وادي ميزاب وعاصمته (غرداية) حيث يقطن الإِباضيُّون وهم ينحدرون من قبائل الأمازيغ وفق ما علمت. وهي منطقة ذات مناخٍ صحراويّ حارٍّ تبعُد مئات الكيلومترات عن العاصمة، على نقيضِ المُدن الأخرى التي زرتُها ذات الطقس الجميل العذبِ صيفًا والبَاردِ وربما المُثلج العاصِف شتاءً، بمعالم فصولها الأربعة الواضحة الجليَّة. وأتذكَّر عن أحد مشايخ عُمان -وكان بجانب رَصَانةِ معرفتهِ الدينيّة لديه جانبُه المرح السَّاخر، وهذا نادر في جوّ التخشّب والتزمّت- حين علَّق ضاحكًا على اختيار الجَمَاعة ذلك المكان الحارَّ المغبر، من بين أرجاء الجزائر الوارفة الخضراء، على نمط عُمان في الطقس والنَّأي والمناخ؛ التي هي قدرٌ تاريخيٌّ وجغرافيٌّ، ووطنٌ أزليٌّ تتوارثه السلالاتُ عبر الأزمان.
في أحد كتب الرّحَّالة سأل ملكٌ من ملوك شرقِ أوروبا أحدَ سلاطين عُمان: كيف تستطيعون العيش والاستمرار في أجواء تلك الأصياف ذات الحرارة البالغة؟! أجابه سلطان عُمان؛ إنها بلدنا ووطننا أيها الملك.

آخر مرَّةٍ ذهبتُ إلى الجزائر، كانت بدعوة من المكتبة الوطنيّة، وعلى رأسها الزَّاوي أمين. سافرتُ معه من القاهرة إلى الجزائر العاصمة حيث نزلنا من الطائرة -التي لم تكن تحمل اسمًا أو شعار هوية وطنيّة كالخطوط الجزائرية مثلًا، على الأرجح كانت مستأجرة- إلى المطار الجزائري الجديد تمامًا، غير ذلك القديم المُتوارث من سنين، وقد طاله البِلى والإهمال، والذي نزلتُ فيه أول مرّة. وقبل الأخيرة حين دُعيت من قِبَل منظَّمة اليونسكو التي عقدت أحد مؤتمراتها في الجزائر العاصمة، وكان على رأس المؤتمر الأمين العام المساعد للمنظمة الصديق اليمني أحمد الصياد، الذي ينطبق على علاقتي به المأثور الديني (رُبَّ أخٍ لكَ لَم تلدْه أمّك) وكنا في المحطّة الباريسيّة من حياتنا المحمولة على القطارات والمحطات العابرة كما كان أسلافُنا محمولين على الجمال والحمير. كنّا في خضمّ المِحن والأزمات، نلجأ إلى أحمد الصيَّاد، سلفةً ودعمًا وأحيانًا سُكنى ومبيتًا حتى تعبر الأزمة التي ستليها أخرى. رحل الصيّاد، ذلك اليمنيّ العالميّ الذي وحّد بين سلوكه الحياتيّ وثقافتِه العميقة عن عالمنا العام الماضي، تاركًا لمعان باريس المُبْهر، ومأساة اليمن وأحزانها التي طالت واستطالت، حتى أضْنته وأدمته جسدًا وروحًا. هذه المرة أيضًا، ويا للصدفة رحلتُ إليها من القاهرة بمعيّة الأستاذ جمال الغيطاني، وعُدنا معًا إلى القاهرة حيث أوصلني بسيارته إلى فندق في وسط البلد.
كانت الجزائر تلك الفترة ما زالتْ تتعافى بطيئًا من تلك المذابحِ المهولة التي عُرفت (بالعشريّة السوداء) وكانت هناك حراسةٌ دائمةٌ على أمن الوفود، خاصّة حين تتحرك بهم السيّارات خارج الفندق المدجّج بحراسة مشدّدة. لكنّي كنتُ أهرب من الموكب الرسميِّ إلى سيارة صديقي عبدالله الطرشي، الذي لم ألتقه منذ مرحلة الشام، إذ إنَّ في الشّام أكثر من محطّة، وقد أخذته التغريبة نحو تشيكيا الخارجةِ للتوِّ من الحقبة الاشتراكية إثر الانهيار الكبير، مدرّسًا للغة الإنجليزيّة هناك، حتى عاد إلى الجزائر أستاذًا في الجامعة الجزائريّة. عبدالله الطرشي بثقافته الفلسفيَّة ونظرته التأمُّليّة العميقة إلى الوجود، لم يكن منذُ البدايات يحبّذُ الاختلاط بالأوساطِ الثقافيَّة وصخبها وخلافاتها وأضوائها، كان يسكنُ العُزلةَ ويؤثر الابتعاد مترحّلًا وحيدًا في الأماكن أو على ضفافِ المعرفة المفتوحة الحرّة، وفي أعماقها. كان نسيجًا وحدَه بين الأصدقاء.

