“زهرة بنفسج و…عام فارق”: إلى… “عدي مدانات” في عيد ميلاده

(ثقافات)

 

 ” زهرة بنفسج و…عام فارق”:   إلى… “عدي مدانات” في عيد ميلاده

   إفلين الأطرش

 

   بالرغم من صعوبة واقع يحيط بعالمنا كلّه، بأنواعه وبتعدّد ألوانه، لبسط سيطرة شرور شياطين  تسكنُ الأرض، من حروب تضجّ ببشاعتها، بشتّى الأساليب والأسباب والمسبّبات، ومن تحضير ساحات رقص مدمّر متعدّدة الوجوه والأشكال، بجشع  وتغوّل وبطش رؤيتهم المسعورة المسكونة بالعته وبالجنون الوحشيين، لتحضير حلبة رقص هادئ “للتانغو الأخير” على شوارع ” القدس العتيقة”، بتدنيسها وبسكب  حقارة أفعال كوجوههم على ترابها، وببشاعات راياتهم  الحقودة فوق جدران تاريخها ، حاضرها ومستقبلها. تلك الشوارع والأماكن التي غسلت روحك كما وصفتها يا “عدي”، حين زرتها معي، قبل واحد وخمسين عاما ونصف العام،  حين أتيت زائرا لبلدتي “بيت ساحور” لنرتبط رسميا؛ لتكون تلك البقعة الجغرافية التي تُرسِّخ جذور أهلها وناسها  في عصيانها عليهم،  نقطة ارتكاز انطلاقتهم لتدمير البشرية بالقضاء على الإنسانية التي تشذّب الأخلاقيات،  في إنكارهم  لوجودها بمحاربتهم لها.

 ومن انسداد أُفق الكرامة الإنسانية في تصعيب وتنكيد للعيش اليومي في كل مكان،  وتدمير ممنهج يطال الشجر والحجر كما البشر لتنفيذ مخططاتهم في كلّ أصقاع الأرض. وبالرغم من انسياق البعض كالخراف التي يسوقها راعيها وكلاب حراسته.، وبالرغم من شعور البعض الآخر بالقهر والإحباط والإحساس بالعجز لأفعالهم وردودها، وتناميها جميعا بتوالي أحداثها  القاسية  يوما إثر يوم ؛ وبالرغم من كلّ ذلك وأكثر، فبالإضافة إلى  “شقائق نعمان”  تُنبِتُها دماء الشهداء على مرّ الأزمان وكافة الحقب،  تنبثق من هذه الأرض، زهور بنفسج تشبهك في إبهاجها رغم طابعها الحزين هنا أو هناك، أو نرجس ألِق بديع برائحة زكية فوّاحة في هذا المكان أو ذاك، أو ورود زاهية بأريج مميّز في مكان قريب أو قصيّ، لتُبقي على فسحات أمل تبزغ رغماً عن محاولاتهم إطفاء جذوة الحياة فيها وفينا.

    لكنّ هذا اليوم، السابع من نيسان، هو يوم “عيد ميلادك الخامس والثمانين ” ، فأنت لا تزال تحيا بيننا ومعنا. وأُعرف أنك ستردّ أنّه  بالنسبة إليك فقد توقّف عند الثامنة والسبعين، فلن تقبل احتساب سنوات لم تعشها بطولها وبعرضها بكلّ ما حملته في جنباتها،  فلا أظنّك ستكتفي بما أزودك به في حديث يومي لم ينقطع، أو في رسائل مناسبات متباعدة تصلك بين الحين والآخر.  لكن عليك التنازل قليلا هذا اليوم بالذات…

   هي” زهرة بنفسج” عَشقتَ،  تتفتحّ على هَديٍ، ليصلكَ عطرها وألقُها على مهل، فتشيعَ بهجة في نفسك تعكسُها ابتسامتك. فهي امتدادك الجميل. تحرصُ على استقبالها والاطمئنان عليها وعلى أمّها وأبيها ليلة مولدها، ومرافقتها إلى عالم حقيقي صبيحة يومها الأول فيه. تواكب نموّها وتقدّمها في العمر، فصارت تلك الطفلة التي تقترب من إكمال عامها الخامس،  تملأ بيتنا بحركتها الكثيرة، وبأسئلتها الأكثر، فتسبغُ “فرحاً” عليك، كاسمها.

