(ثقافات)
رائحة الضجر”: تغريبة مشرقية – أطلسية في رواية جديدة لممدوح الشيخ
صدرت حديثًا في القاهرة رواية الكاتب المصري ممدوح الشيخ: “رائحة الضجر”، وهي الرابعة في مشروعه الروائي بعد: “القاهرة … بيروت… باريس” (2005)، و”الممر إلى السماء” (2019)، و”جبل الدهشة” (2023). وتحكي الرواية تغريبة الدكتورة غادة الرشيدي ابنة المدينة الصغيرة ذات المزاج الريفي من مصر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ثم إلى ألمانيا.
وتدور أحداث الرواية في ليلة واحدة في مكان واحد: غرفتها في بيت العائلة. ومن خلال تقنية الفلاش باك تستعرض الدكتورة غادة، في ليلة حزينة متوترة، ذكريات الصبا والغربة والطموح والحب، فضلًا عن صدمة اللقاء مع الحضارة الغربية. وخلال صفحات الرواية، تظهر وتختفي وجوه بينها شخصيات حقيقية مثل: الصيدلانية المصرية الدكتورة مروة الشربيني التي اغتالها متطرف يميني منذ سنوات في ألمانيا، والسيدة درية محمد علي عوني (الشهيرة بدرية عوني)، وهي إعلامية مصرية من أصول كردية، كان والدها أحد أهم المفكرين والمؤرخين الأكراد في العصر الحديث، وتولى منصب مدير الأرشيفات الملكية في قصر الملك فؤاد.
في صحبة “العزلة”
الرواية سيرة إنسانية (موازية) للمجتمع المصري وتحولات الحياة في المدن الصغيرة، وهو ما تصفه الرواية بالقول: “تَغَيُّرٌ ثقيل الوطأة ظل يزحف بلا رحمة على عالمها، كسفاح فاقد البصر لا يعبأ بحياة ضحاياه، ولا بحرمة أجسادهم بعد موتهم. تَغَيُّرٌ لم تكد تدركه بهذا الوضوح إلا عندما تجسدت أمام عينيها حقيقة “الحساب الختامي” لمشوار العمر. فقد أدركت الآن أن ما زحف على خضرة عالمها القروي المتآكلة، الأرض والأفق معًا، اجتاح بالقسوة نفسها خضرة عودها الذي كان غضًّا. بين جدران غرفة العزلة رأت غادة عمرها يقل اخضرارًا في كل عام عن سابقه، فالغربة بقدر ما تعطي المظهر الخارجي بهاءً ورونقًا، تنسل من بين أصابع المغترب نضرة الروح، وتشحب الذكريات، وترفع أشواك الواقع راياتها في وجه الحلم الذي كان فتيًّا جامحًا، وانحنى ظهره رويدًا رويدًا”.
والوقائع التي يحدها مكان واحد (غرفة الدكتورة غادة)، وساعات محدودة (ليلة العودة من الغربة) تدور حول الصديقة الأقرب لبطلة الرواية: العزلة: “مكتفيةً بضوءٍ قليلٍ يتسرب من النافذة المتربة نصف المغلقة، كان باديًا على جلستها خلف نافذة حجرتها أنها تريد صديقتها المقربة: العزلة”.
للمطارات رهبة
في استحضار لما أصبح يعانيه العرب والمسلمون في مطارات كثيرة في العالم بسبب ملامحهم أو شارات هويتهم أصبحت “المطارات” عدوًا للدكتوة غادة الرشيدي: “تجربة العزلة الأكثر قسوة في حياة الدكتورة غادة كانت تجربة مبكرة وقصيرة وحارقة … دقائق معدودة قضتها في غرفة ضابط الجوازات بمطار نيويورك الدولي كانت كـ “اللسعة” التي لم يختف أثرها أبدًا من الذاكرة … استجوابٌ سريعٌ وتَفقُّد، بسيط لأمتعتها، وانتظار اكتشفت لاحقًا أنه كان قصيرًا، تكفلت جميعًا بحبس أنفاسها. تجربة أصبحت بعدها تردد دائمًا أن: “للمطارات رهبة”. وهذا إحساس لم تستطع التخلص منه بعد عشرات السفرات. كانت تنظر إلى السيارات من فوق سطح بيت أبيها وهي تمر مسرعةً في الطريق الزراعي متجهة إلى القاهرة، بإحساس غامر بالإثارة، بينما كانت تنظر إلى الطائرات بخوف مجهول المصدر. صحيح أنها، بعد وقت ليس بالقليل، استطاعت الانتصار على الملل في الرحلات الطويلة، بتراكم الخبرات والذكريات معًا، لكنها أبدًا لم تألف المطارات. كان الهبوط الأول في مطار نيويورك مزيجًا ربما تعجز اللغة عن وصفه ..”
ومن الخوف في بداية التغريبة إلى الخوف في نهايتها: “في صالة الوصول بمطار القاهرة، في عودتها الأخيرة، تملكت غادة في رحلة عودتها المفاجئة الرهبة نفسها التي استشعرتها في مطار نيويورك قبل سنوات في مرة الوصول الأولى، كانت ترتجف كالمحموم وتتكلم بالكاد وتتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعها. لم يكن في مطار القاهرة هذه المرة مودة صديقتها اليمنية البشوش فاطمة ولا مرحها … فقط رجال أمن متجهمون، وعمال انتهازيون يكادون يسرقونها بالإكراه. كل الترتيبات التي كانت تجعل رحلتها السنوية إلى مصر بلا منغصات، مفقودة هذه المرة، وتصاعدت وطأة أحاسيس الضآلة والانزلاق إلى مجهول التي اعتصرتها في مطار نيويورك إلى حد العقدة النفسية، وتجسدت لتحاصرها … وكأنها تخضع لجراحة لبتر أحد أطرافها دون تخدير، بل دون أن تستعين حتى بحقنة مُسكـِّن!”
كبسة زر
أحد الملامح المميزة للرواية غير قليل من التحليل الثقافي للشخصية المصرية في الوطن والمهجر: “كانت غادة في يومها الأول في غرفتها بسكنها الطلابي، بعد ساعات من النوم العميق، تتأرجح بين الاطمئنان والترقب.
“ما سر تعلق المصريين بسورة يوسف عليه الصلاة والسلام أكثر من غيرها من سور القرآن يا غادة” … سألتها السيدة سارة عندما زارتها للمرة الأولى في غرفتها.
كانت أمسية استكشفت فيها غادة عالم هذه السيدة التي تخفي بساطتها الكثير. مدت غادة يدها بالمشروب الساخن لضيفتها، وابتسامتها لا تخفي حقيقة أنها بدت مرتبكة، كانت تخشى أن يكون السؤال جزءًا من اختبار لم تستعد له. وجلست بهدوء وهي تبحث عن بداية مناسبة لتجيب. وبخبرة سنوات من العمل مع طالبات مغتربات، أردفت السيدة سارة: “اطمئني … هذا ليس اختبارًا … فقط لاحظت هذه الملاحظة من بعض الخبرات الشخصية، وقرأت بعد ذلك أن دراسات تؤكد ذلك فعلًا”.
بعد تفكير سريع قالت غادة: “المصريون، بشكل عام، لديهم إحساس جارف بأنهم عظماء وفي الوقت نفسه، مظلومون، وهكذا كان النبي يوسف عليه السلام، ومن المؤكد أن حضرتك تعرفين أن الاعتزاز بعراقة التاريخ المصري جزء من تكوين معظم المصريين، وسيرة سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام فيها هذا المعنى بوضوح … وربما لهذا السبب يشعرون أنها تمسهم”. وأضافت السيدة سارة، وهي تضع أمام غادة كوبها الفارغ ممتنة: “أرجح أن صورة “امرأة العزيز” في قصة نبي الله يوسف أكثر تأثيرًا فيهم من سيرة يوسف عليه السلام نفسه … صورة المرأة اللعوب التي تغوي الرجال، وتكيد لمنافِساتها من النساء، وتخدع زوجها … هذه فكرة مسيطرة على كثير من الذكور، وبالذات في الثقافة الشعبية”. وابتسمت غادة وهي ترشف القهوة هربًا من التعليق … فالتفسير أصاب في مقتل …”نعم … صورة المرأة في الثقافة السائدة عندنا فيها عداء مستتر … غير معلن، لكنه عميق”. وقد يكون هذا الحوار نفسه اختبارًا … فالمرأة الشرقية وحريتها وقمعها موضوع مفضل هنا!!!”
وتنتهي الرواية بصدمة أن الدكتورة غادة الرشيدي بعد تغريبة طويلة بين جانبي الأطلنطي (أمريكا – ألمانيا)، وبعد نجاح أكاديمي ومهني كبير، وبعد أن ضحت بحلم تكوين أسرة، فقدت كل ثروتها في جريمة قرصنة إليكترونية وعادت إلى مصر فجأة، لتتأمل “كشف حساب التغريبة”.
الكتاب: رائحة الضجر.
رواية
المؤلف: ممدوح الشيخ
الناشر: دار البشير للعلوم والثقافة – مصر.
سنة النشر: 2023.
الحجم: 136 صفحة.