إذا كان الموتُ طليعةَ البَداهاتِ في تاريخِ البشر والكائنات، رغم أنّه يظَلُّ منذ الأزل والأقوام البدائيّة على نفس السِّياق في مواصلتِه بشباب متجدِّد الغموضَ والصّدمة وتجديدَ الألم والفراق. وبما أنه كواقعة نزلتْ نوازلُها بكثافة أكثر سطوة، في السَّنوات الأخيرة، وحلّت نوازلُ الأوبئة (كرونا) وغيرها متقاطعة مع حروب لا يهدأ أُوارها إلا لتتجدد وتستمر من جديد، في البلاد العربيّة خاصة.
صار الموتُ يحاصرُ الحياة وتكاد هواجسُه الملحّة ووقائعه اليوميّة، تعرقل وتحطّم تلك الاندفاعة الغريزيّة لهاجسِ البَقاء والاستمرار. صار يزحف من كل فضاء ومكان. وصارت البلادُ والمدُن والبشر -كما اللغة والكتابة- مسرحًا مفتوحًا، يُعربد فيه الموتُ والمحو والفناء، مسرحًا للمراثي والدماء والدموع. نوعٌ من أدبِ الكارثة والخرابِ القياميّ العميم. الكثير من الأسماء التي تستدعيها الذاكرة إلى الكتابة، تكتشف أنّها رحلت؛ هكذا، كأنما دفعةً واحدة صعقهم إعصار الموت، وأخذهم إلى عرينِه الأبديّ البعيد.
أصدقاء عشنا الحياة معهم، إخوةً وأقارب، من كلِّ البُلدان والأماكن، لن نعد نلتقيهم إلا في أضغاثِ أحلامٍ حزينةٍ عابرة، أو ما تجودُ به الذاكرةُ المُثقلة، التي تُحاول في حدود الممكن، الهروبَ من أثقالِها وتبعاتها رغم ما يحمله هذا الهروب ضمنيًّا من خيانة قسريَّة، كضريبة لاستمرار الحياة التي لم نخترها بالطبع، لكن علينا مواصلتُها لمبرِّراتٍ وأسبابٍ شتّى، كما واصلها أسلافُنا الذين سيعيشون بعدنا. هكذا، هكذا، حتى ينكسر العمرُ النافل سلفًا على صفحة المكان، في زمنهِ الغامض المحدّد، وتواصل الحياة، ويواصل الموت، توأما الأزل والرغبة والعدَم، مسيرتهما إلى اللانهاية التي سترتطم حتمًا بنهايةٍ وحدود.

لم يكن عباس الذي سَرى ذات ليلة في أربعينيات القرن الماضي من مدينته البحريّة (الحُديدة).. على ما أظن؛ تصادى إليّ هذا الاسم الذي يتردّد بكثرة هذه البُرهة، بحكم الحربِ الطَّاحنة في هذه البلاد التي يجمعنا وإيّاها إرثٌ ثقافيٌّ وروحيٌّ وعائليٌّ مشتركٌ أكثرَ من أي بلد عربيّ، تصادى وترحّل عبر أرخبيلات السنين، حين سمعته من لسان عباس مطلع روايته، حين أبحر في ذلك الليل البهيم المظلم والمتلالئ بنجومه الحزينة، بين قوارب الصيّادين، ومن ثَمّ، في الصَّهاريج وناقلات النفط والبضائع، حتى وصل إلى شواطئ تلك البلدان النَّائية مفتتحًا حياة جديدة من غير عودة إلى أرض الولادات الأولى التي أثخنتها الحروب القبليّة، والأيديولوجيّة، والمآسي، حتى وصلت إلى هذه المحطَّة الفاصلة السَّاحقة. ربما على عكس محمد بن سنجور الذي عاش الشّطر الأول من حياته في بلاد الآخرين، مغتربًا اغترابًا غاضبًا، حالمًا في كل خطوة يخطوها بالعودة إلى أرضه الأولى في الجنوب العُماني المُتاخم للبلاد اليمنيّة والمشترك معها أكثر من غيرها من المناطق، في اللهجة والكثير من عناصر الإرث المشترك. لكن بن سنجور حين عاد لم ينتظم ضمن سلك الجماعة والوظائف والاجتماع السائد، انتبذَ مكانًا قصيًّا في جبال ظفار الخضراء على مدار العام، وفيًّا ومخلصًا حدَّ التوحّد والحلول، مع مناخات طفولته الأولى، وطقوسها في رعي الجِمال التي كان يشبهها في انعدام قدرته على ابتلاع الإهانة وجرح كبرياء الكائن على الأرض مهما كان مصدرها. وهو مع جِماله في هذا المنحى الإبائي (من الإباء) يشبه جمعًا من الجزائريين وفق ما عرفتهم، يُعلون من شأن الكرامة الفرديّة، فوق كل اعتبار (النيف) الجزائري المفارق. عاد بن سنجور متوحّدًا مع حيواناته وجباله، تلك الجبال التي تتناسل في عرينها وأحشائها النمورُ العربيّة التي تُوشك على الانقراض في شبه الجزيرة، وتفقس في ذؤاباتها العقبانُ والغيوم. ما فعله بن سنجور لا علاقة له بثنائية الاختيار بين المدينة والريف؛ إنه نداء الكينونة الأصلي، نداء البراري الوحشيّة السّحيقة في المكان وفي لا شعور الكائن الباحث دومًا عن عزاءٍ وملاذ.

* عن مجلة نزوى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *