*أمجد ناصر
على ارتفاع ستين متراً، يرى المرء منظراً مذهلاً لامتداد الأحياء السكنية، والمرافق العمومية، والأسواق الكبيرة التي تتكون منها المدينة، حتى إن بساتينها تبدو هزيلة، وهامشية جداً، على متن الجسد المعمور المترامي على مدّ النظر: آلاف الهكتارات من الأبنية والمساكن المشيّد معظمها بالحجر الأبيض الكابي.
هذه فقرة مقتبسة، بتصرفٍ، من كتاب “حلب” للمستعرب الفرنسي جان سوفاجيه الذي عاش في المدينة في ثلاثينيات القرن الماضية، وأحبَّها، كما يظهر ذلك في كتابه، أكثر من أيِّ مكان آخر. أما المكان إذا وقف المرء فيه، رأى هذا المنظر البانورامي المديني الذي أذهل رجلاً فرنسياً قادماً من مدن أوروبا الإمبراطورية، فهو قلعة حلب.
لم يختف هذا المنظر المثير الذي تحدث عنه سوفاجيه. إنه لا يزال يُرى من ذلك العلو الشاهق، المتنائي، مثلما كان، بل أكثر امتداداً مما كان. لكن متغيرات جديدة طرأت عليه، يمكن إجمالها بالتالي: الدخان المتصاعد من قلب المدينة وأطرافها. الطائرات التي لا تتوقف عن حرث السماء. أصوات القذائف والصواريخ التي تُسمع بقوة. ثم، ربما تمكن مشاهدة نهر الرحيل البشري البطيء، المثقل بالأجساد المنهكة، الخائفة، في اتجاه الحدود التركية.
هذه المدينة الأقدم في التاريخ، المأهولة منذ ست ألفيات، بلا انقطاع، بأنفاس البشر وأصواتهم، بعزيمتهم التي تقهر حيناً، لكنها لا تقهر طويلاً، صارت النقطة الأكثر التهاباً على وجه الأرض. قوى عظمى وإقليمية ومحلية، ذات منابت وأيديولوجيات وخرافات وألسنٍ شتى، تتصارع للسيطرة عليها، من دون إقامة أدنى اعتبار لهذا العمر الموغل في القدم، الذي ترك شواهد لا تحصى على أطواره، والأهم بلا أدنى اعتبار لأرواح الناس.
إنني أواجه عجز اللغة في التعبير عن الواقع، عندما أتحدث عما يجري في سورية. لغتي قاصرة. قدرتي على وصف الواقع، أول أشكال الأدب والكتابة، محدودة. لا شيء مما كتبت وقرأت يرقى إلى مرتبة لحظةٍ واحدةٍ من واقع السوريين في بلادهم المنكوبة، أو الشتات العظيم الذي قُذفوا إليه بلا رحمة.
من ذا الذي يمكنه التعبير عن هذا التشريد في العراء الزمهرير لعشرات آلاف العائلات التي راحت تشقُّ طريقها القاتم، كنهر خارون، إلى ملجأ آمن من الطائرات والقصف؟ أين هي اللغة والقدرة على الوصف، والعاطفة التي تستطيع أن تنقل لنا معاناة هذه الجموع التي تترك بيوتها وكرامتها الإنسانية وتواريخ عائلاتها، وتمضي إلى لجوءٍ كان بالنسبة لها، قبل بضع سنين فقط، غير متصوَّر ألبتة، بل يشبه العار؟ مع المأساة السورية نختبر، ككتاب وشعراء، عجز اللغة نفسها، قصورَها، محدوديتها، وليس فقط ضيق معجمنا، في التعبير عما يجري، كما تجعلنا مأساة السوريين نختبر شلل العالم عن التحرك، لوقف مجزرة تحدث أمامه على الهواء مباشرة، ونختبر تبلّد الضمائر، وهي تشيح بوجهها عما يجري، أو تقول: بيستاهلوا! لقد سمعت هذه الكلمة تعليقاً على غرق مواكب الفارّين من جحيم بلادهم في مقبرة المتوسط! كيف يمكن لأي موقف سياسي، أو ديني، أو مذهبي، أن يكون أعمى، بلا قلب، عندما يتعلق الأمر بضحايا الطرف الذي يناهضه؟ ما يثير رعبي الحقيقي، وخرسي التام، وشعوري بالقرف من جبلتنا البشرية، هؤلاء الذين يعوون مثل الذئاب المسعورة، في التلفزات، دفاعاً عن العروبة أو الدين والمذهب أو المقاومة، ناسين أن هذه لا أهمية لها من دون بشر. بل لا وجود لها من دون بشر. وأن في البدء كان الإنسان. عارياً كما خلقته أمه. حائراً لا يعرف أن يولّي وجهه، ولا كيف يسمي نفسه.
حلب في نكبة. قد تكون، في الحجم والاتساع والجراح أكبر من نكبة فلسطين. العالم يرى اليوم ما لم يكن متاحاً في النكبة الفلسطينية، فها هي التصفية البشرية، منقولة مباشرة إلى شاشاته المنزلية. يقول التاريخ إن تيمور لنك، زعيم التتار المخيف، تمكن من احتلال حلب، وبطش فيها، ثم رحل عنها بعد ثمانين يوماً، قضاها في نهب خيراتها وتخريب مبانيها والفتك بأهلها.
تيمور لنك الجديد لن يغادر، هذه المرة، بعد ثمانين يوماً بالتأكيد.. لكنه سيغادر. وستكتب حلب هذا في سجلاتها الألفية.
_______
*العربي الجديد