  تقاسمك كلّ شيء بمحبّة وتمثّل واقتداء. تشكو إليك الجميع في غضبها، فأنت الملجأ والنصير. تُصدر ممنوعاتها البريئة ، فتكون أنت أوّل المطبّقين لها، والمذكّرين بها في حركة  ولهجة مماثلتين. وأنت تُخرج الطفل الساكن داخلك ليلهو معها، ويلعب ما تفرضُ عليه، فتبتهجان. تنتظر صحوها صباحا في إقامتها عندنا لتنعم بضحكتها الفرحة لمرآنا نرقبها ونترقّبه، فتأسرك بإزادتها. ترضى عن جرأتها في المجاهرة برأيها، وفي إحساسها بوجوب حريّة الاختيار، إذ تقول في رفضها لما قد يُفرض عليها : “كل واحد حرّ بحاله”، فتكثر أنتَ في ترديده.

  يجذبُكَ تعلّقها بالكتب والقراءة، والقصّ بشكل خاص، فتنتظر تقدّمها في العمر أكثر لتبدأ لها قصّاً غير موجود في كتاب. يُبهرك انتماؤها المعلن إلى لغة أمٍّ تمثّل هويّة. وهي ترقب كلّ أفعالك وحركاتك لتتبّع اهتماماتك. تلحظُ أيّ تغيّر يطرأ على صحتكِ قبل غيرها، فتسأل ماذا ولماذا؟…

  تأتي إلى بيتنا برفقة أبيها، بعد انفضاض “مجلس رحيلك” بيومين. تقفُ في المدخل واجمةً، منكّسة الرأس، مقطّبة الجبين، بثبات تام في المكان. نُدخلها بعد كثير من التحايل، فتشيحُ بوجهها عن مقعد على يمينها كنتَ تشغله قبل أسبوع مبتسماً ومشجّعاً، لتحوّم هي حولك كفراشة، وخلا إلاّ من صورة تعويضيّة لك صارت تشغله. تلوذُ بغرفة وهبتَها أنت إياها، لتدخلَ وحدتها وتمنّعها عن مغادرة معتزل سمّيتماه باسمها. فليلة وقوع الزلزال في بيتنا من بعد ظهر ذلك اليوم، أخبرها ابن خالها الذي يكبرها بسبعة أشهر فقط، ببراءة طفولته، بأنّك قد رحلت مستعملاً الكلمة الدارجة الأقسى، ولم يُنقل لي ما أوردَ في تفسيره للمعنى ، وأنا  لم ولن أسأل.

 تُغرِقُ نفسها في صمت وانزواء، و طول انتظار لصبيحة اليوم التالي، لتطرح على أمّها سؤالها في تفسير لمعنى الكلمة. تجيبها بقدر ما تستطيع تقريبه إلى ذهن تلك الطفلة، وبأنك قد ذهبت إلى السماء لتسكنها، بعد أن أعانك المسيح في تخليصك من أوجاع مرضك.  لكنْ، كيف لها أن تراك وهي تريد ذلك بقوة؟ تدلّها ليلاً على نجمة مضيئة صارت مسكنا لك، تأتيها فوق بيتها فتراك فيها. صارت تترقّبُ بزوغ النجمة تلك وتتبّعُها.

  أرافقها في خروجها عائدة إلى بيتهم بصمتها وبوجومها التّاميْن في تلك الزيارة الأولى، فأدلّها على نجمة مضيئة فوق بيتنا أنت فيها “لترانا”. وأشرح ما أعرفه عن صغر أحجام النجوم وإضاءاتها المستمدة المخزّنة من أشعة الشمس بدورانها حولها، وبُعدها عن  كوكب الأرض. تنصتُ باهتمام، مركّزة نظرها على تلك النجمة، وبصرخة غضبى ـ لم أتوقّعها ـ تعلن… ” ولا مرّة شفته، ولا مرّة”، وتغادر. كانت هذه إحدى الهزّات الارتدادية العنيفة.

   وأنا… أتمثّل قدرتك في إحالة الألم إلى قوّة احتمال صامت، وأتّخذ قراري بألاّ أسمح بغياب يقود إلى ابتعاد فأنت لا تحبّه، وفي طيّاته اغترابٌ  أخشى عليك منه. ومن تحت ركام يلفّني بثقله وبإعتامه، ومن مسؤولية كبيرة ألقيتَ على كاهلي في طمأنينتك تجاه أسرتك، ومن عهدي لك بألاّ أخون ثقتك في ما كنت تراني عليه ويعينني، ومن تفكّر مُمعن في قدرتك على اتخاذ القرار الأصعب في مواجهة غير متكافئة إلاّ بسبقك، أعود إلى الاستعانة بك لإزاحة بعض ثقل الركام وكسر إعتامه، للبدء في إعادة بعض إضاءة داخلية لإحداث قليل من توازن أحتاجه.

 كان لا بدّ من اتخاذ قرار مماثل للمواجهة في ما فرضته حقيقة اكتمال دورة الحياة بانفراديّة تامّة في تصعيب ذاك الاكتمال. أبدأ تحايلا على غياب جسدي فرضته تلك الحقيقة، بالرّغم من وجودك القويّ والبهيّ الماثل أمامي في أبنائك ومقتنياتك كلّها. لتبدأ تلك الصغيرة الاعتياد على بقاء  كلّ الأشياء  كما هي دون مساس أو تغيير، وإضافة المزيد مما يقوّي حضورك، فتتناقص أسئلتها الاستفهامية المؤلمة حول ذاك ” الرحيل”.

  في عطلتها الشتوية، أي بعد شهر وأيام عدّة من ” يوم الرحيل” تأتي لتقيم معنا، وهي إحدى هواياتها ومُتعها كما تعلم. تغفو إلى جانبي على سريرنا بعد ممارسة طقسها في سماع قصص مقروءة ومحكيّة، وهي مرّتها الأولى في نوم على ذلك السرير. لكنّها تبتعد لتأخذ ” ذلك الجانب من السرير” وكأنه حان دورها، فقد سبقها الجميع. أجدها متململة متقلّبة مع آذان الفجر. أدنيها مني وأستفسر عمّا بها. تستأذن مني بطرح سؤالها ” لماذا تجد صورك في كل مكان، في البيوت، وعلى صفحات الصحف، وعلى الهواتف النقالة وفي رسومات جديدة؟” أجيبها بكلمتين فقط:  “لأنهم يحبّونه”. ولم تزد إحدانا حرفا.

 أحتضنها بسؤال أرّقها، وبإجابة مُبتسرة لم أدرِ تأثيرها، فتعود إلى نومها. لكنّها في السابعة صباحا تكون قد أنهت رسما بالأبيض والأسود، صورة مؤطّرة لك تتوسّط صورتين مؤطّرتين للمسيح والعذراء بين غيوم متناثرة في السماء، وإلى يسارك طاولة مع كراسيها، كلّها تعلو أرضا منبسطة. تدفع بها إليّ وتطلب وضعها في غرفة جلوسنا، فهي لنا.

    ومع كلّ ما أحدث ذلك في نفسي، أتصلّب لأسألها عن الطاولة وكراسيها، فقد لفتت انتباهي بقوة. تجيبني بكلمتين فقط ” يمكن يحتاجها”. فقد كانت تجلس إلى جانب كرسيّ اعتدتَ الجلوس عليه للعمل على جهاز حاسوب ، لم يبرح مكانه.

 صارت تسمّي الأشياء باسمك، فهذا خبز جدّو عدي، وهذا زعتره، وهذا برنامجه التلفزيوني، وها هي نشرة أخباره، وتلك كتبه وهذه أوراقه ومقتنياته، وهكذا…  تمنع أخنها الصغيرة من المساس بأي شيء، في فضول مفهوم  لمرحلة بداية التعرّف على الأشياء، بقولها للصغيرة فقط : “انتبهي، هذا لجدّو”  فترتدّ  تلك اليد الصغيرة في الحال. في بيتهم تقبل بشجرة للميلاد متناهية الصغر ــ تمّت استعارتها ــ دون إضاءة، وزينة أقل من القليل وُضعت على خزانة في غرفة نومها. ولدى سؤالها عن قبولها بها، تجيب بقناعة تامة لافتة ” علشان جدّو”.

    أُلغيت الأعياد والاحتفالات بالمناسبات ، فالكلّ منّا لا يزال يرزح تحت ثقل ركام زلزال أحدثه رحيلك المبكر والسريع المفاجئين. لكنها في شهر آذار وبمناسبة عيد الأم تهديني على صحن أبيض رسما لها ولأختها التي تصغرها بقرابة الأربع سنوات ، وترعاها كأخت كبرى لاغية ذلك الفارق، يزهو الرسم بألوانه وعبارة ” أحبّك أنت” بالإنكليزية، واسمها بالعربية محرّكا، وتاريخ يوم الأم وصفّها في الروضة الثانية، أصرّت على والديها إيصاله لي ذات  ظهر يومه، بعيد انتهاء الاحتفال المدرسي بالمناسبة.

   في شهر نيسان وتحديدا في الرابع منه، تُعقد جلسة استذكاريّة صباحيّة خاصّة بك تسبق افتتاح ملتقى عمان الخامس للقصة القصيرة في بيت تايكي، الذي ترعاه الدائرة الثقافية في أمانة عمان الكبرى، لتكريم  المبدع “مفلح العدوان” ككاتب قصة، فقد تمّ تكريمك في ملتقاها الثاني ، وتكريمك مجدّدا بتكريم أسرتك ذلك الصباح. كان تاريخ ذاك اليوم قاسيا، فهو يسبق ذكرى مولدك بثلاثة أيام، واكتمال شهرك الخامس في ذاك الرحيل بستة أيام. لكنه يتعلّق بشغفك من أجناس الأدب، وأعني القصة القصيرة، ومواظبتك على التواجد في فعاليات هذا الملتقى سنويا.

 ومع كلّ ما لحق بالجميع، وبي بشكل خاص من قسوة الاستذكار ذاك، إلا أنها كعادتها تدرك ما عليها فعله للتخفيف من وقعه. فما أن أعود إلى مكاني بعد استذكاري لك حتى تهرع إليّ لتضع نفسها في حضني دون قول أيّ شيء. وأنا متأكدّة من أنّك قد شاهدت ذلك، فقد كنت ذلك الطائر الجميل زاهي الألوان، الذي شاركنا برفرفة جناحيه وتغريده العذب الحنون.

   نهاية العام الدراسي، ترسم رسما جديدا لنفسها هذه المرّة بمساعدة المرآة، بجرأتها في استعمال الألوان ومزجها، فتكافؤ بوضعها في المعرض المدرسي نهاية العام الدراسي. وأرى اتساع حدقتي عينيك انبهارا، وابتسامة رضيّة فخورة افترّ ثغرك عنها فأشاعت بهجة كست وجهك فأشرق، حين أريتك صورتها تقف أمام ذاك الرسم في بهو مدرستها.

 أشاهد معها فرقة أوركسترا تعزف مقطوعة كلاسيكية، فقد أخبرتها عن عشقك لهذا الفن الرفيع، حين ثبّتُ المحرك على بثّ المحطة. فتسألني لماذا ليس هناك غناء؟ وأشير لها بيدي أن تصغي فقط ولاحقا سأجيب. تنشدُّ بقوة وانبهار، وعند الانتهاء بعد نصف ساعة تقريبا، تسبق إجابتي بتعليقها ” لو أنها تقدر أن تدخل جهاز التلفاز وتذهب إليهم لتكون معهم وبينهم”. أو ليست الموسيقى لغة الشعوب غير المحكيّة أو حتى المنطوقة بحروف أو كلمات أيها لجدّ؟؟

     تشارك معنا في إحياء ذكراك السنوية الأولى بالتعاون مع وزارة الثقافة الأردنية في المركز الثقافي الملكي، فيجذبها بقوّة من بين المتحدّثين قول الروائي المبدع وأحد رفاق نضالك السياسي، “هاشم غرايبة” بأنك كنتَ تحرصُ على زيارته في سجنه الطويل. ( وأترك للصديق هاشم الإيضاح إذا  رغب، ففي كتاباته الكثير). تسأل أمها  ” لماذا كان عمّو في السجن؟ ولماذا كان جدّو يزوره؟” فهي تريد أن تفهم لتتابع ما يقول، في ردّها على محاولة أمّها  إسكاتها.

  وهي تستعدّ لإكمال عامها السادس، وفي عطلتها الشتوية أيضا، تأتي لتقيم معنا. تنظر بفخار إلى صورتها في عمر الشهرين تمسك بفرح كبير نسخة من مجموعتك القصصية ” لعبة الفجر” حين صدورها. تطلب إليّ رؤية كلّ إصداراتك، فتبدي عجبها متى وكيف أتممت ذلك بالرغم من عملك وانشغالاتك. تعلن بأنها ستقرأ كلّ تلك الكتب حين تتمكّن من القراءة وحدها. ومن على مقعدك ذاك في غرفة جلوسنا، وطاولة متنقّلة ذات ارتفاعات مختلفة، ترسم رسما جديدا يزهو بألوانه المتعدّدة، تسطع الشمس فيه، وتكسو النباتات الخضراء ذلك الانحدار من التلّة الصخرية، لتطلب وضعه أمام صورتك حيث كنت تجلس وراء جهاز حاسوب، فهو لك أنت….

  وبالرغم من شوقها لك وتوقها لرؤيتك، تمضي وراء أحلامها الصغيرة، وشغفها بالقص، وحبّها للفن والموسيقى، وتقدّمها اللافت في الدراسة لتتمكن من القراءة بنفسها. فها أنا قد أهديت لك تلخيصا  لعام واحد من عمرها في يومك المميّز هذا، يكفيك لتبني عليه تخيلّك لما صارت عليه وقد أتمّت عامها الحادي عشر نهاية العام المنصرم، فيسهُل عليك قياس ما آل إليه حال أختها. فهما ابنتا الحياة … “فرحها” و”زينها” .

 فهنيئا لك في يومك هذا محبة نثرت، وصوراً زاهية أبقيت، وأشجارا زرعت فتميّزت بعطائها. وهنيئا لنا عيشنا فيها معك أنت…

             ” فأنت لن تكون إلاّ كما كنت، ولن تكون إلاّ كما كنت أنت”.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *